مع سلسلة هكذا ..لنتعلم اليكم هذا الموضوع
الأستبدادية
الاستبداد لغة: التفرد بالشيء، والغَلَبَة،والمستبدَ هو الذي ينفرد برأيه فيما تنبغي المشورة فيه. لكن تعبير الاستبدادية despotism انصرف مع مألوف الاستعمال إلى نعت من نعوت الحكم المطلق المشوب بالظلم الذي لا يرعى فيه القائمون عليه وازعاً أخلاقياً أو قيوداً قانونية، ويتبع المستبد أو المستبدون الأهواء الخاصة بدلاً من تحكيم مقتضيات المصلحة العامة. ويتبع ذلك أن يخلو حكم المستبد من أجهزة الرقابة على الحكم ومحاسبته أو أن تكون هذه الأجهزة معطلة بالفعل.
أما في أصول اليونانية فلم يكن اصطلاح despotes ليتضمن حتماً معاني الظلم والتفرد الأرعن بالرأي، بل كانت كلمة المستبد تعني سيّد البيت أو رئيس الجماعة، وأطلق أباطرة بيزنطة هذا الاسم على من كانوا يولّونهم من أبنائهم وأصهارهم حكّاماً لمقاطعات الامبراطورية. ويعزى في هذا الصدد إلى آليكسيوس الثالث آنجلوس البيزنطي الذي حكم من سنة 1195 إلى 1205م، إدخال هذا اللقب في مفردات تسلسل السلطة، وإضفاء رتبة عليه تأتي مباشرة بعد رتبة الامبراطور نفسه. ثم تطور مصطلح الاستبدادية فلازمته صفة التعسف والافتقار إلى الشرعية فأصبح يشير إلى نظام لا يستند إلى تقليد متبع أو أعراف وراثية، أو دستور مبرم، ويميل فيه القائمون عليه إلى الظلم والتحلل من القيود. وهذا ما حدا بأرسطو أن ينعته بأنه أسوأ أنظمة الحكم وأكثرها فساداً يدور فيه اهتمام الحاكم حول تأمين رفاهيته الشخصية من دون المصلحة العامة.
الاستبدادية والاصطلاحات المقاربة
الاستبداد قد يصبح المظهر الأبرز في نظام الدكتاتورية وتصرّف الدكتاتورـ والدكتاتورية اصطلاح لاتيني يعني الفرد الذي اقتنص السلطة وأملى إرادته على الجميع، ويتجسد معناه بظهور حاكم يعطى سلطة ممتدة خارجة عن حدود المألوف في أحوال طارئة ولمدة محددة يقتضيها تدارك هذه الأحوال بالعلاج، على أن هذا الاصطلاح قد تطور هو أيضاً فأصبح يدل على تركز السلطة في شخص واحد في أثر ثورة أو انقلاب أو نجاح هذا الشخص في إزاحة مزاحميه عن دائرة النفوذ والسيطرة، وعدم اشتراط وجود أحوال طارئة أو مدة مؤقتة لحكمه. وللديكتاتورية أشكال وأسباب يتداخل الاستبداد في ثناياها من دون أن يكون مرادفاً مطابقاً لها.
كذلك تعبير الكُلِّيانية totalitarianism فإن الاستبدادية قد تتجلى في مظاهرها من دون أن تكون مرادفاً تاماً لها، فالكليانية إنما تطلق في مدلولها على حكم يُخضع كل المنظمات رسمية كانت أم شعبية لهيمنة الدولة، مع تبديد لروح المعارضة، واستعمال مفرط للرقابة والدعاية، وإشاعةٍ لعبادة الشخصية، واستخدام للإرهاب في سبيل إحكام السيطرة التامة على شؤون الأمة وتسيير اقتصادها وسياستها وثقافتها في وجهة مفروضة شاملة لا تجوّز الانحراف عنها.
