تمتلك الدول العظمى، بجانب عناصر القوة التقليدية الهائلة، عنصرًا آخر غير محسوس، لكنه يعتبر أهمها جميعًا، هو عنصر "الهيبة"، وهو يعطيها القدرة على كسب تنازلات –مثلا- فور أن تهدد، ولا يشترط أن تحارب وتعاقب، الحرب معها تعني لأي دولة "سكتة دماغية"، أو نهاية كاملة، وبالتالي لا أحد يريد أن يخضع لهذه الفرضية، فيتراجع فور أن تسخن الأمور.
أول ما كانت تفقده الإمبراطوريات التاريخية، قبل ذهابها إلى جب النسيان، كان هذا العنصر، أي أنها وفور اعتمادها على القوة الغاشمة وحدها، تفقد أهم مقومات دورها العالمي، وتقل قدرتها على فرض التوازن، وتتحول من قوى كوكبية إلى مجرد دولة قوية، وتأخذ طريق الانحدار المعروف والتاريخي، ببطء أو سرعة، لا يهم هنا الوقت، بعد أن تكون سقطت.
الولايات المتحدة تعاني، خاصة خلال العقد الأخير، من صعود محاور وتحالفات، غلت يدها عن التدخل المباشر في الكثير من النقاط الساخنة، وخصوصًا تآكل قدرتها على فرض إرادتها في المنطقة التاريخية الأهم (الشرق الأوسط)، والتي باتت تعرف بصفقة القرن.
المظاهرة العسكرية الأميركية في الخليج تأتي ضمن عملية فرض الحل على إيران، ومن ورائها محور المقاومة، فحجمها لا يمثل تهديدًا بحرب شاملة ضد طهران، ثم أن التفكير في توجيه ضربة عسكرية، سيتركها مقدمًا كهدف مجاني، بجانب بنك الأهداف الثمين والواسع.
الولايات المتحدة لا تريد إلا فصل ضفتي الخليج عن بعضهما البعض، لتمرير مشروعها، وضمان شرق أوسط بلا صراعات، وبالتالي غل القوى الإقليمية عن العمل في الإقليم تمامًا، بتصفية القضية المركزية فيه (فلسطين).
المشروع الأميركي يتداخل مع مشروع آخر، لكنه واعد، طريق الحرير الجديد، سبيل الصين إلى موقع عالمي تستحقه، عن طريق تعزيز آليات التعاون والمكاسب المشتركة مع دول العالم.
طريق الحرير هو العنوان الحقيقي للحرب، يربط 4 مليارات نسمة اقتصاديًا وتجاريًا، ويمر في قارة آسيا من شرقها لغربها، ثم إلى أوروبا في نهاية المطاف، ليوجه الضربة القاضية لدولة الدولار، ولمكانة المحيط الأطلسي في تقرير مصير الكوكب.
إذا قبلت الولايات المتحدة مرور الطريق في العراق، فأنها ستكتب نهاية سيطرتها العالمية، وإن لم تقبل، فصفقة القرن في المقابل ستتبخر هي الأخرى، بكل ما يعنيه ذلك من تآكل قدرتها على الفعل وفرض الرؤية، وضياع المكانة الصهيونية في المنطقة تمامًا، مع تدفق العمالة ورؤوس الأموال من آسيا والصين وروسيا إلى الجزء الشرقي من العالم العربي.
الولايات المتحدة عبرت مرحلة كونها قوة عظمي وحيدة، إلى زمن الخيارات الصعبة.