الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، عالق في فخّ نَصَبه بنفسه. الانسحاب من الاتفاق النووي مع إيران كان كافياً ليظهر لناخبيه أنه من صنف الرؤساء الذين يفون بوعودهم، أملاً في الحفاظ على معدّلات شعبيته استعداداً للانتخابات الرئاسية القادمة. الحسابات الانتخابية وحدها، التي تطغى على أي اعتبارات أخرى في ذهنه، لم تكن تقتضي هذا القدر الكبير من التوتير المحفوف بالمخاطر مع إيران. لكن جموحه، وجهله المطبق بشؤون السياسة الدولية، دفعاه إلى تبنّي أطروحات وخطط مجموعة من أصحاب العقليات التآمرية مِمَّن أحاط نفسه بهم، من دون إدراك المآلات شبه المحسومة لمثل هذا التبنّي.
فعندما وافق ترامب على سياسة «الضغوط القصوى»، المستلهمة حسب عرّابيها من استراتيجية إدارة الرئيس الأسبق رونالد ريغان، ضد الاتحاد السوفياتي، والتي سرّعت في اعتقادهم بانهياره، ظنّ أنها كفيلة بالسماح بانتصار على إيران بلا حرب. فهي قُدّمت له على هذا الأساس: أسقطنا الاتحاد السوفياتي من دون أي مواجهة عسكرية مباشرة معه، ونستطيع بسهولة أكبر تكرار الكرة مع الجمهورية الإسلامية في إيران.
وبمعزل عن مدى صحة هذا التفسير لأسباب انهيار النظام السوفياتي، نسيت المجموعة التآمرية أن تُذكّر الرئيس بحقيقة بديهية، وهي أن الولايات المتحدة، نظراً الى توازن الرعب النووي بينها وبين هذا النظام، لم تكن تستطيع الذهاب إلى حرب. الأمر مختلف مع إيران. وإذا كانت «الضغوط القصوى» التي اعتُمدت ضد السوفيات هدفها إضعافهم من دون حرب، فإن هدفها في حالة إيران هو إيصال الأمور إلى نقطة اللاعودة، أي الحرب.
خنق إيران لدفعها إلى الرد
لم تكتف إدارة ترامب بالإجراءات الهادفة إلى تصفير تصدير النفط الإيراني. لا يمرّ يوم إلا تُتخذ فيه خطوات تصعيدية في إطار خطة معلنة لخنق إيران اقتصادياً. وبما أن هذه السياسة في الحقيقة من تدبير عقل إسرائيلي الهوى، ناجم عن انحيازات أيديولوجية أو عقائدية كما في حالة الثنائي بولتون ــــ بومبيو، يستخدم عضلات أميركية لتطبيقها، فإن الأوساط السياسية والعسكرية في إسرائيل تتابع يومياً وبدقة هذه العملية. زفي باريل، الكاتب في «هآرتس» المقرب من هذه الأوساط، والباحث في مركز الدراسات الإيرانية في الجامعة العبرية، يرى أن العقوبات الجديدة المفروضة على صناعة المعادن في إيران (تبلغ حصتها من الصادرات الإيرانية 10 %)، وهي الثانية من حيث الأهمية بعد صناعة النفط، «لن تؤثر فقط على مداخيل الحكومة، بل كذلك على سوق العمل. يعمل في ميدان هذه الصناعة حوالى 600 ألف شخص، يعيلون 3 ملايين تقريباً. وستتضرّر من هذه العقوبات أيضاً صناعة السيارات، التي يعمل في مجالها مليون شخص. 6% من اليد العاملة الإيرانية تعمل في هاتين الصناعتين. وحتى قبل العقوبات الأخيرة، كان مستوى إنتاجية صناعة السيارات قد تراجع 40 %. من المحتمل اليوم أن يفقد مئات الآلاف من العاملين في هاتين الصناعتين وظائفهم من دون إيجاد أخرى بديلة منها في المدى المنظور... الضربة الموجهة إلى صناعة المعادن، وإلى القطاعات الرئيسة التي تتمركز فيها قوة العمل، تعتبر في إيران جزءاً من مؤامرة لقلب النظام. مئات الآلاف من العمال الذين فقدوا فجأة وظائفهم، من المحتمل أن يقوموا باحتجاجات أوسع نطاقاً من تلك التي شهدتها البلاد في السنوات الماضية. تقول الولايات المتحدة إنها لا تسعى إلى إسقاط النظام، لكن من المستحيل تجاهل التداعيات السياسية للعقوبات».
