صرخة لوقف الانتهاكات بحق أطفال العراق
المقدمة
تعرض العراقيون كمجتمع لشتى الانتهاكات الإنسانية، وهي ظاهرة تاريخية ممتدة ومتواصلة على عهود مختلفة، تفاقمت مع تصاعد التدخل الأجنبي في الشأن العراقي، وتحول التراب العراقي إلى ساحة لحروب تسببت في دمار المراكز السكانية سواء في المدن أو الأرياف، كما طالت بعض أنحاء البادية، وقتلت وشردت الملايين من العراقيين. وكان للطفولة نصيبها الوافر من تلك الانتهاكات، بالرغم من ادعاء مختلف الأطراف الضالعة في المأزق العراقي، أنها ملتزمة بالمواثيق الدولية التي تؤكد على الزامية التقيد بضوابط كثيرة في التعامل مع الإنسان ككل، والأطفال على وجه الخصوص.
إن تقارير وشهادات المنظمات العالمية المعنية بحقوق الإنسان، قد أكدت أنه في ظل الظروف الاستثنائية الممتدة التي عاشها ولا يزال يعيشها العراق، وخاصة ومهاجمة التمركزات السكانية، فقد انتهكت معظم تلك الحقوق. وخاصة في المحافظات والمدن التي عاشت تحت وطأة التهديد الدائم سواء من قوات الاحتلال أو الأجهزة الحكومية وعناصر الميليشيات، والمجاميع المسلحة، وعصابات الخطف والاتجار بالبشر، وصولا إلى احتلال تنظيم الدولة الإسلامية (داعش).
وحقيقة الأمر فقد انعكست أوضاع العراق بكل ثقل تداعياتها المعقدة على شريحة الأطفال بكل قسوتها واضطراباتها وانسداد آفاقها. وهو ما يمكن ملاحظته بسهولة في الشارع العراقي، إذ (لا تكاد تجلس في مطعم أو مقهى في بغداد حتى يتحلق حولك مجموعة من الصبية والفتيات الصغار، بعضهم يبيع العلكة أو المناديل الورقية وبضائع أخرى زهيدة الثمن، والبعض الآخر يطلب منك مبلغا من المال كي “يطعم أهله”. معظم هؤلاء الأطفال من المهجرين الذين اضطرتهم ظروف الحرب للنزوح إلى العاصمة هربا من المعارك الدائرة في مناطقهم …)
ومما لاجدال فيه فإن (… شريحة الأطفال كانت الضحية الكبرى لكل حروب العراق وصراعاته، حيث بات الملايين منهم محرومين من الحياة الطبيعية بسبب النزوح وفقدانهم لذويهم ودمار مدنهم وقراهم، وما خلفه ذلك من فقر وأمية وتشرد.)
وفي أبشع صور الانتهاكات، فقد طالت المأساة شريحة الأطفال الرضع إذ ( يتلقى هؤلاء المرضي ذوو الأجسام الضئيلة العلاج من أمراض أخرى ترتبط بسوء التغذية الذي يضعف جهاز المناعة، مما يجعلهم عرضة لإصابات أخرى… وبسبب المعارك الدائرة منذ أشهر بين القوات العراقية وتنظيم الدولة الإسلامية، يواجه الأطفال الرضع الجوع والأمراض والجراح الناتجة عن القذائف المنهمرة على الأحياء التي لا يزال مئات آلاف المدنيين محاصرين فيها غربي المدينة.)
وتقول منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسيف) (إن أكثر من خمسة ملايين طفل في حاجة ماسة للمساعدة في العراق… كما تثير الأرقام الرسمية العراقية مخاوف الكثيرين حول مستقبل الطفولة في هذا البلد، حيث ترتفع نسب الأمية والفقر بشكل لافت بين اليافعين، ويقع بعضهم ضحية لعصابات التسول والسرقة والمليشيات. وتكشف أرقام وزارة التخطيط العراقية أن الأطفال يشكلون ما نسبته 11% من الأيدي العاملة في السوق المحلية، وهو ما يمثل واقعا مدمرا لمستقبل الطفولة في العراق”.)
ويعج (سوق العمل بمئات آلاف الأطفال المتسربين من المدارس، والذين يعملون في المعامل والحقول والمحلات والشوارع، فيما تحول البعض الآخر إلى متسولين أو باحثين عن الطعام والأغراض في مكبات النفايات، ويتعرض بعضهم إلى تحرش واعتداءات، يتم السكوت عنها غالبا خوفا من الفضيحة الاجتماعية.)
