السؤال: الصادر الأوّل
عندما يقال بأنّ نبيّنا محمّد(صلّى الله عليه وآله وسلّم) هو الصادر الأوّل، فالسؤال المنطقي يقول: لماذا كان هو دون غيره؟
فيقال: بأنّ قابليته هي التي أهلته لذلك المقام، فالسؤال هو: أليس هو لم يكن شيئاً قبل ذلك؟
فالعبارة هذه يفهم منها أنّه كان موجوداً قبل الخلقة، فنرجو منكم توضيح هذا المطلب.
ولكم خالص الشكر
الجواب:
يجاب على سؤالكم بنحوين, كلّ منهما يصلح أن يكون جواباً مستقلاً في المقام:
الأوّل: إنّ الله عزّ وجلّ ومن منطلق علمه الذاتي والأزلي كان يعلم بأنّ الرسول(صلّى الله عليه وآله وسلّم) سيصل بجدّه وجهده في عالم الدنيا إلى المرتبة القصوى بين الممكنات بعد إعطائه الخيار والاختيار من جانب الباري تبارك وتعالى, فعلم الله عزّ وجلّ وإن كان مقدّماً ولكن التطبيق كان متأخّراً.
وبعبارة واضحة: إنّ الله عزّ وجلّ كان يعلم بوفاء نبيّنا(صلّى الله عليه وآله وسلّم) في عالم الوجود بكافة المتطلبات التي تؤهله لهذا المنصب الإلهي, وعليه فأعطاه تلك المرتبة السامية بسبب علمه المسبق على الإعطاء, فالنتيجة أنّ كافّة المواهب المعطاة هي ناتجة ومكافئة على سلوك وسيرة النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) في الدنيا وإن أعطيت من قبل.
ولا يخفى أنّ هذه النظرية قابلة للتأييد بنصوص روائية, وعلى سبيل المثال: ورد في فقرات من دعاء الندبة هكذا: (... اللّهمّ لك الحمد على ما جرى به قضاؤك في أوليائك، الذين استخلصتهم لنفسك ودينك، إذ اخترت لهم جزيل ما عندك من النعيم المقيم، الذي لا زوال له ولا اضمحلال, بعد أن شرطت عليهم الزهد في درجات هذه الدنيا الدنية وزخرفها وزبرجها، فشرطوا لك ذلك، وعلمت منهم الوفاء به فقبلتهم وقرّبتهم...)( ).
وملخص الكلام: إنّ الفضائل والميّزات التكوينية والتشريعية للنبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) ــ على ضوء هذا القول ــ بأجمعها هي حصيلة الجهود والمتاعب التي تحمّلها الرسول(صلّى الله عليه وآله وسلّم) في سبيل نشر الدين والعقيدة وتبليغ الوحي وزعامة الأمة وغيرها.
الثاني: عند بدء الخلق وفي أوانه, عندما تعلّقت الإرادة التكوينية لله عزّ وجلّ بإنشأ الممكنات, جاء النور الأوّل ــ أو بعبارة أخرى: الصادر الأوّل ــ كأوّل مخلوق له سمة الخلافة عن الخالق في عالم الخلق, وهذا هو الفيض الأوّل الصادر إلى عالم الوجود ــ وهنا لا بأس بالإشارة إلى أنّ العلاقة بين الممكن والواجب أمر ضروري عقلاً ونقلاً, فيجب أن تكون رابطة الفيض مستمرة بين الخالق والمخلوق بنحو تام ــ.
ثمّ على ضوء ما ذكرنا, فإنّ المخلوق الأوّل يجب أن تتوفر فيه الميزات العالية التكوينية والتشريعية لنيل هذه الرتبة السامية ــ أي الاستخلاف والنيابة عن الله عزّ وجلّ في دائرة الوجود ــ لأنّ الحكمة الإلهية كانت تقتضي ولا تزال بأن يصدّر الأفضل حتى تكون متابعة الآخرين له ينسجم مع القواعد العقلية في طريق الكمال والرقي, وهذا النور الأوّل والمخلوق الممتاز قد سمّي وتعيّن بأنّه محمّد(صلّى الله عليه وآله وسلّم), لا أنّ نبيّنا قد حصل على هذه المكانة في أوّل الخلق, بل أنّ الصادر الأوّل المميّز قد لقّب وتعنون بأنّه هو الرسول الأعظم أشرف الكائنات محمّد(صلّى الله عليه وآله وسلّم).
وممّا ذكرنا يظهر جواب التوهم المذكور, إذ لم يكن يوجد أي ممكن عند نقطة بدء الخلق حتى يتوهم الانحياز والتمييز لمخلوق دون آخر, بل أنّ الوجود الأوّل قد تعنون وسمّي بأنّه محمّد(صلّى الله عليه وآله وسلّم), ومن الملاحظ أنّه عند خلقه لم يكن هناك مخلوق آخر يوازيه حتى يفرض أنّه(صلّى الله عليه وآله وسلّم) قد أعطي ما كان بالامكان أن يعطي غيره.
وبعبارة دقيقة وواضحة: إنّ المرتبة العليا والوحيدة لعالم الممكنات خلق وسمّي محمّداً(صلّى الله عليه وآله وسلّم), لا أنّ التسمية والتعنون سبق إعطاء هذه المكانة السامية, وفي الواقع أنّ النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) هو رمز المثل والقيم الإلهية بشكل مجسّم في عالم الخلق، والنموذج الحيّ الوحيد لكافة الايجابيات في عالم الكون.
