الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعد:
فنحن في شهر عظيم في شهر مبارك، استوقفتني فيه ثلاث جمل صحت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، هي:

- قوله: «من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا، غُفر له ما تقدم من ذنبه»(1).
- وقوله: «ومن قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا، غفر له ما تقدم من ذنبه»(2).
- وقوله: «من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا، غفر له ما تقدم من ذنبه»(3).

إنها ثلاث فرص عظيمة، كل واحدة منها تكون سببًا لتكفير الذنوب، وقد وقفت حيالها متأملاً ومتألمًا!

كم من الناس يخرج رمضان ولم يفز بفرصة واحدة والعياذ بالله!!

والأدهى الأمرّ أن بعضهم يصوم ويقوم، وربما أدرك ليلة القدر!

ومع ذلك فقد لا يُغفر له والعياذ بالله؛ لأنه يصوم لكن لا يصوم إيمانًا واحتسابًا، بل عادةً وجريًا على سنن الناس! أو إيمانًا لكنه ضجر يتسخط ما يجده فيه لأدنى سبب! وتأمَّلْ أحوال بعضهم في الطرقات آخر اليوم، تألم.

كذلك قد يقوم الليل لكن لا يقومه إيمانًا واحتسابًا، بل موافقة للناس، وإن قام إيمانًا فربما أفسد الاحتساب بتذمُّره من تطويل الإمام في السجود مثلاً، وتسخُّطه حرّ المسجد وضعف المكيفات! أو بتعامل مع أهله في البيت: استعجلوا وراءنا صلاة، فعل الله بكم وترك!

وقد يحيون ليلة القدر ويوافقونها، ولكنهم لا يقومونها إيمانًا واحتسابًا.

وفي المقابل هناك من ستمرُّ عليه ليلة القدر وهو نقيّ الثوب طاهر الأردان، قد غُفرت ذنوبه؛ بسبب صيامه إيمانًا واحتسابًا، أو بسبب قيامه، ولن يضيِّع الله أجره في ليلة القدر، بل يباعد الله بينه وبين عذابه، ويرفع درجته، ويزيد من كرامته، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، وقد ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أن للجنة ثمانية أبواب"(4)، وكل باب يُدعى إليه نوع من الناس، فمن كان من أهل الصلاة دُعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الجهاد دُعي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة، ومن كان من أهل الصيام دُعي من باب الريان. فقال أبو بكر رضي الله عنه: ما على هذا الذي يُدعى من تلك الأبواب من ضرورة! وقال: هل يُدعى منها كلها أحدٌ يا رسول الله؟ قال: «نعم، وأرجو أن تكون منهم يا أبا بكر»(5).

وبهذه المناسبة فإنّا لنرجو هذه الأيام أن يُدعى إخوان لنا في الشام والأرض المقدسة وغيرها جاهدوا بأموالهم وأنفسهم، صاموا وصلوا وزكوا من سائر تلك الأبواب.

والمقصود كذلك الشأن مع فرص رمضان! هناك من ستغفر له ذنوبه؛ لأنه صام إيمانًا واحتسابًا، وتُغفر له ذنوبه؛ لأنه قام إيمانًا واحتسابًا، وتُغفر له ذنوبه؛ لأنه وافق ليلة القدر. وبعد ذلك هؤلاء مراتب في البعد عن النيران والرقيّ في درجات الجنان، أسأل الله أن نكون وإياكم من خير الفائزين.

والمهم إن فاتتنا فرصة -معاشر الأحبة- أن نستدرك غيرها، فوالله إن الخسران كل الخسران أن تفوتنا هذه الفرص جميعها، هذا والله هو الحرمان، وفي الحديث: «رغم أنف من أدركه رمضان ولم يغفر له»(6).

لو قيل لنا: إن إنسانًا تقدَّم لوظيفة مُيسَّرة ثلاث مرات ثم فشل لإهماله، أو لعدم جديته وتحمله أدنى العمل، فدخل المرة الأولى وفشل، ودخل المرة الثانية وفشل، ودخل المرة الثالثة وفشل، فماذا يُرجى منه؟! فاحذر أن يُبعِدَك الله!

إنه الخذلان فاستعذ يا عبد الله منه، فقد رأيت أناسًا في العشر الأواخر من رمضان ليس بينهم وبين الحرم إلا بضعة أمتار، يسمعون قراءة الإمام ويرتكبون عدة معاصٍ في وقت واحد!! جالسون قرب الحرم يلعبون "البلوت"، ويدخنون ويشربون الشيشة، ويتكلمون باللغو والرفث، وأمامهم جهاز من أجهزة اللهو المحرمة، ومع ذلك لا يصلون مع المسلمين، فأيُّ حرمان أعظم من هذا الحرمان؟!

مع الأسف، ثمة قوم لا يزيدهم رمضان إلا بُعدًا عن الله جل وعلا، وقد تلقيت قديمًا إحصائية من أحد مراكز الهيئات، فُوجئت بما فيها مما يتعلق بمعاكسات الشباب للنساء وتزايدها في رمضان والعياذ بالله.

فاتق الله يا عبد الله، ولا يكن شهر الرحمة حُجَّة عليك، واغنتم فُرَصه، واعلم أنها أكثر من تلك الثلاث ففتِّش عنها! وإن فاتتك بعضها فقد بقي بعضها، والأعمال بالخواتيم. أسأل الله أن يختم لنا ولكم بخير، والحمد لله رب العالمين.

د: ناصر العمر
(1) البخاري: الإيمان (38)، ومسلم: صلاة المسافرين وقصرها (760).
(2) البخاري: صلاة التراويح (2014)، ومسلم: صلاة المسافرين وقصرها (760).
(3) البخاري: الإيمان (37).
(4) البخاري: بدء الخلق (3257).
(5) البخاري: الصوم (1897)، ومسلم: الزكاة (1027).
(6) الإمام أحمد (7444)، والترمذي في سننه (3545)، وابن خزيمة في صحيحه (1888)، وصححه الألباني في صحيح الترمذي (2810).