ويختلف كل من الدكتاتورية والكليانية عن الملكية المطلقة. فالاستبدادية قد تطبع بطابعها تصرفات الملك المطلق من دون أن تكون محتوية لكل معانيها وفروقها. والحق أن الملكية المطلقة على ما في دعاواها في الحق الإلهي والوراثة من محتوى يقوم على الوهم، أو فرض أمر واقع بالقوة، لم تكن، بسبب التراكيب الاجتماعية التي تضع الكثير من قيود السلطة المكتوبة أو المتعارف عليها، مطلقة الحرية تماماً فيما تفعل، ولا مستأثرة لنفسها حصراً بتسيير حياة الأمة وفق مخطط موضوع. وكانت تُراوح بين مواجهة مصالح الأرستقراطية وطبقة الإكليروس وبين التفاهم معها وتَشَاطُرِ السيطرة والنفوذ والامتيازات على حساب العامة. فالاستبدادية لون من التصرف قد تتلّون به هذه الأنظمة وأمثالها أكثر من كونها نظاماً قائماً بنفسه جعل له الواقع التاريخي ملامح خاصة بيِّنة وأساليب متبعة دارجة. وأكثر ما يتجلّى هذا اللون التعسفي للاستبدادية في الاستعمار وما يحمله من غزو بالقوة وإملاء لشروط الفاتحين، وتسخير للمستعمرات وأهلها ومواردها لمدّ سيطرة الدول الاستعمارية سياسياً واقتصادياً واستراتيجياً مع استلاب حق تقرير المصير لسكانها الأصليين.
الأبعاد النظرية والفكرية للاستبدادية
كتب الكثيرون من العرب قديماً وحديثاً في الاستبدادية أو حولها، فمن المعاصرين كتب خير الدين باشا التونسي، وأحمد فارس الشدياق، وسليم البستاني. لكن عبد الرحمن الكواكبي (1849-1902) هو الذي أورد في مؤلّفه «طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد» ما يشبه نظرية متكاملة عن حكم الاستبداد، وقد جاء الكتاب جمعاً لمقالات كان ينشرها الكاتب باسم مستعار، وهو تارةً الرّحالة ك، أو الكاتب الفراتي، خشية أن يلاحق وتحتجز حريته على أيدي السلطات العثمانية عقاباً على نشره آراءه.
وجعل الكواكبي الاستبداد من أهم مباحث السياسة وعرّفه بأنه «التصرف في الشؤون المشتركة بمقتضى الهوى» سواء كان التصرف صادراً عن فرد أو جمع «في حقوق قوم بلا خوف ولا تبعة». لذلك أمكن إطلاق صفة الاستبداد على «الحكومات المطلقة التي لا تتصرف بموجب شريعة أو وفقاً لإرادة الأمة»، أو أنها تملك من النفوذ والسيطرة ما تبطل معه قيود الرقابة والمحاسبة. ومن السهل ملاحظة العناصر التي يوردها الكاتب لإغناء تعريف الاستبداد، كإمكان صدوره عن فرد أو عن «جمع» مشيراً بذلك إلى استبداد المجموعات التي تستأثر بالحكم وتقمع المعارضة كالحزب الواحد، أو المجالس الثورية أو العسكرية، وكإشارته إلى غياب التعبير عن إرادة الأمة في الحكم الاستبدادي، وتعطيل أجهزة الرقابة والمحاسبة كالمجالس التمثيلية المنتخبة انتخاباً حراً، والمحاكم الدستورية والقضائية المستقلة المتمتعة بالحصانة، وخلص من ذلك إلى ملاحظة أن ما يساعد على قيام حكم الاستبداد هو «جهل الأمة» وامتلاك القائمين على الحكم لأداة القمع من «الجنود المنظمة»، واستغلالهم العواطف الدينية، ومقولة التسليم بالقضاء والقدر، ليحرّفوها عن مغزاها الأصلي، ويثبتوا بفضل الدعاية القائمة على الباطل، في روع أفراد الأمة، أن الحكم الذي يرزحون تحت ثقله هو من إرادة الله، وينصرف همّ المستبدين إلى محاربة انتشار العلم، لأن «العلم يوسع الأذهان، ويبدد الأوهام، ويعرّف الإنسان بمكانته وحقوقه» مما ينبّه جمهور الأمة للمطالبة بهذه الحقوق والدفاع عن حرمتها.
ويرد الكواكبي على القائلين إن الشرق مريض لفقد التمسك بالدين، فيعزو المرض إلى الاستبداد الذي هو مصدر التهاون في الدين الحق، وتحريفه عن مهمته الأخلاقية الإصلاحية، «فالمفتقد حقاً هو الحرية السياسية».