وهذا الرأي أيضاً قابل للتأييد بنصوص روائية كثيرة موجودة في مجاميعنا الحديثية.
ثمّ لا يخفى أنّ النظريتين لا تتعارضان فيما بينهما, بل نتمكن من الجمع بينهما كما هو واضح بأدنى تأمل!
تعليق على الجواب (1)
بسمه تعالى
لقد ذكرتم أنّه لا توجد علاقه مباشره بين الواجب سبحانه وباقي البشر، وإنّما تكون عن طريق الصادر الأوّل الذي هو العقل الأوّل حسب الفلسفه، وقد ذكر أنّ الصادر الأوّل هو الرسول محمّد(صلّى الله عليه وآله وسلّم)، لأنّه أشرف الممكنات.
هنالك إشكالان يردان على هذا البيان:
الأوّل: المفروض أنّ الصادر الأوّل هو عقل لا إنسان، فكيف يكون الرسول محمّد(صلّى الله عليه وآله وسلّم) الصادر الأوّل؟
الإشكال الثاني: كيف نؤمن بأنّ النبيّ محمّد(صلّى الله عليه وآله وسلّم) هو نبيّ إلاّ بالرجوع إلى التاريخ، أي أنّ اثبات النبوّة هو عن طريق قراءة التاريخ فقط، مع أنّ التاريخ يخبرنا بأنّه يوجد قبل نبيّنا محمّد(صلّى الله عليه وآله وسلّم) النبيّ عيسى وموسى(عليهما السلام)، أو على الأقل يوجد المسيحيون واليهود، فقد يدّعون بأنّ أنبيائهم هم الصادر الأوّل؟
أي بمعنى آخر: كيف نثبت النبوّة للنبيّ محمّد(صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وكيف نثبت أنّه هو المستحقّ أن يكون الصادر الأوّل دون غيره من الأنبياء بالأدلّه العقلية.
الجواب:
لعلّك فهمت من قولنا أنّ النبيّ محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) هو الصادر الأوّل، أنّه بشخصه الزماني كذلك، وهذا خطاً!
لأنّنا لا نريد به إلاّ الحقيقة المحمّدية التي هي موجود بسيط صادر عن الله تعالى يكون واسطة في الفيض بينه وبين مخلوقاته، فكون الصادر الأوّل عقل كما صرّح به الفلاسفة لا ينافي أن يكون بلحاظ آخر نوراً وقلماً وحقيقة.. ولذلك وردت عدّة أخبار تعبّر عن هذا الصادر الأوّل.
فقد ورد أنّ أوّل شيء خلقه الله نور الأنوار، وورد أنّه القلم، وورد أنّه العقل...الخ، ويجمعها أنّها حقيقة عُليا هي أولى الحقائق عبّر عنها بـ(الحقيقة المحمّدية)، لأنّ ليس ثمّة ما هو أعلى حقيقة من حقيقة محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم)، ولما ورد في محلّه من الفلسفة من تقدّم الأشرف وجوداً على الأخس وجوداً.
أمّا بالنظر إلى الوجود الزماني، فقد خلق محمّد(صلّى الله عليه وآله وسلّم) بعد خلق جميع الأنبياء(عليهم السلام)، وذلك لحكمة أخذ العهود منهم له، وليكون شاهداً عليهم، ولتكون رسالته خاتمة الرسالات، فالنظم الزماني والتاريخي لخلق النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) يوافق النظم الطولي والصدوري.. وهو مطابق للحكمة؛ فتأمل!
تعليق على الجواب (2)
إذا كان الصادر الأوّل هو نور النبيّ أو ذاته المقدّسه صلوات الله عليه وعلى آله, فهل هذا يعني أنّ الزمان والمكان صدرا عنه كما بقية الوجودات؟ وإذا كان كذلك فمتى كان صدوره (الصادر الأوّل) وأين؟ إذاً كان هو أصلا قبل الزمان والمكان؟
الجواب:
الزمان والمكان يتعلّقان بعالم المادّة، فالزمان: مقدار حركة الأجسام أعمّ من أن تكون تلك الحركة في المكان الذي هو مقولة الأين أو بعض المقولات الأخرى كالكيف والكم.. والمكان: هو المحلّ الذي تحلّ فيه الأجسام..
بينما لا يعقل الزمان والمكان في العوالم العقلية كعالم الملكوت وعالم الجبروت أو عالم النفس وعالم العقل.
نعم، لهذه العوالم وقت وليس زماناً، ففي عالم الملكوت هنالك الدهر، وفي عالم الجبروت هنالك السرمد، وللفلاسفة نظريات متعدّدة عن ماهية الوقت في العوالم العقلية.
ولذلك لا يسئل عن الصادر الأوّل متى صدر؟ لأنّه سؤال عن الزمان، وقد أوضحنا إنّ تلك العوالم ليست زمانية.
وقد يعبّر عن وقت صدور الصادر الأوّل بالسنين تقريباً للأذهان التي لا تأنس إلاّ بعالم المادّة.. وربّما وردت في الأخبار إشارات إلى أوقات خلق بعض الصوادر المجردة، كالأرواح مثلاً التي ورد فيها أنّها خلقت قبل الجسد بألفي عام.