اللغة هي القالب الذي تلبس المعاني أشكالها واللباس الذي تستوفي به زينتها و جمالها، وقد كان العرب المالكين لأعناقها المتصرّفين في وضعها واشتقاقها ،يقلّبونها على وجوهٍ شتّى من الأستعارة و الكناية وسائر فنون المجاز بحيث تجد للمعنى الواحد عدّة قوالب تتراوح بين الاطناب و الايجاز الى حد أن يَسِمُها الغيربطابع الإعجاز ، بيدَ أن اللّغة لم تبلغ هذا المبلغ من الكمال و الأتّساع في وجوه الاستعمال إلّا بعد ان تعاقب عليها ما شاء الله من الازمنة تلا فيها البليغُ البليغَ الى ان استتبَّ لها هذه المزيّة البيّنة و تتابع استعمالها على ذلك حتى رسخت ملكتها في الألسنة ثمَّ تلقّاها المتأخّرون عن المتقدّمين بتكرّر الرواية وتتابع السماع وحمل القرائح على محاكاتها بما استقرَّ من هيئتها في الطباع فلم تبرح نازلةً منهم منزلتها من أربابها بيد أنها اكتست ناعم الخزِّْ بعد خشن جلبابها فكانت بها نجوى الضمائر فضلاً عن حديث الاقلام في الدفاتر أو نطق الألسنة على المنابر حتى اذا غربت شمس ذاك العصر وانقلبت حال ذويها بطناً لظهر ألقى الدهر حبلها على غاربها بعد إذ تجاوب صداها بين مشارق الأرض و مغاربها فاقفرت أوديتها و تقوّضت أنديتها وخرست شقشقة خطيبها ومنطيقها وجفّت اقلام كتّابها بعد أن جرضت بريقها وطويت مهارقها ، فهي اليوم من مودعات الخزائن واصبحت في جملة الدفائن اللهمَّ إلّا ألفاضاً ندرت على ألسنة الشعراء يتداولونها في اغراضهم من نحو التشبيب و الاستجداء والمدح و الرثاء هي جُلَّ ما وصل الينا من رشح ذلك المعين المتدفّق وما أقلّه ثمداً لا يقصع غُلّة صادٍ ولا يُعيد بِلّة منطق وما خلا ذلك فأن الكاتب منّا لا يجد إلّا هذه الالفاظ المبتذلة والاوضاع العاميّة وقد يخطئ غرضه منها فيلجأ الى الكلمات الاعجمية وما اكثرها في يومنا هذا.