ثم يدعو إلى وجوب مناهضة الاستبداد مستبعداً وسائل العنف خشية تشتت الأمة وانقسامها إلى فرق وشيع، أي يدعو إلى الإصلاح التدريجي لما فسد في العقيدة وفي أساليب الحكم، والتربية، ولا يجد طريقاً إلى النهوض من العثار إلا في «الترقي» ويقصد به الأخذ بأسباب الحضارة والتقدم الإنساني والعلمي.
وهو وإن كان يعني في بحثه استبداد الامبراطورية العثمانية في البلاد التي فرضت سيطرتها عليها بالقوة، فإن نظرته إلى الاستبدادية تتصف بنوع من الشمول، وفيها أصداء لما كتب في الغرب عن الاستبداد، ولها هي بحد ذاتها أصداء في الفكر العالمي.
أما عن الشرق عامة، الآسيوي والروسي، فيذهب كارل آ.ووتيفوغل Karl A.Wittfogel المؤلف الألماني لكتاب «الاستبداد الشرقي» (الترجمة الإنكليزية) إلى أن مظاهر الاستبداد في هذا المجال القاري الواسع إنما تُعزى إلى كون غالبية المجتمع الشرقي القديم قد قامت في الأصل على حضارة الريّ والتنظيم المائي hydraulic للمساحات الشاسعة من هذه الأراضي التي يجب إرواؤها لإنتاج الأغذية لهذه المجموعات الكبيرة من البشر، مما يتعذر على الجهد الفردي أداؤه، فيحتاج بذلك إلى تركز للسلطة الفاعلة في يد حكام أقوياء، ما يلبث أن يغريهم صَلَفُ السلطة بممارسة الاستبداد. ويفسّر ووتيفوغل كيف تنشأ في هذا المعرض بيروقراطية طيّعة للمستبدين، ولكنها جائرة على حقوق العامة، مندفعة وراء مصالح مكتسبة تكوّنها لطبقتها، وتنمو عندها القوة والتحكم في التملك والاستثمار وفرض الأتاوى غير متعففة عن ارتكاب المظالم بحق سواد الشعوب. وقد كان من أهم مظاهرها البعيدة عن الإنسانية عبودية عمال الأرض sezfdom والسخرة.
على أن بعضاً من مثل هذه الظواهر والتراكيب الاجتماعية لم تخل منها كل من رومة واليونان في العهد القديم، لارتباطها بحسب أطروحة ووتيفوغل بالنظام الاقتصادي السائد في أي عصر ومصر.
تأثيرات الفلسفة السياسية في واقع الاستبدادية
إن فكرة الحاجة إلى مثل هذه السلطة القادرة على فرض التنمية والتقدم من علٍ لا من سواد المراتب الدنيا للجماهير الشعبية ـ حين لم تكن الثقافة قد انتشرت بعد في أوساط العامة من الشعوب ـ هي التي كانت وراء فلسفة مايقال له بالعربية «المستبد العادل» وبالفرنسية: despotisme éclairé أي الاستبداد المستنير بعصر التنوير وهو الفلسفة التي لونت الفكر الأوربي في القرن الثامن عشر، وإن الاصطلاح بالإنكليزية denevolent despotism إنما يبرز ما يمكن أن يؤديه المستبد، على استبداده، من منافع وخدمات وإصلاحات إذا أخلص النية والعمل الصالح لرعيته.
