كان الجميع ينادونها بـ (باجي دولت) احتراما ، أي ( الأخت دولت).
كانت تقيم في المنزل رقم 29 بمحلة بكلر لوحدها . بعد فقدانها لأولادها الثلاثة في الحرب العالمية الأولى , ولربما من الخطأ
القول هنا أنها كانت وحيدة . ذلك لأن بيتها كان دائما مليئا بالزوار وخاصة فتيات الحي اللائي كن يأنسن لحديثها الخلاب
ولمعرفتها بشؤون الحياة .
ركزت بعد استشهاد أولادها في ساحة الحرب صوب احفادها الذين كانت تغدق عليهم جل عواطفها وحنوها . لم تكتوي باجي
دولت بنار الحرب فقط بل أنها شاركت في الحرب . وكان ذلك مثار فضول فتيات الحي .
ــ باجي دولت هل صحيح انك شاركت في الحرب ؟
كانت ترد بهدوء وكبرياء : وماذا في ذلك . لقد راجعت الدائرة الحربية وسجلت نفسي للخدمة في الصفوف الخلفية . كنت أعد
الطعام وأغسل الأواني وأضمد الجروح ، واحيانا كنت أحفر قبور الشهداء . المرء يكتسب شجاعة اضافية في الحرب .
تسألها صبية متوردة الوجنات :
ـ باجي دولت ألم تبكي أولادك ؟
ترد عليه بوقار :
ـ بكائي كان بكاء أم ، أي بكاء( جواني) لا مكان للدموع فيه . بكاء الأمهات ليس دائما بدموع منهمرة ، فالدموع أحيانا قد
تكون كاذبة . أما بكاء الصادق فهو بكاء القلب الذي يرافق الأمهات حتى القبر . وقانا الله من بكاء الأمهات .
ثم تستمر بالحديث وهي تغوص في بحر الذكريات والأيام الخوالي :
ـ حفيدي (شكر) كان اشقرا ، طويل القامة كشجرة سرو . لم تر عين أجمل منه حينما كان يلبس ( زبون جكت ـ الصايه
والزبون) كان له مقهى في ( جرت ميداني ) . ابتلى بشرب الخمرة لعنها الله والتدخين . وفي يوم بينما هو متمدد في الفراش
على السطح وهو يدخن ، اخذته الغفوة وسقطت السيكارة اللعينة من بين اصابعه على فراشه . رأيته يحترق كالشمعة .
ـ كيف تحملت هذا الألم يا باجي دولت ؟
ـ يابنيتي الأولاد أمانة الرب في يد الأم ، وهو يسترجعها عندما يشاء .
ـ لكن والدي قال لي أنهم اطلقوا عليك اثناء الحرب لقب ( صاج قالديران ـ حاملة الصاج ) !
يظهر ظل ابتسامة على وجهها المتغضن :
ـ في الجبهة كنت أهيء النار من الأعشاب والحطب لاعداد الطعام . وفي الأوقات الأعتيادية كانت النار تظل مشتعلة طوال
اليوم . أما في حالة هجوم العدو فكنا ننسحب . وقبل الانسحاب كنت أملأ ( الصاج) بالتراب وأضع فوقه الحطب المشتعل حتى
لا يستفيد منه العدو ، وخاصة في أيام البرد القارس .
وتسألها فتاة أخرى بخجل :
ـ باجي دولت هل قمت بدور ( الوصيفة للعروس ـ ينكه ) ؟
يزداد حجم الانشراح في وجهها وهي تقول :
ـ أجل يابنيتي ففي أيامنا لم تكن الفتاة التي تتزوج في سن مبكرة دون أن يكون لها أية خبرة . كنت أقوم بدور الـ ( ينكة )
على أحسن مايرام حسب تقاليد أيام زمان . كنت أقدم النصح لهن ليلة الزفاف . وكم كنت أكون سعيدة حينما كنت أرى
العروس سعيدة في بيتها ، يحيط بها أطفالها . أمام كل امرأة ثلاث مراحل : مرحلة العزوبية ، مرحلة الزواج ومرحلة الترمل
وكانت لا تنسى ان تضيف كلمة ( لا سمح الله ) وهي تأتي على ذكر هذه المرحلة . رغم ترملي في سن مبكرة الا انني لم
أتزوج حتى لا يكبر أولادي تحت رحمة رجل غريب .
