الذوق العام أم الذوق الخاص
ناهده محمد علي
إن الذوق العام لكل مجتمع يتشكل كسلسلة طويلة من الأفكار والقيَّم والفلسفات ونوع النظام السياسي والتراث والأوضاع الطبيعية وحتى درجات الحرارة مع نسبة التمسك الديني والتراثي , ويتولد من خلال هذا طبيعة المفردات اللغوية وطبيعة النبرة الصوتية للحديث أيضاً ولون الملابس ونوع الطعام والمطبخ المحلي ونوع الحُلي ونوع العلاقات الرجالية أو النسائية أو المختلطة والمقاييس الجمالية لكل شيء بالشكل الإنساني والبنائي وأُسلوب الحديث والفنون بأشكالها , الغناء والموسيقى والآداب والشعر والرسم وفن العِمارة , كل هذا يشكل الذوق العام والمزاج العام لمجتمع ما , ومن خلال هذا يتولد الذوق الخاص للفرد في هذا المجتمع مع الفروق الذاتية والشخصية لكل فرد , وهناك فروق ذاتية في شدة التمسك بهذه القيمة أو تلك , وفروق في نوع الشخصية والتركيب النفسي للفرد , فهو قد يكون متفهماً متسامحاً أو حاد المزاج ليس له حدود وسطى في التمسك , وهناك فروق ثقافية وفروق في الجنس والتربية الأُسرية والمدرسية ونوع الطعام المعتاد والملابس المستخدمة وألوانها ونوع المطالعات الخارجية وأقران الطفولة والشباب , كل هذا يشكل حلقات في سلسلة الشخصية الواحدة وتبدو ككتلة واحدة لشخصية واحدة متعددة الجوانب .
لقد كان الذوق العام العراقي في الماضي مستنداً الى كل المقاييس التي ذكرناها للذوق العام , والشخصية العراقية كانت في الغالب شخصية متزنة ومحبة للإطلاع متزمتة في أُمور الدين والتراث ومحافظة على قيّمه , كريمة وفخورة بكرمها , وينتقي الفرد العراقي مفرداته من خلال التراث واللغة والدين , ونبرة الصوت معتدلة في الغالب , ويمتد تعاطف الأفراد مع بعضهم الى حدود المحلة السكنية , فمشاكل الفرد في كل حي هي مشكلة لكل أبناء المنطقة , ويبلغ مستوى التعاون حد المساعدات المالية والدفاعية , وكان كل هذا تحت خيمة القيّم العُرفية المسماة ( النخوة والشهامة ) , ولا نجد في اللهجة الدارجة أية كلمات نابية لكنها تستعمل في حالة الغضب وعند هبوط مستوى التمسك القيَّمي . ولو إنتقلنا الى الغناء العراقي القديم لوجدنا إيقاع الشعر الشعبي السلس وأحياناً الشعر العربي القديم ولأحسسنا نظافة هذه الكلمات ورقتها وحملها للكثير من القيَّم الجميلة . أما ألوان الأطعمة فتتغلب عليها حدة الذوق فهي شديدة الحرارة أو شديدة الحلاوة مما يدل على أن المزاج العراقي هو في الغالب حاد لكنه طيب ومرتفع الإحساس باللذة .
