عندما عارضت فرنسا وألمانيا غزو العراق الذي قادته الولايات المتحدة في العام 2003، وصفت آنذاك إدارة الرئيس جورج دبليو بوش الدولتين بأنهما تمثلان "أوروبا القديمة"، ومضت قدما في تلك الحرب بعدما وقفت بريطانيا إلى جانبها. اليوم، وبعد أكثر من عقد ونصف العقد من الزمن يطل الاعتراض الأوروبي برأسه مجددا، بحيث تجد واشنطن نفسها في مواجهة مع شركاء رئيسيين عبر الأطلسي، غير موافقين على طريقة تعاملها مع إيران. مثل هذه الخلافات العلنية ولا سيما بين الحلفاء الذين تربطهم علاقات دفاعية عميقة كتلك القائمة بين لندن وواشنطن، هي أمر نادر الحدوث. لكن قضية إيران أثبتت أنها مثيرة للخلاف بين الولايات المتحدة وشركائها الأوروبيين، منذ أن اتخذ الرئيس الأميركي قرار الانسحاب من الاتفاق النووي الإيراني وإعادة فرض عقوبات مشددة على طهران.
"الوكالة الذرية"
المتابع للتصريحات الأوروبية عن التصعيد الأميركي تجاه إيران التي عبرت عنها فيدريكا موغيريني، المسؤولة عن السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي، يلاحظ أنها بدأت بإعلان الأسف لانسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي مرورا بإبلاغ وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو الأسبوع الماضي برفض أي تصعيد عسكري في المنطقة، وصولا إلى موقفها قبل أيام التي قالت فيها إن "الوكالة الدولية للطاقة الذرية تظل الهيئة الوحيدة المؤهلة للتحقق من مدى امتثال إيران لالتزامتها النووية". هذا التباين بدا واضحا، ففي الوقت الذي اعتمد فيه النهج الأوروبي لغة الحوار وعدم التصعيد مع طهران، واضعا مصالح أعضائه وشركاتهم وتعاقداتهم مع إيران في الاعتبار، اعتمدت إدارة الرئيس ترمب خيار التشدد، وعدم الاكتراث بالتداعيات أو بمصالح الشركات الأميركية التي ترتبط بعقود مع إيران.
وبالنسبة إلى الإدارة الأميركية، لم يعد الملف النووي هو جوهر الخلاف مع إيران، فهي ترى أن أطماعها التوسعية وحروبها بالوكالة لزعزعة المنطقة تحتاج إلى مواجهة على غرار مواجهة ملفها النووي. ولعل نشر قطع عسكرية أميركية في الخليج هي الرسالة الأوضح لطهران بأن الخيار العسكري هو أحد تلك الخيارات. أما المفوض السامي للاتحاد الأوروبي ووزراء خارجية كل من فرنسا وألمانيا والمملكة المتحدة، وهم الأعضاء الباقون في الاتفاق النووي JCPOA، فكانوا قد أعلنوا في بيان مشترك التزامهم خطة العمل الشاملة المشتركة التي كانت قد توصلت لها مجموعة الدول 1+5 (الصين وفرنسا والمملكة المتحدة وروسيا والولايات المتحدة وألمانيا) مع إيران في العام 2015، وصادق عليها مجلس الأمن الدولي، وأعلن ترمب انسحاب بلاده منها.
إطلاق "إنستكس"
الاتحاد الأوروبي دعا إيران إلى مواصلة تنفيذ التزاماتها بموجب خطة العمل المشتركة الشاملة والامتناع عن أي خطوات تصعيدية. وأكد مواصلة جهوده لتمكين استمرار ما سمّاها "التجارة المشروعة" معها، وهو نظام "إنستكس" الذي أطلقته ألمانيا وبريطانيا وفرنسا بدعم من الاتحاد الأوروبي، بما في ذلك تسهيل التجارة معها في مسعى لمساعدة الشركات الأوروبية على تجاوز العقوبات الأميركية أحادية الجانب عليها. ولعل إعلان موغيريني قبل أيام عن أن "أولى التحويلات ستنطلق خلال الأسابيع المقبلة عبر هذا النظام"، هو تأكيد لانقسام الكتلتين الاقتصاديتين. "إنستكس" هو نوع من المقاصّة باليورو، يتيح لطهران ممارسة التجارة مع الشركات الأوروبية.
الموقف البريطاني
اللافت هو الموقف البريطاني، فقد دعمت وزارة الدفاع تصريحات اللواء كريس غيكا من الجيش البريطاني، التي شككت في مزاعم الولايات المتحدة بوجود تهديد إيراني متزايد في الشرق الأوسط. وأزعج موقفه القيادة المركزية الأميركية التي وصفتها بأنها "تتعارض مع التهديدات الأكيدة التي تم تحديدها، والمتاحة لمخابرات الولايات المتحدة والحلفاء، فيما يتعلق بالقوات المدعومة من إيران في المنطقة". وينطلق الموقف البريطاني كما الأوروبي من أن التهديدات الأميركية ستدفع بطهران إلى اتخاذ خطوات انتقامية قد تؤدي إلى تأزيم الوضع الهش في المنطقة. معلوم أن بريطانيا كانت قد انضمت إلى "تحالف الراغبين" مع واشنطن في غزو 2003.
تماسك أوروبي
المواقف الأوروبية المعارضة لأي مواجهة عسكرية مع إيران، آخذة في التزايد. فمن خارج مجموعة الاتفاق النووي، أعلنت الحكومة الإسبانية الثلثاء الماضي أنها لن تشارك في مجموعة بحرية بقيادة الولايات المتحدة في منطقة الخليج، بعدما غيرت السلطات الأميركية هدفها الأصلي بالتركيز على تصاعد التوتر مع إيران (كانت إسبانيا حليفاً قوياً للغزو الأميركي للعراق). أما ألمانيا فأكدت أنها ستحتفظ بأعداد موظفي السفارة والقنصلية في العراق بعدما أمرت وزارة الخارجية الأميركية بإخلاء جزئي لموظفي السفارة الأميركية في العاصمة العراقية، مشيرة إلى المخاوف من تهديدات المليشيات المدعومة من إيران. واتخذت هولندا الموقف نفسه.
الولايات المتحدة لم تتخذ حتى الآن خطوات تصعيد إضافية، في الوقت الذي قال فيه وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو إن بلاده لا تريد الحرب مع إيران. لكن الرئيس الأميركي سيسعى إلى الضغط على حلفائه الأوروبيين بجميع الوسائل المتاحة إذا ما تصاعد التوتر وتكررت حوادث كتلك التي وقعت في الفترة الأخيرة في مياه الخليج، أو الاعتداء على أنابيب النفط ومنشآته، وفي حال نجاحه في حشد تأييد الزعماء الأوروبيين، فمن غير المرجح أن يحظى بقبول شعوبهم التي عارضت بشدة في الماضي الغزو الأميركي للعراق، وتعكس الآن الصحافة الأوروبية امتعاضها من سياساته وقراراته. وفي هذا الإطار، تظل واضحة أوجه التشابه بين ما حدث مع العراق في العام 2003 وما يحصل اليوم مع إيران.
المصدر