من الصور المتحركة للثورات العربية
تحليل سميولوجي وسوسيولوجي لنماذج
د. عبد الغني منديب
أستاذ علم الاجتماع بجامعة محمد الخامس- الرباط
بعدما شاهدت العشرات من الأشرطة المصورة التي تعرض لمختلف المشاهد ذات الصلة بما يحدث في عدد كبير من الدول العربية، من انتفاضات شعبية عارمة وردود فعل رسمية عنيفة في أغلبها، حاولت أول شيء أن أحصي هذه الفيديوهات بُثت على مختلف مواقع الشبكة العنكبوتية ، وبالأخص موقع اليوتيوب ، فوجدتها عديدة لا تحصى لكثرتها. ومرد ذلك بالأساس إلى كون الأحداث لا زالت جارية بالمجتمعات العربية, سواء منها التي صنعت الثورة وقلبت نظام الحكم كتونس ومصر, فيما يمكن أن نسميه بثورة ما بعد الثورة؛ أو في تلك التي مازالت تنافح من أجل التغيير مند شهور عدة كـ ليبيا واليمن, أو في تلك التي تجري فيها الأنظمة القائمة إصلاحات ملموسة كالمغرب والأردن والجزائر والسعودية وغيرها.
ولذلك كلما دخلت الشبكة العنكبوتية، وجدت العشرات من الفديوهات الجديدة التي تحمل مفاهيم جديدة كـ"البلطجية" و"الشبيحة"، وتحمل أسماء أماكن من البلاد العربية ، لم أسمع عنها من قبل كـ:القصرين، وجبلة، ومصراتة، وتعز، والكسوة، وحرستا، والدامة ..وغيرها. لا يمكن إذن إحصاء هذه الصور المتحركة/ الرسائل المصورة ليس لكثرتها، وإنما لأن صيرورات أسباب إنتاجها لا زالت قائمة.
إذا كانت هذه الظاهرة غير قابلة للتعداد ، فهل هي قابلة للتصنيف؟ كيف يمكن تصنيف ظاهرة بصرية ومرئية، لا يمكن ضبط عددها الكمي ولا النوعي، طالما أن صيرورة الإنتاج لازالت مستمرة كمّا ومن المحتمل نوعا أيضا، إذ لا يمكننا بأي حال من الأحوال أن نتأكد من أن الكمّ القادم سوف لن يأتي بأنواع جديدة من فديوهات الثورة هذه ـ ليقبل القارئ منا هذه التسمية على علاتها ـ بعد كتابة هذه الأسطر. وعليه فإن تصنيفنا لهذه الوثائق المصورة, أيا كان شكل ومضمون تصنيفها, سيظل بالضرورة محكوما بتاريخيته كما بإبستميته ،هذا بالإضافة إلى البعد المغماراتي والتعسفي الذي ينطوي عليه كل تصنيف على حد تعبير "كلود لفي ستروس".
يمكن التمييز إذن بشكل عام بين ثلاثة أنواع من فديوهات الثورة:النوع الأول ونسميه بالساخن ـ وسوف نشرح في السطور الآتية, الخلفيات النظرية والإبستمولوجية لهذه التسميات ـ ونقصد به الفديوهات التي أنتجت, على مستوى الشكل, في غالبها بواسطة هواتف محمولة, أما على مستوى المضمون فإنها تحمل صورا من قلب المعارك, حيث يعمّ القتل ويسود التعذيب, وحيث تنطوي عملية تسجيل هذه الفديوهات على خطر الموت.
النوع الثاني وندعوه بالبارد, ونقصد به مقتطفات من تغطية بعض القنوات الفضائية العربية, سواء الداعم منها والمساند للانتفاضات العربية كقناة الجزيرة, أو المعادي لها كالقنوات الرسمية لكل من ليبيا واليمن وسوريا. وتتميز هذه الصور, على مستوى الشكل, بكونها ملتقطة من قبل مصورين محترفين وبمعدات احترافية, أما على مستوى المضمون فإنها تندرج في إطار الصراع السياسي بشكليه الصريح والمضمر بين الجهات الداعمة للتغيير في البلدان العربية أو المناهضة له، والمستعملة للصورة، والصورة المتحركة على سبيل التحديد كأداة حرب ومواجهة وإستراتجية صراع.