كانت باجي دولت مغرمة بالأمثال وتعتبرها حكمة نطق بها الأوائل نتيجة خبرة حياتية . فاذا انهمرت خصلة من شعر واحدة
من محدثاتها كانت تبتسم وتقول ، هذا يعني ان ثمة ضيف في طريقة اليكم .
وكانت تحرص على أن تودع من تحب بأن تصب ماء خلفه كي يعود ثانية . وكانت وهي تفعل ذلك لم تكن تنسى أن تقول ،
نودع من نحب بالماء أما من لا نحب فيجب ان نقذف حسب عادتنا خلفه كي لا يعود ثانية . لكنها ما تلبث ان تقول مستدركة ،
لكنني لم أفعل ذلك قط ، لسبب بسيط هو ان من لا أحبه لا يدخل هذ البيت الذي لا يدخله الا الأحبة .
كانت باجي دولت تحذر زوارها من نساء وبنات الجيران من النظر الى المرآة في الليل لأن مثل هذا العمل يؤدي الى التغرب ،
أما الذي يزرع حفنة من الحنطة في بيته فان ذلك سيؤدي الى انتقالهم الى حي لن يرتاحوا فيه عند اخضرار حبة الحنطة .
وحينما كانت احداهن تعطس اثناء كلامها تعلق دولت باجي ( هاهو شاهد من الحق ، لا تتعجلوا في اتخاذ القرار ) اما اذا
عطست مرتين متتاليتين ، فأن ذلك فأل حسن . وكانت تفسر طنين الاذن وهي تنظر الى جايساتها ( ثمة من يغتابنا ) .
وفي عرف باجي دولت ، فأن حكة باطن الكف تعني ( ثمة مال مقبل ) وهنا يجب تقبيل الكف ثلاث مرات . ولا ينتهي
تفسيراتها عند هذا الحد بل في عرفها يجب عدم ارسال أي شيء ابيض اللون وخاصة في المساء الى بيت الجيران لأن ذلك
يسبب ضررا لآهل تلك الدار . وفي الحالات القصوى يجب اضافة أي شيء ذو لون اسود على كل من مالونه ابيض ليزال
الشؤم بذك فكانت مثلا تلطخ البيض الذي قد تحتاج اليه جارة من جارتها بأن تشطب عليه عدة خطوط سوداء أو تضع تضع
في اناء الحليب قليلا من سواد الفحم .
عند اساءة أحد من الجيران اليها لم تكن تقابل الاساءة بالكلام الجارح بل كانت تصعد الى السطح بهدوء وترفع ( راية العباس
) .
بذاكرتي الطفولية اتذكر عنها ، اتذكرها بملابسها السوداء التي كانت تلبسها حزنا على أولادها الثلاثة الذين قتلوا في الحرب
منذ عقود ، ولم أرها أو يراها أحد من أهل المحلة تلبس ملابس أخرى . كانت تبدو وكأنها ذاكرة حية تسير على هدى ما قاله
الاسلاف ودون أن تجد في ذلك أي تناقض . محاولة تطويع حياتها على ما قالوه أو ما سمعته منهم في زمن ما . فالدجال
سيظهر في آخر الزمان حيث يلفظ حماره بلحا وعنبا ، وستظهر للصبية الذي يتبعونه قرونا تطول بحيث تحول في نهاية الأمر
بينهم وبين دخولهم المنزل لشدة طولها . وزراعة البصل والثوم في البيت سيؤدي الى انتقال أصحابه الى منزل آخر . ودهس
الوسادة بالأقدام سيكون سببا في اصابة صاحبها بالصداع . وسكب الماء الحار دون بسملة يؤذي صغار الجن ويستوجب
نقمتهم من أطفال البيت .
كانت باجي دولت رغم كبر سنها حريصة على أن تكون في مقدمة نساء المحلى اللائي يستعدن لطبخ الحنطة ( داندوج) حيث
كانت توضع الحنطة في قدور ضخمة يسهر الجيران حولها حتى الصباح . وكان أطفال الحي ينتظرون وصحونهم بأيديهم
بفارغ الصبر . كانت باجي دولت تحرص على حق الجار . ومن حقوقه ارسال طبق من طعام العشاء اليه . وبفضل هذا التقليد
الجميل كان أهل الحي يتناولون اصناف متنوعة من الطعام على موائدهم .
