السلام عليكم
أبادر فأقول، وأنا مدرك أن جوابي سيكون مفاجأة لأدعياء الرجال المتظاهرين بالقوة والثبات، وهم كثيرون، نعم يبكون ويبكون ويبكون؛ لأنهم مؤمنون أتقياء ويبكون لأنهم أقوياء، ويبكون لأنهم أوفياء ويبكون حين يستبد بهم الحنين إلى الوطن ويبكون أيضاً حين يستبد بهم الحنين إلى سن الشيخوخة والكبر.
وبكاء هؤلاء جميعاً من الرجال ليس بكاءً بالمعنى الذي يظنه الكثيرون، أولاً، لأنهم حين يبكون يزدادون إيماناً وقوة ووفاءً وحنيناً، يبكون لأنهم ينتقلون حتماً من مراحل الضعف والانكسار إلى مراحل من القوة والمنعة والصمود أمام كل ما ينتابهم في حياتهم من هموم وآلام وأهوال، وهم حين يبكون، لا يبكون أمام الآخرين وإنما تبكي قلوبهم لا عيونهم، دمعهم ليس الدمع المعهود، وإنما دموعهم قطرات من الدم تطفح بها قلوبهم فتغسلهم وتطهرهم وتنقيهم.
يبكي الرجال لأن هممهم عالية، وإرادتهم صلبة، ولأنهم يستشعرون حساسية زائدة زيف بعض مظاهر الحياة من حولهم، ويبكون من خيبة أملهم في من كانوا يظنونهم أفضل مما آل إليه بعض الناس من حولهم بعد أن جربوهم وامتحنوهم فتأكدوا أنهم هواء.
لا يظنن ظان أن ما سطرته في هذا المقام أنني أصدر فيه عن لحظة ضعف أو يأس أو انهزام، كلا وألف كلا، بل أكتبه لأنني اكتشفت أنني أشعر أنني أزداد قوة وصلابة بعد الذي قلت، وأنا لا أتهيب في أن أعلنه أمام القراء لأنني صادق فيما أصدر عنه من أفكار ومشاعر. وأزيد فأقول إذا هذا البكاء الذي أتحدث عنه يشكل مظهراً إيجابياً وعلامة عافية وصحة، ورغبة في إدراك معاني الرجولة فأنا أصرح بأنني من أنصار هذا البكاء والداعين له، وليتقول بعد ذلك أدعياء الرجولة والمتظاهرون بالقوة ما يشاءون، وليحاولوا أن يمنعوا في ادعاءاتهم ما يشاءون، نعم للبكاء صانع القوة والصلابة والرجولة، ولا وألف لا للتمسك الكاذب بالرجولة الهشة والعظمة الخاوية.
قال المتنبي:
كفا بك داء أن ترى الموت شافيـاً ... وحسب المنايـا أن يكـنّ أمانيـا
تمنـيتــــها لمـا تمـنيـت أن تــــرى... صديقاً فأعيـا أو عـدواً مداجيـاً
خلقتُ ألـوفاً لو رجــــعـت إلى الصبا ... لفارقت شيبي موجـع القلـب باكياً
منقول من (عالم الرومانسية)