طارق الاعسم
رحلتي في بلاد العمائم مذكراتي في الاسر 1982-1990 الحلقة الثالثة
حفل الاعدام
طرت في الهواء وعيناي لاتصدقان انني بجسمي الضخم من الممكن ان ارتفع لارى سقف (اللاندكروزر).....صلية دوشكا اصابت قدماي من الخلف عندما كنت معلّقآ مع خيوط الفجر الاولى في السيارة الاخيرة الباقية في فوج المشاة المتقدم(الفوج الثاني في اللواء المدرّع 53)في الطاهري والتي تركها الآمر عامدا وانسحب بسيارة (واز) روسية عتيقة في حيلة انطلت علينا ودهشنا لها, أذ ليس من المعقول ان يعمد من يحاول الهرب من معركة مميتة شرسة الى ركوب سيارة عتيقة ويترك سيارة يابانية حديثة ك(اللاندكروزر)وهوآمر الوحدة وله الحق في الاختيار.!!!.
طبعآ بعد فوات الاوان عرفنا السبب ,فآمر الفوج لم يرد ان يلفت انتباه الايرانيين الذين اطبقوا كالكماشة على المنطقة مع خيوط الفجرالاولى ,فحين ستحاول سيارتانا اختراق الطوق الايراني فأن تركيز الايرانيين سيكون على السيارة الحديثة الفخمة حتما باعتبارها سيارة القائد وسيعدّونها صيدا ثمينآ وحينها ستكون للسيارة الروسية العتيقة فرصة اكبر للنجاة,,وهو ماحصل فعلآ.
ستة عشر بين جندي وضابط حشرنا اجسادنا في اللاندكروزر,وبسرعة جنونية رحنا نتّبع خطى سيّارة الآمر(وفي حالة الرعب التي تملّكتنا فقد نذرنا الثروة الحيوانية للقطر من الخراف للقبج مرورا بالحمير!! )وفجأة افزعتنا صلية دوشكا لمدرّعة ايرانية ركّزت نيرانها على سيارتنا فيما افلتت سيارة الآمر في غبار المعركة**هامش (علمت بعد سنوات ان سائق الآمر الماهر محمد المصلاوي قد دخل وسط رتل ايراني فعمد لتخفيف سرعته واوهمهم انه جزء منهم حتّى افلت فجأة منهم.).
ولأنني كنت معلّقا في السيارة من خارجها من الخلف فقد كانت اصابتي اصابة مباشرة طرت من قوّتها امتارا في الهواء وحين سقطت كنت ضمن ستة جرحى كانت جروح اغلبهم طفيفة..اقترب منا الجنود الايرانيّون ووضعونا على الارض وورصّوا خلفنا باقي زملائنا السالمين المستسلمين كأننا فريق كرة قدم,وفوجئنا بالصلية الثانية من المدفع الرشاش المنصوب على المدرعة ومن الجنود الايرانيين رغم استسلام الجميع والغريب في الامر ان التركيز كان على السالمين الواقفين الذين استشهدوا جميعا فيما نجونا نحن الجرحى من حفل الاعدام الرهيب.
تعالى بين الايرانيين صراخ وشجارلم نفهمه ,تماوتنا رعبآ رغم ان الانين فضحنا ..اوقف الايرانيون سيارة حمل عسكرية(ايفا) وبداؤا بحملنا ورمينا فيها,,امر الايرانيون احد زملائي الجرحى (عبد الستّار)ان يساعدهم بحملي لسيارة الحمل وكان جرحه طفيف جدّآ,,فقفز الى السيارة وتركني فضربه احد الجنود بأخمس بندقيته على ظهره وحملني الايراني ورماني في حوض السيارة**هامش(بعد عودتنا من الأسر جاهد عبد الستارليصالحني وارسل وسطاء من زملائنا القدامى وسط رفض قاطع مني باستقباله رغم مجيئه من الرمادي لبغداد..رغم اني سامحت اناسآ عذّبوني وجلدوني في الاسر وتلك قصّة اخرى ستأتي في حينها).
توجّهت بنا سيارة الحمل نحو الاهواز تاركةجثث الشهداء العشرة ممرغة في التراب ,كانت جراحي تنزف بشدّة من كف قدمي اليسرى ومن سمّانة فخذي الايسر ومن اعلى الفخذ وكانت اقواها اصابتي في سمّانة قدمي حيث اقتطعت منها قطعة كبيرة بحجم كفّين مشبوكتين ,,انتابتني حالات اغماء لاأعرف كم استغرقت وفتحت عيني في احداها واذا بي فيما يشبه المشفى الميداني,وقد عمد المسعفون الى خلع ملابسنا (رب كما خلقتني )بقصّها بالمقص من الجوانب لانها ملتصقة بالدماء ويصعب نزعها بدت احدى المسعفات عصبية في كلامها مع جندي ايراني كان مشغولآ بانتزاع حزامي العسكري بقسوة رغم انّي كنت اتلوّى من شدّة الالم!!!.