في الحي عند خسوف القمر الذي كانت باجي دولت تفسره على أن ( الديو ـ المارد ـ ابتلع القمر)كان الرجال يطلقون النار ،
ونحن الصبية نطرق بعود على صفائح فارغة لاخافة (الديو) حتى يطلق سراح القمر المسكين ، ليعود الينا بنوره الوضاء .
كانت باجي دولت حريصة على المشاركة الوجدانية والفعلية في عزاء محرم الذي كانت النسوة يقمنه في منزلهن ، باكيات
على الحسين ومرددات :
القوا بالحسين من السطح
باعوا سيفه المضمخ بالدماء
صدأ السيف في الغمد
امنا فاطمة ( فاطمة ننه ) تجهش بالبكاء
ادخلي يا أمنا فناء الدار
فالحسين مضرج بدمائه هاتفا :
أين قومي واخواني ؟
لعنتي على يزيد ، لعنتي على يزيد !
كان أكثر ما يروق لدولت باجي ويضحكها ، نداء الدلالين بين الأحياء بحثا عن مفقودات ، وكانوا في الوقت نفسه عمال في
البلدية :
(( يا أمة محمد ـ أي محمد امتى ـ ! فقد حمار أبيض اللون ، على ظهره سرج لونه اسود . من يبلغ عن مكانه سيكسب ثوابا
عند رب العالمين وفي الدنيا مكافأة قدرها ـ مجيدي واحد ـ )).
كانت باجي دولت تبدو في حياتها اليومية وعلاقتها مع نساء المحلة أشبه بموسوعة حية في كل شؤون الحياة . وقد سمعتها
مرة وهي تردد لأمي 25 للورد والنباتات البرية التي كانت تنبت على حافات السواقي وجداول المياه في كركوك كنباتات
للتطبيب .
ورغم كبر سنها لم تتخلف قط عن المشاركة في التنزه في البساتين والحقول ( جرشمبة سور) التي كانت منتشرة بكركوك
مثل بستان ملا يوسف وملا عبدالله تبه سي ( تلة ملا عبدالله ) صونا كولي ، تسين باغي وغيرها حيث تزين السماورات التي
كانت تلمع ببريق الذهب . وكان من الطبيعي ان يحيط الشباب بالتجمع النسائي هذا ، متأملين المتنزهات من الفتيات بعيون
ظامئة للحب ، مرددين الأغاني الفولكلورية التي تكشف عن مشاعرهم :
صعدت الى جبل الكنيسة ونظرت الى حديقة ( دورتلر )
تحولت عيوني الى ينبوع دم لما رأت مكان الحبيبة
كان لها أكبر (سماور) في المحلة ، وكان بريقها لايغطي على بريق مثيلاتها . وفي هذه النزهات ، كانت الفتيات المراهقات
يرددن بدورهن أغان شعبية معروفة لاستثارة الشباب ومنها تللك الأغنية الذائة الصيت ( آي هاوار ده كيرمانجي ـ اواه ايها
الطحان ) :
اواه أيها الطحان انت صاحب الخان وأنا رحال
كانت أيام العيد مهرجانا حقيقيا في كركوك ، حيث تمتليء الأحياء والأزقات بالأطفال وهم بملابسهم الجديدة الزاهية يقصدون
في ( الكللوك ) المراجيح ودولايب الهواء وغيرها من الألعاب أو يستأجرون عربة يغنون فيها ويدقون ( الدبنك ـ دنبلك ) .
ولم تكن باجي دولت تهمل في هذه الأيام ادخال الفرحة في نفوس احفادها أولا ثم قلب صبي من افقر عائلات الحي بشرائها
كسوة العيد له . وكانت حذر الأطفال من ارتداء ملابس العيد قبل حلول العيد ثم لا تلبث ان تضيف ضاحكة :
ـ اياكم وارتداء هذه الملابس قبل العيد
وكان الصبية يطيعون كلامها دون ان يفكر احد منهم ، كيف سيقوم العيد بالخراء على ملابسهم !
