في نهاية عام وبداية عام جديد، الأحرى بالإنسان أن يقف مع نفسه وقفة جدّية للمحاسبة الصّادقة، وأن يُقدِم على توبة نصوح ورجعة صادقة يغسل بها ما مضى ويستقبل بها ما هو آت. قال الله سبحانه وتعالى: {وتوبوا إلى الله جميعًا أيُّها المؤمنون لعلّكم تُفلِحون}، وقال تعالى: {وإنّي لغفّار لمَن تاب وآمن}.
إنّ محاسبة النّفس أمر عسير، لكنّه يسير لمَن يسّره الله لذلك، وهناك أمور تعين العبد على محاسبة النّفس، ومن أبرزها وأهمّها استشعار رقابة الله على العبد واطّلاعه على خطاياه، فإذا علم العبد ذلك استيقظ من غفلته وقام من رقاده، وقويت إرادته على محاسبة نفسه ومجاهدتها، وكذلك معرفة العبد أنّه كلّما اجتهد في محاسبة نفسه اليوم استراح من ذلك غدًا، وكلّما أهملها اليوم اشتدّ عليه الحساب غدًا، دون أن تنسى النّظر في سيرة المصطفى صلّى الله عليه وسلّم وصحابته رضوان الله عنهم، ومعرفة أخبار وسير أهل المحاسبة، والمراقبة في سلفنا الصّالح.
كما إنّ سلفنا الصّالح شدّدوا على زيارة القبور، والتأمّل في أحوال الموتى الّذين لا يستطيعون محاسبة أنفسهم أو تدارك ما فاتهم، وكذا حضور مجالس العلم والوعظ والتذكير، فإنّها تدعو إلى محاسبة النّفس. وقيام اللّيل، وقراءة القرآن بتدبّر وخشوع، وحضور قلب، والتقرّب إلى الله تعالى بأنواع الطاعات. والبُعد عن أماكن اللّهو والغفلة والمجون والعربدة، فإنّها تُنسي الإنسان محاسبة نفسه. وكذلك ذِكْرُ الله تعالى ودعاؤه بأن يجعلك من أهل المحاسبة والمراقبة. وتكون محاسبة النّفس على هذا النّحو الّذي ذكره الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: البدء بالفرائض، فإذا رأى فيها نقصًا تداركه. ثمّ المناهي، فإذا عرف أنّه ارتكب منها شيئًا تداركه بالتوبة والاستغفار، والحسنات الماحية. ثمّ محاسبة النّفس على الغفلة، ويتدارك ذلك بالذِّكْر والإقبال على الله جلّ جلاله. ومحاسبة النّفس على حركات الجوارح من كلام اللّسان ومشي الرجلين، وبطش اليدين، ونظر العينين، وسماع الأذنين، وغيرها، ماذا أردت بهذا؟ ولمَن فعلت؟ وعلى أيّ وجه فعلته؟ وإنّ مَن التزم بما سبق فإنّه، وبفضل الله، لا يعدم أن يجني ثمار تلك المحاسبة، سواء في الدنيا أو في الآخرة. وفوائد محاسبة النّفس كثيرة جدًّا، منها على سبيل المثال، لا الحصر: الاطّلاع على عيوب النّفس وآفاتها، ومن لم يطّلع على عيوب نفسه لا يمكنه إزالتها. والتوبة والندم وتدارك ما فات في زمن الإمكان. ومعرفة حقّ الله تعالى، فإنّ أصل محاسبة النّفس هو محاسبتها على تفريطها في حقّ الله تعالى. وانكسار العبد وزلّته بين يدي ربّه تبارك وتعالى. ومعرفة كرم الله تعالى وعفوه ورحمته بعباده في أنّه لم يُعجّل عقوبتهم، مع ما هم عليه من المعاصي والمخالفات. ومقت النّفس والإزراء عليها، والتخلّص من العجب والرياء والسّمعة. والاجتهاد في الطّاعة وترك العصيان لتسهل عليه المحاسبة فيما بعد. وردّ الحقوق إلى أهلها وسلّ السخائم، وحسن الخلق، وهذه من أعظم محاسبة النّفس.