هوية مزورة
بعد تضميد جراحنا ضمادآ اوّليّآ ,غطّوا اجسادنا العارية بشراشف بيضاء,,صحوت مرّة اخرى واذا بنا في باص كباص المدارس حوّرت مقاعده الى نقّالات يسير بنا في شوارع الاهواز ,وكان بجانبي (سعد عزيز التكريتي)عريف الصنف الكيمياوي في وحدتي العسكرية من اهالي الكاظميّة,وكان لقبه يخيف ضباط الوحدة الذين كانوا يظنّون انه من اقارب صدّام.**هامش (والحقيقة فأن شكله كان يشبه الى حد ما شكل صداّم وكانت فرصة ذهبية له ليستغل هذا التشابه فكان يقلّد لبس صدام للبيريّة ويجيب بغموض عن اي سؤال مباشر يوجّه له بخصوص صلة القرابة ,وزاد في دعم التصور بالقرابة المزعومة بصدّام ان شقيقه كان يشغل منصب مدير التفتيش العام في الجيش,وقام بتزويده بهويّة مزوّرة باعتباره ضابط في سرية قاذفات اللهب كان يستعملها سرّا في حجز غرف المنام الفاخرة في قطار بغداد-بصرة التي خصصت للضباط والشخصيات منذ اندلاع الحرب فكان ضبّاط الوحدة يرونه في اجازاتهم وهو يركب في غرف المنام ويعتبرون ذلك جزء من مزايا كونه من اقارب الرئيس!!!)
اصيب سعد في جبهته باطلاقة دوشكا حين كان معلّقآ معي في (اللاندكروزر)حين التفت ليرى مصدر النار التي اصابتني فقشطت اطلاقة الدوشكا جبهته ونجا من الموت باعجوبة.
صحوت من اغماءة صغيرة على صوت (سعد)وهو يهزّني بعنف من كتفي:طارق ...طارق.. الحكلي اخوي؟ كان مرعوبآ فقلت له :شبيك؟..فقال عندي مصيبة, لك هاي هوية ضابط سرية قاذفات اللهب اذا مسكوها عندي ستكون نهايتي!!وانت ممدد قرب النافذة ارجوك مزّقها وارمها من الشباك في الشارع قبل ان نصل..فاخذتها منه وصرت اقطّعها باسناني بصعوبة لانها مكبوسة بطبقة سميكة من النايلون الحراري واذا بي اصطدم بطعم نتن (يلوص) بفمي..مزّقتها ورميتهاوصرت ابصق بشدّة وكدت اتقيّأ والتفتّ له قائلآ :ولك هاي جايفة؟!!فاجابني وهو يضحك والدموع تترقرق من عينيه:لك موجنت ضامهه بطي..ي عندما خلعوا عنا الملابس في المستشفى الميداني!!!.
اغمي عليّ مرة اخرى لأصحو على صخب واصوات الجنود لأجد نفسي ممدّدا في ارضية جملون ضخم يحوي قرابة الألف اسيرعراقي معظمهم سالمين ومن مختلف الرتب العسكريّة,كان الكثير منهم مذهولون من سهولة اسرهم ,والبعض كانت تشعّ من عيونهم راحة غريبة ..راحة استراحة المحارب!!.
صور مضحكة مبكية كانت تدور حولي...النائب ضابط مشعان كان قد باع سيارة متسوبيشى جديدة (وزّعها صدّام مكافأة لضبّاط الصف)باعها قبل الهجوم الايراني
بليلة واحدة بعشرة آلاف دينار(وهو مبلغ ضخم في تلك الايام يعادل 33 الف دولار)وكان ينتظر موعد اجازته ليذهب بالمبلغ الى بيته ولكنّه فوجيء بالغاء الاجازات وثم الهجوم الايراني ,فالأسر..كان يخفي نقوده من الحرّاس الايرانيين في الجملون (وكل نقوده من فئة العشرة دنانير)...رأيته ممسكا بورقة وقلم يدور على الاسرى سواء كان يعرفهم او لايعرفهم..قائلآ:اخوية فدوة اخف لي عشرة دنانير عندك واعطني عنوانك في العراق وعندما نرجع سآتي لأستلمها منك فأنا لاأستطيع اخفاء هذا المبلغ الضخم عن عيون الايرانيين الملاعين..!!!.