إن التغيير الحاصل في المجتمع العراقي هو نتيجة تغييرات كثيرة منها الحروب وتدني المستوى الإقتصادي مع صعود مستوى الإحساس الفردي للغُبن والتقوقع الذاتي وإنتشار الكثير من الأمراض الإجتماعية والنفسية مثل العنف الفردي والجماعي والسرقة والرشوة والنظرة الدونية للطفل والمرأة والتجارة بأجسادهم , والنظرة السوقية للأدب والفن وإتخاذهما تجارة بحته مع هبوط مستوى الأفراد المزاولين لهذه المهنة فالكثير منهم أُميين وحرموا من الموهبة , وكثيراً ما تسمع الآن ضمن محتويات الأغنية العراقية مفردات للشتائم والبذاءة ولا عجب في ذلك لأن كثيراً من المزاولين لهذه المهنة هم من محترفي العمل في البارات أو مؤسسات الدعارة , والمشكلة الحقيقية أن هذا النوع من الفن ينتشر أسرع من صفحات الأدب واللوحات المرسومة أو أي نوع من الفنون , لأن الغناء يُسمع في الشارع والسيارة والمنزل والقنوات الفضائية , وتختلط بالقيّم الإنسانية وتشوهها , وهي تُعبر على الأكثر عن الغضب الشعبي وعن الموت السريع والسهل كما يجد فيها الشاب العراقي العاطل متنفساً لغضبه ونقمته على واقعه , ولم يعد للشباب ما يؤمنون به إبتداءاً بأنفسهم , إذ أنهم قد تعودو أن يتعايشو مع مظاهر الكذب والسرقة والغش والتلاعب في مدرستهم وشارعهم وبيتهم علاوة على عدم إحترام الوجود الإنساني والحياة الإنسانية , وكمثل على ذلك قال لي ذات مرة صبي في الخامسة عشر من عمره ( تصوري بأنني حينما أرى رأساً مقطوعة أو جسداً ميتاً متعفناً فإني لا أُصاب بالدوار أو الغثيان وأذهب الى البيت هادئاً لتناول طعامي ) , وكان الولد طيباً وذكياً , فما الذي جعله قاسياً وغير مبال بالحياة البشرية , لا شك أنه المزاج العام والذوق العام الذي خلق جيلاً لا يجيد اللعب إلا بالمسدسات حيث يضع الطفل رأس صديقه تحت قدميه ويوجه رشاشته البلاستيكية نحو رأسه , وهذا ما يمكن أن نسميه عملية تخريب كامل للنفس العراقية الطيبة , وقد خلق الذوق العام والذي هو نتيجة كما ذكرت لظروف موضوعية كثيرة محيطة ذوقاً مريضاً لأفراد المجتمع , لكن الملاحظ ايضاً أن المجتمع العراقي لا زال مجتمعاً متفائلاً ومحب للحياة ولا زال يتمتع بعلاقات عائلية قوية , وتتكتل هذه العوائل وتتجمع في حالات الفرح والحزن وتظهر المرأة العراقية بملابسها الزاهية في العمل والدراسة مع أن الأفراح في المجتمع العراقي قليلة لكن المرأة العراقية أخذت تحتال على واقعها وأخذت تلبس ملابس الأفراح الزاهية والبراقة في مجالات العمل والجامعة وتهتم بتناسق الألوان ويراقب ويقلد بعضهن البعض لأنه المجال الوحيد المضيء في حياتهن .
أما حال المرأة العراقية الأمية والعاطلة وهن الأغلبية العظمى فهو حال يُرثى له ويتغلب اللون الأسود على ملابسهن والذي يعكس الوجه الحزين وعمق الفراغ الحسي فهن بلا مورد مالي وبلا زوج وأحياناً يلا أبناء فقد سحقتهم حالة العنف العام , وتجد أن هذه المرأة قد سحق الذوق العام والمزاج العام ذوقها الخاص وهي قد فقدت إيمانها بكل القبَّم العامة وبقيت متمسكة بالواعز الديني فقط , وإمتهن الكثير منهن مهنة التسول والقليل منهن مهنة البيع المتجول , وكثيراً ما نرى طفلة أو إمرأة عجوز تمسك بيدها سلة مليئة بالحلويات تجلس على قارعة الطريق أو تبيع علب السكائر للمتجولين .
وهناك قيمة أخرى غير حضارية أُصيب بها هذا المجتمع ألا وهي ( الشك وعدم الثقة بالنفس والمجتمع ) حين ينتشر مستوى الكذب الأخلاقي والسياسي والإجتماعي , وكل الأمور لها وجهين , وجه غير حقيقي ظاهر , ووجه حقيقي باطن , فمُسخت قيمة الثقة بالعام والخاص , أي ثقة الفرد بالمجتمع , وثقة المجتمع بالفرد , فأخذ الفرد ينظر بمنظار الشك لجاره وصديقه وإبنه , وأخذ المجتمع بالمقابل ينظر بمنظار الشك لكل هؤلاء .
