بتاريخ 1981/3/17 استيقظ السكان بمدينة آخن الألمانية على خبر اغتيال بنان الطنطاوي زوجة المراقب العام السابق للإخوان المسلمين بسوريا عصام العطار، بعد أن أطلق مجهولون عدة رصاصات عليها في منزلها بالمدينة الألمانية.
التحقيقات الألمانية لم تستبعد تورط نظام حافظ الأسد في الجريمة، خاصة أن تلك الفترة شهدت توترا كبيرا بين نظامه وبين الإخوان المسلمين، كما أن هذه السلطات أحبطت عدة محاولات اغتيال سعى نظام الأسد لتنفيذها بحق قيادات إخوانية معارضة تعيش في ألمانيا، بينها العطار.
استقصائي "نهايات غامضة" الذي بثته الجزيرة الساعة 10:22 مساء 2019/5/5 عاد لملف اغتيال بنان الطنطاوي، وتحدث لأطراف عدة على علاقة ما أو مطلعة على سير تحقيقات الجريمة، سعيا للتوصل إلى القاتل الرئيسي والأسباب التي دفعته للجريمة، وفيما إذا كان هناك تعاون أو تواطؤ من أطراف أخرى.
بحسب أصدقاء ومقربين من عائلة عصام العطار، فإن الأخير اضطر هو وزوجته لمغادرة سوريا هربا من بطش نظام الأسد وعاشوا بالعاصمة اللبنانية بيروت لعدة سنوات، استطاعت خلالها بنان الطنطاوي التأثير بالمجتمع بفكرها وإسهاماتها الثقافية، حيث إنها كانت تتميز بسعة علم ومعرفة بالشريعة والفقه الإسلامي، خاصة أنها ابنة فقيه إسلامي معروف.
ولم تكن بيروت هي محطة عائلة العطار الأخيرة هربا من بطش النظام السوري، حيث لجأت الأسرة للعيش بمدنية آخن الألمانية.
وعن تلك المرحلة، يقول صديق الأسرة البروفيسور عدنان وحود إن بنان طنطاوي واصلت نشاطها الثقافي والإسلامي والتوعوي، وإنها كانت تقود جهودا جبارة في محاولة إصلاح الفرقاء داخل الفرق التي تتبع للإخوان المسلمين في سبيل توحيد صفوفهم بمواجهة نظام الأسد.
وبحسب المقربين من العائلة، فإنه يبدو أن ذلك الدور أزعج نظام حافظ الأسد الذي كان يعتبر الإخوان المسلمين ألد أعدائه، وهو ما دفعه -أي النظام- للتخلص من بنان الطنطاوي، حسب رأيهم.
العطار مستهدف
لكن الزوج عصام العطار وقبل اغتيال زوجته كان مستهدفا أيضا من قبل نظام الأسد، وقد تمكنت السلطات الألمانية من إفشال عدة محاولات اغتيال استهدفته من قبل قتلة أرسلهم الأسد لتصفيته هو وقيادات إخوانية سورية أخرى.
ويقول عصام العطار في حوار تلفزيوني سابق إنه تفاجأ بأن السلطات الألمانية وضعته هو وأسرته -قبل اغتيال زوجته- تحت الحراسة المشددة، بحيث أصبحت دوريات شرطة تتولى حراسة منزله وتتكفل بسلامته خلال تحركاته بألمانيا على مدار الساعة.
كيف وقعت الجريمة؟
بحسب الصحفي الألماني مانغريد كيشرمان الذي تابع الجريمة عن كثب، فإن ثلاثة أشخاص مدججين بالسلاح، وبعد مراقبة حثيثة للمبنى المكون من عدة طوابق اقتحموه صباح 1981/3/17، وأجبروا إحدى السيدات الألمانيات التي تعيش فيه على طرق باب منزل العطار حتى تراها السيدة الطنطاوي -من خلال الكاميرا- وتفتح لها الباب.
وما إن فتح الباب حتى أطلق الملثمون الرصاص على رأس طنطاوي، وفتشوا المنزل بحثا عن أي من أفراد العائلة قبل أن يلوذوا بالفرار.
غير أن القتلة -بحسب كيشرمان- كانوا على درجة عالية من الغباء أدت لانكشاف هوياتهم للشرطة الألمانية خلال أقل من ثلاثة أيام، فقد ركنوا السيارة التي استخدموها بالجريمة في مرآب سيارات بطريقة مشبوهة، وعند تفتيش السيارة عثرت الشرطة على مسدس وقنبلة يدوية، كما عثرت على فاتورة الفندق الذي نزل فيه القتلة قبل ارتكابهم الجريمة.
ويقول كيشرمان إن الشرطة أعلنت أسماء القتلة الثلاثة، وهم سعد عبد الله وفادي حميد وعبد الكريم عطية، وجميعهم يحملون الجنسية السورية، لكنهم جميعا تمكنوا من الهروب من ألمانيا قبل أن يلقى القبض عليهم.
وبحسب الخبير الأمني الألماني وليام إيغل الذي ألف كتابا يتعلق بجريمة اغتيال الطنطاوي، فإن النظام السوري هو المسؤول عن عملية القتل.
