مشرق عباس/الحرة
لأن لا أحد من المتصدين للدولة في العراق مهتم بأن يسأل، وبالطبع، لا أحد مهتم بمحاولة الإجابة، فأن تجتر الدولة فشلها المزمن، وتعيد إنتاج أمراضها ليس أمرا مثيرا للصحوة النرجسية الوطنية، التي وجدت طرقا للتعبير عن نفسها عبر نزعة ماضوية متسرطنة ودفن دائم للرؤوس في الرمال.
الدولة في العراق فاشلة بمعايير الفشل الدولية، وهذا ليس سرا ليذاع؛ فالأرقام في كل المجالات تثبت ذلك، كما أن ذلك ليس عيبا، فالدولة الفاشلة دولة حية ما زالت، وهناك أمم نجحت بتجاوز فشلها، لكن عندما بدأت تسأل بشجاعة وتجيب بهدوء، وتعمل بمزاج النجاح.
انسحاب ريح الموت الطائفية التي هبت على العراق وكادت تفنيه، لم يكن منحة حزبية
عندما تشكلت الحكومة العراقية الحالية، لم يكن أحد يزعم أنه حلم بأن تتمكن من تجاوز آثار الانهيار الكامل للدولة ما بعد 2014، لكن الآمال كانت معقودة على إمكان البدء في مسيرة استعادة الدولة مستندة لا إلى نزعة وطنية متفردة لمن يتصدى لها، ولا حتى صحوة أخلاقية، وإنما إلى نظريات "الضرورة" التي تحتكم إليها المجتمعات عندما توضع أمام خيارات وجودية، فالبدء بالنهوض يحتاج إلى تنازلات عن السياقات العقيمة للمحاصصة واقتسام المناصب ونهش إمكانات المؤسسات الرسمية وعقودها وأموالها، التي قادت إلى سقوط 2014.
للأسف، إن القوى التي ادعت نيتها تعديل السياق تورطت فيه، فالوزارات تم "اقتسامها" بلا أدنى شك، والمناصب والعقود تدور حولها في هذه الأثناء معارك كبرى في الكواليس قد تقود في أية لحظة إلى حرب أهلية جديدة إذا لم يتم اقتسامها، والجميع يتهيأ لتثبيت أقدامه في الأرض لسنوات طويلة قادمة، وسوف يتم تفصيل القوانين اللازمة لذلك، كما ستتخذ الحكومة الإجراءات اللازمة لتسهيلها.
وبديلا عن تطوير رؤية بسيطة بدأتها الحكومة السابقة بتقليص كوادر الدولة المترهلة الآيلة للسقوط مجددا، وتحويل اليد العاملة إلى القطاع الخاص، عبر محفزات يمكن تطويرها لضمان إنهاء الترهل خلال 20 عاما مقبلة، يتسابق الوزراء في الزج بالمزيد من الموظفين المؤقتين إلى الخدمة العامة الدائمة، لكسب ود الشارع المرتبك بديلا عن مواجهته بالحقائق الصادمة والمرة عن العجز الاقتصادي والمالي الهائل المتوقع للدولة العراقية خلال عشرة أعوام فقط بما قد لا يسمح لها بتوفير أجور ربع موظفيها!
فالأحزاب أعادت توطين نزعتها الطائفية في صميم الدولة
وبديلا عن دعم الأنظمة اللامركزية، والإسراع في هيكلة الوزارات وإحالة مسؤولياتها إلى حكومات المحافظات، وتحويل المزيد من الصلاحيات لتلك الحكومات ليكون بإمكانها صوغ طريقها نحو النجاح أو الفشل ومواجهة جمهورها المحلي، تتورط السلطة في بغداد بالمزيد من فرض نفوذها على البصرة والموصل، أكبر محافظتين بعد العاصمة!
وبديلا عن تحديد سياسة خارجية انتقالية سريعة تتجاوز محنة اختبار الصراع الأميركي ـ الإيراني المحتدم، تستسلم بغداد لمصيرها متلقية لقرارات الآخرين عنها، ومستعدة لتقديم عروض هنا وهناك للحصول على معاملة استثنائية من الطرفين.
وبديلا عن البدء بصنع خطاب إعلامي مؤثر في الإقليم وصائن لمصالح البلد، في وضع سياسي دولي شديد التعقيد، يتم التسليم بالعجز أمام الإعلام الخارجي، فقط لأن لا أحد يريد أن يسأل، ولا أحد يريد أن يبادر.
إن انسحاب ريح الموت الطائفية التي هبت على العراق وكادت تفنيه، لم يكن منحة حزبية، ولا إعادة صوغ لمفاهيم الأحزاب ومنطلقاتها، بل هو نتاج طبيعي لسيل الدماء التي أهرقت على أعتاب متاجرة الأحزاب بالمذاهب والقوميات، ومع هذا لم يتم أبدا استثمار روح التسامح الاجتماعي التي تبلورت، لإنتاج رؤية جديدة للدولة، بل بالعكس، فالأحزاب أعادت توطين نزعتها الطائفية في صميم الدولة، ليس من خلال قسمة الغرماء للمناصب الكبرى فقط، بل حتى على مستوى صغار الموظفين، ما يسهل تماما تمييز النزعة الشيعية في رئاسة الوزراء، والنزعة الكردية في رئاسة الجمهورية، والنزعة السنية في رئاسة البرلمان؛ ناهيك عن سوق مفتوح وعلني يجمع بين الاختيار الطائفي والفساد الإداري في عمل الوزارات.
المناصب والعقود تدور حولها معارك كبرى قد تقود في أية لحظة إلى حرب أهلية جديدة إذا لم يتم اقتسامها
وحتى الاستقرار الأمني الذي ساهم فيه قرار المتصارعين الخارجيين وأذرعهم المحلية، لا يتم استثماره في خطط نهضة وإعمار ومعالجة الجروح التي تركتها الكوارث السابقة، بل يعاد اليوم تركيب المعادلة الأمنية وفق صيغ لا تقل وهما عن تلك التي فتحت أبواب البلاد لداعش.
لم يكن هذا أبدا طريق صوغ الأسئلة الكبرى والإجابة عنها، ومن يتحاشى أن يسأل: "لماذا نفشل؟" ليس مخولا أبدا بأن ينتج اجابات، كما أنه ليس مؤهلا ليعلن وصفته الخاصة لـ"الوطنية العراقية"، فالروح الوطنية يكرسها حوار مسؤول ومفتوح تقوده دولة ناجحة وواثقة، فيما تنتج الدولة الفاشلة حواراتها الدوغمائية العقيمة.