تعزى صيغة «الاستبداد المستنير» أو «الحكم المطلق المستنير» إلى مؤرخين ألمان شهدوا قيام نوع من أنواع الحكم، يستند إلى فلسفة وواقع معاً، فلسفة تنشد في الحكم السلطة القادرة على القيام بإصلاح المجتمعات، وواقع يشير إلى إمكان هذا الحكم بالفعل. وقد نجح هذا النموذج من نماذج الحكم في النصف الثاني من القرن الثامن عشر فكان تكييفاً للملكيات المطلقة التي سادت في القرون الوسطى وبدء القرون الحديثة مع الروح الأوربية الجديدة التي بثها عهد التنوّر Enlightenment والتي تتخذ أركاناً لها الفرد، والعقل، والطبيعة، والتقدم، والسعادة. فقد ابتدع فيزيوقراطيّو القرن الثامن عشر المؤمنون بالنظام الطبيعي، وتوافق المصالح الخاصة مع المصلحة العامة، اصطلاح «الاستبداد القانوني» laegal despotism على ما يبدو فيه من تناقض، بين الاستبداد الذي لا يعرف قانوناً وبين حكم القانون، وذلك من أجل الدلالة على أن الحاجة ماسة لقيام حاكم مطلق الصلاحية لا يمكنه بدافع مصلحته الخاصة نفسها وهي ديمومة حكمه تبعاً لقدرته الإصلاحية إلا أن يكون أميناً على المصلحة العامة في الوقت نفسه. فالحاكم أو الملك «المستنير» إنما يضع وسائل الدولة في خدمة المجتمع على أساس العقل. ويجب أن يكون مستبداً ليكون قادراً على إنفاذ أسباب النهضة التي يقتضيها تحقيق التقدم، لأن سواد المحكومين لم يكونوا على درجة كافية من العلم أو «التنوّر» كي يفرضوا التقدم من الأدنى على الأعلى، في مراتب الهرم الاجتماعي، من رجل الشارع إلى طبقة الحاكمين. فالعبرة ليست في تهديم السلطة المطلقة بل في تحويلها conversion أو هدايتها إلى الصّلاح: كتجديد للقوانين، وتحسين لإجراءات الإدارة والإنصاف، ومكافحة لسوء الاستعمال. إن هذه السلطة نوع من وصاية القلة على الأكثرية لا يفلح بممارستها بنجاح إلا أشخاص خارجون على المألوف بقوة شخصيتهم وقدراتهم العقلية والسياسية والإدارية.
نماذج «الاستبداد المستنير»
يضرب المثل النموذجي للمستبد المستنير بحكم فريدريك الثاني، الملقب بالكبير، ملك بروسية، الذي دام حكمه من سنة 1740 إلى سنة 1786 فكان يعد نفسه «الخادم الأول» للدولة، يجب عليه تقديم الحسابات لرعاياه، شعاره العمل الدائب، وتتضافر في شخصيته الكادحة إدارة الأمور الداخلية والمالية والخارجية والعسكرية، لتثبيت شخصية الدولة ونماء قوتها. فلا بد له من شمول النظرة والاطلاع على كل شيء مثبتاً كلمته في كل قرار مهم، محتفظاً بكرامة المنصب وكرم الطبع، مستهدفاً النجوع في خدمته الدولة، فالعمل الناجع هو محك النجاح.
وقد حلّت هذه النظرة محل الملكيات القديمة التي تستمد شرعيتها من الحق الإلهي وما ينتج عن ذلك من عصمة الملوك عن الخطأ لأنهم يستمدون إرادتهم من إرادة الله، واطّرحت التعصب الديني والمذهبي داعية إلى احترام كل العبادات، لأن الرابطة التي تجمع رعايا الوطن هي الوطنية قبل كل شيء، والحرب الأهلية التي يثيرها التعصب إجرام بحق الوطن، يجب على الملك إطفاء فتيلها قبل الانفجار.
وليس «للاستبداد المستنير» نموذج واحد، فلقد تعاقب الأباطرة والملوك في القرن الثامن عشر، ككاثرين الثانية في روسية، التي حكمت بين سنتي 1762و 1796، وجوزيف الثاني امبراطور النمسة، وغوستاف الثالث ملك السويد، وشارل الثالث ملك إسبانية، وشارل إيمانويل الثالث ملك سافوي، وغيرهم على الحكم في البلاد الأوربية، فاختلفت ملامح الاستبداد المستنير باختلاف الحاكم والأحوال التي عاشها، وتطورت هذه الملامح مع اقتراب الثورة الفرنسية سنة 1789.