كما (إن الأرقام الرسمية تظهر أن من بين ثمانية ملايين طفل عراقي في عمر الدراسة، هنالك مليونان لم يلتحقوا بالمدارس لعدة أسباب، منها نزوح عوائلهم أو انخراط بعضهم في سوق العمل، ولا يجد أغلبهم فرصا فيما بعد لإكمال دراستهم.)
و (حذر تقرير مشترك لوزارة التربية العراقية ومنظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسيف) من أن واحدا من بين كل خمسة أطفال فقراء في العراق هجروا المدارس قبل إتمام الدراسة الابتدائية، حيث يعاني 40% من الأسر النازحة من الفقر. ووفق التقرير فقد اضطر نصف الأطفال النازحين و90% من أطفال المناطق التي تشهد معارك إلى ترك الدراسة.)
ومن أكثر الوقائع وحشية، عمليات الزج بالأطفال في العمليات الانتحارية، إذ (أعلن قائد عسكري أميركي أن تنظيم الدولة الإسلامية يجبر أطفالا ومعوقين على قيادة شاحنات مفخخة وتفجير أنفسهم وسط القوات العراقية خلال معركة الموصل الدائرة حاليا.)
وفي 5 تموز/ يوليو 2017، نقلت الصحافة العالمية تحذيرات أطلقتها ( منظمة أنقذوا الأطفال من أن الأطفال الناجين في الموصل (شمالي العراق) بعد معارك استمرت شهورا بين القوات العراقية وحلفائها وبين تنظيم الدولة الإسلامية، معرضون للإصابة بأمراض نفسية بسبب المعاناة التي مروا بها… وأن الأطفال الناجين يعانون من مستويات عالية من الرعب، وهم بحاجة إلى تلقى علاج نفسي لتخطي تلك الفترة وإلا تعرضوا لخطر الإصابة بأمراض نفسية تلازمهم طوال حياتهم… وأن ذوي الأطفال لا يستطيعون العناية بهم، لأنهم يعانون من الصدمة أيضا. وقالت إن نحو 90% من الأطفال تعرضوا لمشاهدة ذويهم وهم يقتلون بوحشية أمام أنظارهم، أو فقدوا أحدا من أسرتهم خلال الصراع. كما دعت المنظمة المجتمع الدولي لتقديم المساعدة العاجلة لتلافي الأمراض النفسية لدى الأطفال، في ظل عدم قدرة الأسر ذاتها على توفير العلاج لأبنائها.)
وفي نهاية شهر حزيران/ يونيو 2017، أصدرت منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسيف) بيانا أكدت فيه ( إن مئات الأطفال قتلوا في الموصل القديمة جراء المعارك بين القوات العراقية وتنظيم الدولة…أن الآلاف من الأطفال محاصرون في المدينة القديمة “جراء العنف المستمر بلا هوادة، خاصة مع اشتداد القتال”. وأوضح ممثل المنظمة في العراق بيتر هوكينز أن هؤلاء الأطفال “يواجهون عدة تهديدات تطال حياتهم، فقد تقطعت بهم السبل وهم يختبئون في أقبية منازلهم خوفا من هول الهجوم التالي، بينما يتعرض أولئك الذين يحاولون الفرار لخطر القتل أو الإصابة بسبب إطلاق النار”… وأن أعراض سوء التغذية ظهرت على الذين تمكنوا من الفرار نتيجة ما مروا به من معاناة، إضافة إلى تأثرهم بالصدمات والآثار النفسية الناتجة عن الحرب والحصار.)
اطفال العراق بين ادعاء الإلتزام بالشرائع والمواثيق الدولية، وواقع التورط في الانتهاكات:
ابتداء لابد من الاقرار بأن الشريعة الاسلامية، تميزت زمانيا عن جميع الشرائع والقوانين الوضعية بكونها الأشمل والأدق والأكثر عدلا في تأمين حقوق الإنسان الخاصة بالطفل، إذ نظرت إليه كونه كائنا ضعيفا وعدم قدرته على العناية بنفسه ونيل حقوقه الى ان يتعدى هذه الحقبة ويصبح قادرا على ادارة شؤونه بنفسه.