كالنساء الآخريات ورغم كونها طاعنة في السن ، كانت تزور المقابر في يوم عرفة : مقبرة الشيخ محي الدين ومقبرة ملا
عبدالله وعلي باشا والشهداء وسيد علاوي وبابا فتحي وغيرها .
من التقاليد في كركوك هو قيام النساء بأعداد الطعام وقت الفطور ، حيث يتناول اهل الدار الطعام صباحا . ومن الأكلات
التقليدية صبا ح العيد : التمن والفاصوليا أو الباميه أو اكلة ( القيسي ـ المشمش ) . كانت باجي دولت حريصة على اعطاء (
خرجية العيد ) مهما كان المبلغ ضئيلا واذا تعذر عليها ذلك كانت تملأ جيوب الأطفال بالجكليت أو الكليجة أو الكرزات . ومن
العادات السائدة في تلك الفترة توجه سكان المصلى ( ذاك الصوب ـ او ياخا ) الى ( هذا الصوب ـ القورية ) في اليوم الأول
من العيد لتهنئة اقاربهم واصدقاءهم ، حيث يرد في اليوم الثاني من العيد سكان المصلى الزيارة لسكان القورية .
في اليومين الثاني والثالث كانت باجي دولت حريصة مثل كل نساء كركوك بزيارة جامع النبي دانيال ــ دانيال بيغمبر ) حيث
يجلسن في باحته ، يتجاذبن اطراف الحديث ويتناولن الكليجة أو يكرزن الحب . وكن يدفعن للكليدار مكافأة لدخولهن الى الفناء
من الباب الداخلي .
كانت النساء يبالغن في ارتداء الذهب . في مثل هذه الحالاة كانت باجي دولت تكتفي بالنظر اليهن مع ابتسامة يحار المرء في
تفسير معناه قائلة :
ـ في حياتي لم تتجمل ولم ألبس الحلى .
تقول ذلك وهي تدير نظراتها الافحصة على النساء التبرجات والمتحليات بالحي ، وهي ترى كل من حولها تتباهى بأقراطها (
التراجي ـ صرغا ) أو القلادة الذهبية ( التون بوينباغ ) أو من تلبس حزاما من الذهب يشبه حزام الرصاص الذي يرتديه
الصيادون ( سلاحليغ ) أو الأساور المختلفة ( ديلمج ، بيلازيك ) أو قلادة من اللؤلؤ ( اينجي بوينباغ ) والأكثر ثراء كن
يرتدين حزاما من ذهب ( آلتون كمر ) أو الخزمة ( التون خزمه ) أو الحجل ( حجيل ) أو الخلخال ( خلخال) .
ورغم زهدها في الحياة بسبب ترملها في سن الشباب ووفاة ابنائها الثلاثة فأنها كانت ترى ضرورة ان تتزين المرأة لزوجها
حتى يبقى وفيا لها.كانت توصيهن بوضع الكحل (سورمه) وتحمير الشفاه بقشرة الجوز الطري ووضع الحمرة ( اوليك ) على
خدودهن والبودرة ( كيرشان ) كما كانت تحرص على تحنية أقدام وأكف بنات الجيران بالحنة ( خننا ) باستعمال ماء القرنفل
( قرنفيل) أو بماء الورد ( كولاب ) ولصبغ الشعر فأهم وصفة هو استعمال الحنه او الحنة و الـ ( وسمه) معا . ولم تكن تهتم
بالوشم في الوجه أو اليدين ، حيث من النادر ان يرى المرء نساء التركمان في كركوك موشومات .
يوم مرور موكب جلالة الملك المغفور له فيصل الثاني من كركوك في طريق عودته من مصيف سرسنك ، اعتاد صاحب معمل
طابوق ( أسطه هوبي) على تزيين الشارع الذي يمر منه الموكب ،
وفي كلا طرفي الشارع زحام كبير من مستقبليه ، كانت آخر هذه الزيارات في 1957 ، وكنت صبيا صغيرا أقف مع الجماهير
برفقة أمي ، أتذكر أن ( هلهولة ) باجي دولت غطت تماما على أصوات الهتاف والتصفيق
منقوووووووووول لعيونكم