لقد كانت كاثرين الثانية حريصة على الإصلاحات مع إقرارها بأن الواقع كثيراً مايحدّ من همم الإصلاح. وكانت تعتمد في فلسفتها السياسية على الفلاسفة والكتّاب الفرنسيين أمثال دالامبير، وفولتير، وديدرو، لاستلهام كتاباتهم، ولإغرائهم بالإشادة بمآثرها. إلا أنها مع إدخال بعض الإصلاحات الإدارية والقضائية والمالية، وبذلها بعض الجهد من أجل نشر التعليم وترقية مستواه، كانت تؤثر طبقة النبلاء، وتقوّي من انتشار الخدم في نظام كالعبودية يحرمهم الحقوق، وتقف في تشجيع التعليم عند أول عائق مالي حتى أُثر عنها قولها المشهور لخليلها «بوتمكين»: «إذا أكثر رعاياي من التعلم، فلا أنت ولا أنا نبقى في مكاننا». لهذا كان تصنيف كاثرين الثانية في نموذج الحكم ذي النوايا الإصلاحية ضمن حدود الواقع. أما نموذج جوزيف الثاني فمتقدم على الاثنين، إذ يريد من «الفلسفة أن تكون شريعة امبراطوريته» وأن يقضي على التعصب الديني ويحرّر العقول من هيمنة الكهنوت ولو أنه يحترم كرسي البابوية، وهو لا يمنع منشقّاً حرية التعبير، ويلغي من الشعائر الدينية الوساوس والأوهام. ومع أنه وصف الدولة بأنها «آلة يجب أن تسير على رغبته». فإنه نهض بالتشريع والإدارة والتعليم، ومع حبه لرعاياه، كان حزنه الأكبر أنه لم يستطع جعلهم جميعاً يتمكنون من التمتع بالسعادة الكاملة.
الثورة الفرنسية وردة الفعل
جاءت الثورة الفرنسية سنة 1789 مطالبة بحكم الشعب وبحقوق الإنسان، وبالحرية والإخاء والمساواة، فتحالف ملوك أوربة آنئذ مع النبلاء ومع رومة ورجال الدين ضدها كأنها عدو مشترك. وكان كلما ازداد الرأي العام مطالبة بالحقوق ازدادوا ضيقاً به وتعسفاً. غير أن الثورة لم تعدم قيام المستبدين أمثال روبسبير، وقد قيل عن نابليون الأول نفسه أنه في فصيلة المستبدين لأن استيلاءه على الحكم لم يصطبغ بالشرعية المألوفة، ولكنه مستبد احتفظ بقدر من الاستنارة وتدل على ذلك أعماله الإصلاحية، كسّن القانون المدني، وبناء مؤسسات الدولة الحديثة.
ومع تقدم فكرة الدولة أصبحت الطبقة الحاكمة تطالب بولاء الجميع للدولة على أنه واجب أساسي يلتزم به المواطن، وقد ناهض ملوك أوربة في بعض الأحيان طبقة الأرستقراطية وحرروا مؤسسات الدولة من الأطر التقليدية لنفوذ النبلاء ، وكافحوا الإقليمية واستئثار الأسر الكبرى بالسيطرة في الأقاليم، لكنهم قصّروا في ميدان المجتمع في إقامة المساواة الاجتماعية الحقة بين جميع طبقات المواطنين. فأدى نمو الدولة إلى تركز السلطة لتشجيع الصناعة وحماية المنتجات الوطنية، وتوجيه الإنتاج القومي لحاجات الجيش وتأسيس المصانع والمصارف وإقامة العدل على أسس أكثر إنسانية كإلغاء الرقّ والعبودية والتعذيب. لكن الإفراط في عدّ الدولة فوق الجميع، قاد في القرن العشرين إلى أنواع جديدة من الاستبداد ـ رافقت في الواقع التاريخي حكم الديمقراطيات ـ تجلت في قيام أحزاب وحيدة في عدد من البلاد (روسية، وألمانية، وإيطالية) وتركيز مرافق الدولة كلها في يد الحزب الوحيد الحاكم وظهور دكتاتوريات جديدة تمارس الاستبداد كدكتاتورية ستالين وهتلر وموسوليني. ولئن سارت هذه نحو الزوال، فإنّ طرازاً جديداً من الاستبدادية المستترة شق طريقاً له في العلاقات الدولية المعاصرة فلم تختف الاستبدادية من المسرح تماماً، بل أصبحت لها ملامحها وأساليبها المتقدمة باقتراف المظالم بحق الإنسان وبحقوق الشعوب الضعيفة.
رفيق جويجاتي