أما اتفاقية حقوق الطفل لعام 1989 التي تمت المصادقة عليها من قبل الجمعية العامة للأمم المتحدة في 20 تشرين الثاني /نوفمبر1989 ، فقد نصت على(… يقصد بالطفل كل انسان لم يتجاوز الثامنة عشر ….)، (وتتضمن الاتفاقية 54 مادة، وبروتوكولان … وهي توضّح بطريقة لا لَبْسَ فيها حقوق الإنسان الأساسية التي يجب أن يتمتع بها الأطفال في أي مكان – ودون تمييز، وهذه الحقوق هي: حق الطفل في البقاء، والتطور والنمو إلى أقصى حد، والحماية من التأثيرات المضرة، وسوء المعاملة والاستغلال، والمشاركة الكاملة في الأسرة، وفي الحياة الثقافية والاجتماعية. وتتلخص مبادئ الاتفاقية الأساسية الأربعة في: عدم التمييز؛ تضافر الجهود من أجل المصلحة الفضلى للطفل؛ والحق في الحياة والبقاء والنماء؛ وحق احترام رأى الطفل.)
أما الدستور العراقي الدائم لسنة 2005 فقد تضمن في (الباب الثاني والثالث) العديد من النصوص الدستورية بشأن احترام حقوق الطفل، اذ ورد في ديباجته (نحن شعب العراق … عقدنا العزم … على الاهتمام بالمرأة وهمومها والشيخ وهمومه والطفل وشؤونه )
لقد حرص المشرع العراقي على تثبيت نصوص خاصة بشأن حقوق الأطفال لحمايتهم كونهم في حالة ضعف مما يستدعي حمايتهم بإجراءات خاصة، فالأطفال الذين يعدون في حالة ضعف بدني ونفسي وعقلي تجعلهم غير قادرين على الدفاع عن انفسهم وحماية مصالحهم. وبناء على ذلك، يفترض أن يتمتع الطفل العراقي ( كما هو حال هذه الشريحة الاجتماعية في أنحاء العالم)، بالحقوق والحريات الأساسية العامة والخاصة. ومن بين أهم النصوص الدستورية التي نصت على حقوق الطفل، هي:[
اولا : ان تكفل الدولة حماية الطفولة وترعى النشء وتوفر لهم الظروف المناسبة لتنمية ملكاتهم وقدراتهم (المادة 29- ب) .
ثانيا: للأولاد حق على والديهم في التربية والرعاية والتعليم(المادة 29- ثانيا) .
ثالثا: يحظر الاستغلال الاقتصادي للأطفال بصوره كافة وتتخذ الدولة الاجراءات الكفيلة بحمايتهم(المادة 29 – ثالثا) .
رابعا : تمنع كافة اشكال العنف والتعسف في الاسرة والمدرسة والمجتمع(المادة 29- رابعا). خامسا : تكفل الدولة للطفل الضمان الاجتماعي والصحي والمقومات الاساسية للعيش في حياة حرة كريمة توفر لهم الدخل المناسب والسكن الملائم(المادة 30 – اولا).
سادسا : تكفل الدولة الضمان الاجتماعي والصحي في حال التشرد واليتم (المادة ـ30 – ثانيا).
سابعا : تكفل الدولة حق التعليم وهو الزامي في المرحلة الابتدائية (المادة 34 – ثانيا)
ثامنا: يحرم العمل القسري للأطفال والاتجار بهم …)
وخاتمة القول..
عند التمعن في تلك الشرائع والقوانين ووضعها أمام ممارسات جميع الأطراف المنشغلة بالقضية العراقية، ونضعها في كفتي ميزان السلوك الإنساني القويم ومقتضيات العدل والانصاف، نجد أننا أمام وقائع تدين جميع تلك الأطراف، بإرتكابها أفعالا وحشية، لا تتناسب وحقيقة أننا نعيش في القرن الحادي والعشرين، إذ ألحقت الضرر البالغ بحاضر ومستقبل الطفولة، سواء بممارساتها المباشرة أو غير المباشرة، أو بالتنصل عن التزاماتها في الكشف عن الجهات القائمة بتلك الانتهاكات، أو التستر عليها، أو تبرير افعالها.
وتأسيسا على ما سبق، فإن الهيئات الدولية الحقوقية والقضائية، ومنظمات المجتمع المدني مطالبة بالتحرك العاجل لإنقاذ الطفولة في العراق، ووقف الانتهاكات الجارية بحقها، وتكليف ممثل أممي يتولى ابلاغ المجتمع الدولي بحقيقة الجرائم المرتكبة بحق الطفولة العراقية، تمهيدا لإدانة مرتكبيها، ومن ثم القيام بحملة عالمية لإنقاذ وإغاثة أطفال العراق.