استعان بولتون وبومبيو للبرهان على فعالية مخططهما بكتاب تبسيطي وشديد البلاهة
أعلن الرئيس الأميركي بوضوح أنه لا يريد الحرب مع إيران، وطلب من نظيره السويسري أن تقوم بلاده بدور قناة الاتصال بين واشنطن وطهران. وسبق ذلك الإعلان قوله إنه ينتظر اتصالاً من الإيرانيين. قد يكون النجاح الأبرز للثنائي بولتون ــــ بومبيو، وهما يعرفان حذره الشديد من اللجوء إلى الخيار العسكري، هو إقناعه بأن الإيرانيين، نتيجة هشاشة مفترضة في أوضاعهم الداخلية، لن يكون بوسعهم احتمال العقوبات. ومع قليل من الحظ، وتفاقم الأزمات الداخلية والانقسامات بفعلها، سيضطر صنّاع القرار في طهران إلى الإذعان للمطالب الأميركية، أو حتى قد يصل الأمر إلى انهيار النظام. وقد استعان الثنائي للتدليل على فعالية مخططهما بكتاب تبسيطي وشديد البلاهة، من نوع الكتب التي يقدر ترامب على قراءتها وفهمها، بات مرجع الإدارة في معركتها مع إيران، وهو «الانتصار: استراتيجية إدارة ريغان السرّية التي سرّعت انهيار الاتحاد السوفياتي» للكاتب والصحافي بيتر شوايتزر. وقد كشف موقع «بازفيد نيوز»، في 25 أيلول/ سبتمبر 2018، أن مارك دوبوفيتز، مدير «معهد الدفاع عن الديموقراطية»، هو من أعطى الكتاب لمايك بومبيو، عندما عُيّن مديراً للمخابرات المركزية، أي قبل أن يعاد تعيينه وزيراً للخارجية بدلاً من ريكس تيلرسون. وللعلم، فإن «معهد الدفاع عن الديموقراطية»، كما اعترفت مديرة وزارة الشؤون الاستراتيجية الإسرائيلية في فيلم وثائقي أعدّته «الجزيرة» عن اللوبي الإسرائيلي في الولايات المتحدة، هو مجرد أداة بيد هذه الوزارة، وهي تشرف على أنشطته مباشرة. أي أن موظفاً إسرائيلياً هو من سلّم الكتاب لمدير المخابرات المركزية الذي قرأه ووزّعه على فريقه في الوكالة، ومن ثم على فريقه في وزارة الخارجية ليصبح بعد ذلك مرجعاً ودليلاً.
لن تبادر إيران إلى الاتصال بدونالد ترامب على أساس المواقف التي أعلنها والشروط التي يضعها. إيران قدّمت تنازلات كبيرة عندما وافقت على الاتفاق النووي مقابل الخروج، ولو النسبي، من حالة الحصار المفروضة عليها وتطبيع علاقاتها الاقتصادية والتجارية والسياسية مع دول الغرب. حظي الاتفاق بدعم قطاع واسع من الإيرانيين، على رغم تحفّظ جهات وازنة عليه. ليس بمستطاع ترامب فهم ما يعنيه قيامه بإلغاء الاتفاق بالنسبة إلى الغالبية الساحقة من هؤلاء، بمن فيهم الأوساط الأكثر حماسةً للانفتاح على الولايات المتحدة والغرب، وتلك النقدية لنظام الجمهورية الإسلامية.
إصرار الرئيس الأميركي على خنق إيران، على رغم إقرار بقية العالم والمؤسسات الدولية المعنية بالتزامها بالاتفاق النووي، يعيد تذكير الإيرانيين بحقيقة موقف الولايات المتحدة من حق بلادهم في الاستقلال والتقدّم والازدهار، وبمسؤولياتها عن المآسي التي حلّت بهم في التاريخ المعاصر، بدءاً من إسقاط حكومة محمد مصدق الوطنية وإعادة الشاه إلى السلطة، وصولاً إلى الحرب التي شنّها العراق بدعم أميركي عليهم، وأدت إلى مقتل مئات آلاف الإيرانيين. وعلى أغلب الظن، وبعكس ما يأمله ترامب، فإن موقف الرأي العام الإيراني مساوٍ في تشدده لموقف النظام، إن لم يكن أكثر تشدداً. انطلاقاً من هذا الواقع، من المستبعد جداً أن يطرأ أي تغيير على المقاربة الإيرانية. أمام ترامب، إن أراد تجنب مخاطر اندلاع حرب، خيار وحيد وشديد المرارة، لأن انعكاساته الداخلية على صورته كرئيس قوي ستكون سلبية، هو تراجعه عن سياسته التصعيدية الحالية حيال إيران. أما المضيّ في سياسة الحصار والخنق، في سياق إقليمي قابل أكثر من أي مرحلة سابقة للاشتعال، وفي ظلّ إشراف خبراء الخداع والتآمر، بولتون وبومبيو، على عملية المواجهة، فهو الوصفة الأكيدة لتسريع اندلاع الحرب في أي لحظة.
منقول