لكن إيغل استبعد أن يكون الرئيس السوري وقتها حافظ الأسد هو المسؤول المباشر عن الجريمة، ورجح أن يكون شقيقه رفعت الأسد هو المسؤول المباشر، ولا سيما أن الأخير كان يقود العمليات الخاصة، ويشرف على تسع جبهات استخبارية تتبع جميعها بعضها البعض.
وأوضح إيغل أن القتلة الثلاثة دخلوا ألمانيا بدون أسلحة، وأنهم توجهوا بعد ذلك إلى السفارة السورية في بون، حيث تم تزويدهم بالأسلحة وكل المعلومات المطلوبة، وطلب إليهم أن ينفذوا الجريمة بأسرع ما يمكن.
بدوره، رجح العميد المتقاعد من الاستخبارات السورية أن تكون الاستخبارات الجوية هي المشرفة على عملية اغتيال بنان الطنطاوي، مشيرا إلى أن مثل هذه العمليات -سواء داخل الدول العربية أو الأوروبية- تترك للمخابرات الجوية.
القتلة بقبضة السلطات الألمانية
وبعد مرور 12 عاما على الجريمة، تلقت السلطات الألمانية رسالة من نظيرتها الإيطالية تفيد بإلقاء القبض على سعد عبد الله أحد القتلة الثلاثة المطلوبين لألمانيا، والذي كان مسافرا على متن سفينة متجهة إلى إيطاليا.
ورغم اعتراف سعد بارتكابه الجريمة فإنه رفض الكشف عن المزيد من التفاصيل، وحكم عليه بالسجن المؤبد.
غير أنه وفي تطور مفاجئ أعادت السلطات الألمانية القاتل إلى سوريا، مخالفة بذلك جميع القوانين المعمول بها في البلاد.
فريق تحقيق الجزيرة بحث بأوراق سعد عبد الله فتوصل إلى أنه أحد مؤيدي نظام الأسد، ويناصب الإخوان المسلمين العداء الكبير، وأنه كان على علاقة مع أبو نضال مؤسس المجلس الثوري في حركة التحرير الوطني الفلسطيني (فتح) والمنشق عن الحركة والذي تم طرده من العراق.
وبحسب مقرب من أبو نضال -طلب عدم الكشف عن هويته- فإن النظام السوري في ذلك الوقت أقام علاقة مع المجلس الثوري بقيادة أبو نضال، ليساعده على اغتيال شخصيات مزعجة في تنظيم الإخوان المسلمين السوريين بالخارج.
وأوضح المصدر ذاته أن أبو نضال كان يريد أن يتعاون مع نظام الأسد، ليحصل بالمقابل على الدعم المادي أو الأسلحة، وهكذا بدأ رجال أبو نضال يجتمعون مع رجال الاستخبارات السورية لبحث الأهداف المطلوبة وكيفية تنفيذ عمليات الاغتيال.
وفي عام 2004، وقعت مفاجأة أخرى عندما سلم المدعو فادي حمدي نفسه للشرطة الألمانية، واعترف بمشاركته في اغتيال السيدة طنطاوي عام 1981، وأنه حصل على أموال من النظام السوري بعد تنفيذه الجريمة.
لكن هل كان العطار هو المقصود بالاغتيال وليست زوجته؟ بحسب المصدر المقرب من أبو نضال، فإن السيدة طنطاوي كانت مستهدفة لذاتها، وأنه لا مجال للخطأ في مثل هكذا عمليات، حيث تكون التعليمات واضحة بالنسبة للقتلة.
كما يرجح الكثير من الأمنيين والصحفيين هذه النظرية، مشيرين إلى أن القتلة كانوا يراقبون المنزل لفترة من الزمن، وكانوا يعلمون أن العطار غير موجود فيه.
وبحسب العطار، فإنه كان قد ترك المنزل قبل نحو أسبوع في مهمة ما، وإن زوجته كانت ترافقه في كثير من الأحيان في تنقلاته، وأحيانا تبقى بالمنزل، حيث تتولى -عبر الهاتف- التواصل بينه وبين زملائه في التنظيم، وتتكفل بحل بعض المشاكل الطارئة.
تواطؤ ألماني
غير أن المثير للريبة هو أن السلطات الألمانية كانت قبل أسابيع قليلة من وقوع الجريمة قد قررت رفع الحراسة عن منزل العطار، وهو ما أثار شكوكا عن مدى تواطئها مع النظام السوري بالجريمة.
وبحسب العطار، فإن قرار رفع الحماية عنه وعن أسرته كان بمثابة قرار إعدام بحقهم جميعا، مشيرا إلى أن السلطات الألمانية كانت تعلم أنه مستهدف من قبل نظام الأسد.
ولكن لماذا تم رفع الحماية عنه؟ يقول العطار إنه كان يتعرض للكثير من الضغوط للتعاون مع جهاز المخابرات الإسرائيلي "الموساد"، وبعد فشل جميع المحاولات فوجئ بقرار رفع الحماية عنه كنوع من العقاب له.