إن قيمة الثقة المتبادلة هي قيمة مهمة في حياة أي مجتمع وفي تطوره الإجتماعي والإقتصادي والتي بدونها يُبنى كل شيء على أُسس مغشوشة مُعدة للسقوط , ويُبنى الفرد أيضاً على أُسس مفشوشة مُعد للإنهيار وهو ما يكون عادة إنهياراً أخلاقياً وإجتماعياً وعلمياً وأدبياً , أما إذا بحثنا عن السبب فسنجده مثلما نجد السبب في إنهيار أي بناء , أي في الأساس التحتي والبُنى التحتية لهذا المجتمع والتخلخل القيّمي الحاصل والذي يحدث عادة في المجتمعات المنهارة أو التي تُبنى من جديد .
إن حامل القيم يمكن أن تنهار قيمه بفعل الضغط الإجتماعي والذوق العام المنهار , ونأخذ مثلاً على ذلك بعض الممارسات الموجودة في المجتمع العراقي , فقد لاحظت أن رجلاً عجوزاً تساعده إمرأة شابة على عبور الشارع وهو يسير بخفة متحاشياً السيارات , وكان هذا مظهراً طيباً لتعاون العائلة العراقية , ولكنه عاد بعد قليل ولزحمة السيارات والتي تعطي للفرد الوقت الكافي لملاحظة كلما يجري في الشارع , عاد هذا الشخص العجوز بعد دقائق وهو يعبر الى الإتجاه المعاكس لوحده حانياً ظهره وممسكاً بعكازة وماداً يده للتسول وكأنه شخص آخر متلبساً شخصية المتسول , هذا الفعل هو وجهين للعملة الواحدة , أي أن الفرد يتلبس شخصيتين حسب الظرف الإجتماعي والإقتصادي الذي دعاه الى أن يعيش حياة إزدواجية ما بين البيت والشارع . وكمثل آخر على إنهيار الذوق العام فإن رمي النفايات في الشارع لم يكن متعارفاً عليه من قبل وكانت الشوارع نظيفة ورائحة الهواء طيبة , لكن تتابع الظروف الإقتصادية والإجتماعية وتراكم الضغط النفسي على الفرد العراقي جعلت هذا الفرد لا مبالياً وغير مكترثاً بأن يرمي نفاياته بالشارع وأن يرى الحيوانات السائية والذباب والأمراض تتفاقم من حوله , كما لم يعد مبالياً بكل ما يحدث من حوله بسبب تفاقم الإحساس الداخلي بعدم أهمية كل شيء وأي شيء .
ولنأخذ حامل القيم هذا والذي نُزعت منه قيمه وتغيرت بفعل الضغوط الخارجية وننقله الى مجتمع آخر نظيف إن صح التعبير فسنجد أن هذا الشخص قد عاد الى عاداته الصحيحة ومفاهيمه النبيلة نحو المواضيع والأشخاص , ولا يستطيع هذا الفرد أن يكون لا مبالياً لأن الكل يتصرف وفق قوانين وقيَّم إجتماعية صحيحة , ولنأخذ مثلاً آخر على تغيير بعض القيم مثل التحرش الكلامي أو الفعلي والعنفي بألنساء , وهذه العادة موجودة وبقوة لدى كل من يريد تأكيد رجولته في الشارع العربي , ولو إنتقل هذا الشخص الى مجتمع آخر تكون العلاقات فيه بين الرجال والنساء طبيعية وغير مفتعلة ولا تتسم بالفصل بين الجنسين فإن مسألة التحرش الكلامي والعنفي بالنساء تصبح مسألة منفردة أي تخص الحالات الشاذة والمرضية ومحترفي الإجرام , ويجد الشاب العربي في حالة وجوده في مجتمع متحضر بأنه قد فقد هذه القيمة المتخلفة أي الحاجة لتأكيد رجولته من خلال التحرش بالنساء وأصبح يؤكد رجولته من خلال التعايش المتكافيء معهن .
وهكذا يتضح بأن الذوق العام هو من يُدير عجلة القيَّم لدى الفرد العربي , فإذا أردنا تغيير الذوق الخاص والأخلاق الفردية يجب بناء مجتمع يوفر القاعدة الأساسية لهذه المُثل والقيَّم والتي هي توطيد البُنى التحتية والبناء الإقتصادي والإجتماعي وسن القوانين التي تُطبق ولا تُركن .
منقول