النوع الثالث وننعته بالرمزي الفني, ونقصد به بعض الأفلام القصيرة الموضوعة على الشبكة العنكبوتية, والتي تتميز بكل خصائص العمل الفني السينمائي من تأليف، وإخراج، وتمثيل، ورمزية، وجمالية فنية ؛ كفيلم الثورات العربية بجزأيه الأول والثاني من تأليف وإخراج "صفوان ناصر الدين".
لا يدعي هذا التصنيف البتة الإحاطة والشمولية, وإنما هو لا يعدو كونه مجرد نموذج تحليلي تمثيلي بالمعنى الفيبيري للكلمة, أي مجرد إطار تحليلي مقترح في إطار محاولة جمع شتات هذه الصور المتحركة وإنتاج المعنى الذي تحبل به, أو دعونا نقول من باب التنسيب, بعضا منه على الأقل.
الصورة كتقنية في مواجهة السلطة كقوة
كلما أبحرت في الشبكة العنكبوتية باحثا عن هذه الصور المتحركة ذات الصلة بالثورات العربية, وكلما شاهدت هذه الصور ـ وأعدت مشاهدتها مرات عد ةـ قارئا إياها في كل مرة بسؤال محدد ودقيق ومختلف عن سابقه ـ وهي منهجية تقتضيها ضرورة التحليل كما يعرف ذلك أهل الصناعة ـ تكرست لدّي تلك المقولة، التي كنت ولا أزال أكررها على مسامع طلبتي بجامعة محمد الخامس في سياق تحليلنا لماهية السلطة بكل أنواعها وأشكالها وأبعادها وألوانها وتجسداتها، التي مؤداها أن المجتمعات الحديثة لما أدركت أن السلطة مفسدة والسلطة المطلقة مفسدة مطلقة, ومعنى ذلك أن السلطة بطبيعتها تنزع نحو الاستبداد وخدمة نفسها على حساب الآخرين, قسمتها إلى ثلاثة أجزاء متساوية يراقب بعضها البعض الأخر: سلطة تشريعية, سلطة قضائية، وسلطة تنفيذية, ولما لم يف هذا التقديم بالغرض المطلوب، وهو الحد من إلواء السلطة كقوة نزاعة باستمرار نحو الاستبداد, خلقت سلطة رابعة وهي الإعلام, ثم سلطة خامسة وهي الشبكة العنكبوتية, أي ما يسمى بالإنترنت.
فالإنترنت كتقنية إعلامية خلقت ثورة في مجال التواصل وكسرت الحدود وخرقت الطابوهات, ودكت حصون الرقابة والتعتيم. فالصورة التي أنتجتها التقنية الحديثة ونشرها اقتصاد السوق الحرة, أصبحت وسيلة ديمقراطية في يد الملايير من سكان العالم تنتج بدورها "الصور الوقائع", أي الوقائع والأحداث في شكل صور. فأي فرد عادي وبسيط يستطيع أن يلتقط بهاتفه النقال صورا لوقائع وأحداث ,في غفلة من المشاركين فيها ودون علمهم , أو بعلمهم ورضاهم, ووضعها على أحد المواقع ضمن شبكة الإنترنت, كموقع اليوتيوب على سيل المثال, لتصل إلى العالم بأسره.
أليست الصورة هنا كتقنية, في يد معظم سكان العالم تواجه السلطة كقوة مستبدة ـ مراقبة وحاجبة ومعتمة ـ للحقيقة العارية في كل ثانية؟ إن المقولة الذائعة والتي مفادها أن العصر الذي نعيشه هو عصر الصورة بامتياز, هي مقولة تعبر عن ثورة الصورة لدرجة أن الفرد العادي اليوم أصبح في معظم المجتمعات المعاصرة يستهلك يوميا من الصور أكتر ما يستهلك من الغداء والكساء والكلمات.