جاء شهر رمضان المبارك، وكما هو المعتاد خلال هذا الشهر تكثر النصائح والإرشادات، وتردد كلمات الوعظ، وتكثف عبارات الدعاء، وتنتشر الفتاوى عبر كل الوسائل الإعلامية وعبر خطب الجمعة، وجميعها تأتي بصورة متكررة وتحث الناس على استغلال أيام هذا الشهر المبارك بالصلاة والصدقة والزكاة.. وأينما يتجه المرء بنظره وبسمعه يجد -ولله الحمد- هذه الظاهرة الروحانية الإسلامية تسيطر على أجواء المجتمع طوال أيام هذا الشهر المبارك.
طبعًا السمة الأكبر والأهم في العبادة خلال هذا الشهر المبارك من قبل كافة الناس هي سمة "الصوم" عن الأكل والشرب وأداء الصلاة في المسجد خاصة صلاة المغرب، وهذا هو الطابع السلوكي الذي يلتزم به الجميع خلال هذا الشهر.. وهناك فئة أخرى (وهي الأقل) هي التي حرصت جدًّا خلال هذا الشهر مع صومها على الاجتهاد في المزيد من العبادة والاعتكاف والتهجد.
السؤال: هل بالإمكان أن نجعل من صوم شهر رمضان لهذا العام صومًا مختلفًا عن كل سابقه من حيث الصوم "الكامل" عن كل ما يخدش روحانية هذا الشهر من تصرفات وأقوال وأفعال، ويكون هذا الصوم المختلف بصورة مثالية غير مسبوقة لم تتحقق من قبل؟! أليس بالإمكان أن نجعل من شهر رمضان هذا العام رمضان مختلفًا بصورة كُلِّية في جميع الأفعال والتصرفات الشخصية والأسرية والاجتماعية؟
فالصوم عن الأكل والشرب خلال ساعات نهار هذا الشهر المبارك يتطلب من الصائم الصوم أيضًا عن: تجريح الآخرين - والصوم عن الشكوك - والصوم عن الظنون الخاطئة - الصوم عن الإساءة للآخرين سواءٌ باللسان أو باليد - الصوم عن الغيبة - عن النميمة - عن الكراهة - عن الحقد- عن الحسد- عن الأنانية- عن احتقار الناس - عن الطعن في الذمم - عن إهانة الغير... عن التكبر - عن الكبرياء- عن الغرور - عن التسلط - عن عدم المبالاة - عن السرقة - عن الغش - عن التزوير - صوم عن سرقة المال العام أو سوء استخدامه بأي طريقة أو بأي وسيلة - صوم عن المماطلة في رد حقوق الآخرين - عن مصادرة حقوق الغير المالية والعينية والفكرية - عن الطمع - عن الشتم - عن التهكم - وغيرها من السلوكيات والتصرفات الشخصية التي تخدش صوم المرء في هذا الشهر، وهي تصرفات فردية عابرة قد يستهين بها البعض، ولكنها قد تصادر الكثير من الحسنات!!
نريد في هذا الشهر المبارك من الجميع صومًا يعكس السلوك الإسلامي الجميل الذي ينشر الألفة والمحبة والتقارب، ويزيل كل الخلافات الأسرية والاجتماعية مهما كانت حِدَّتها.. صومًا يدفع المرء إلى المبادرة على فعل الخير في كل مجال وفي كل وقت، وتقديم المعروف وإيفاء الحقوق والواجبات للآخرين، وخاصة الوالدين ثم الإخوة ثم الأقربين ثم الآخرين.. صومًا يجبر المرء على محاسبة نفسه محاسبة ذاتية صريحة وجادة، ومراجعة تصرفاته ليردَّ ما عليه من حقوق وواجبات قبل أن يبحث عمّا له عند الآخرين!!
نريد في هذا الشهر صومًا مختلفًا يلزم المرء بالحضور إلى وقت عمله في تمام الساعة العاشرة.. وصومًا يلزمه بعدم مغادرة عمله إلا عند الساعة الثالثة.. صومًا يلزم سائق السيارة بقيادة سيارته في الشوارع بكل أدب وبكل احترام للأنظمة المرورية بدون أي تهور أو فوضوية.. صومًا يفرض على الجميع الالتزام بالنظام وبالهدوء والسكينة.. صومًا يحث الموظف على الابتسامة الطبيعية في وجه المراجع.. نريد في رمضان التزامًا جماعيًّا بإنجاز حقوق المراجعين أولاً بأول قدر الإمكان.
نريد أن ننقل روحانية هذا الشهر المبارك إلى خارج حدود المسجد.. إلى المنزل إلى الشارع.. إلى موقع العمل.. وفي كل علاقاتنا وأعمالنا. نريد أن تتجسد روحانية هذا الشهر المبارك بكل صدق وبكل مثالية وبكل صراحة وبكل ثقة وبكل طيبة في كل علاقات المرء.. مع نفسه ومع أفراد أسرته ومع الآخرين.. في الشارع، في العمل، مع الجيران.. ليس تجسيدًا ينحصر فقط خلال ساعات الصوم ثم يتلاشى بعد وجبه الإفطار!!
لا نريد أن يصوم المرء في شهر رمضان نهارًا عن الأكل والشرب ثم يحضر إلى عمله متأخرًا وبنفسٍ غير طيبة معتذرًا بالصوم!! أو نراه يقود سيارته في الشوارع بكل فوضى... أو نجده صام نهارًا وليلاً نراه قد تمادى بقولٍ أو كتابة عبارات تجريح وذم وشتم وقذف بحق الآخرين في المجالس، أو في المنتديات، أو من خلال الصحف، أو من خلال ساحات ومنتديات الإنترنت... لمجرد اختلاف في الآراء أو تضارب في المصالح أو بسبب المواقف الشخصية.
دعوة للجميع ومطلب في هذا الشهر المبارك بالتصالح.. بالتسامح.. بالعفو.. بالتنازل.. بالتواضع.. دعوة للجميع بأن نجعل من رمضان هذا العام رمضان غير ليس صومًا فقط.. بل رمضان وصوم مختلف قولاً وعملاً.. رمضان تسوده الروحانية الحقيقية، ويسوده شعور صادق قولاً وعملاً وسلوكًا ونظامًا في أي موقع، وأن نجاهد النفس على تحقيق ذلك قدر الإمكان؛ فشهر رمضان ليس فقط شهر صوم وصلاة وزكاة، أو تسابق على تقديم الصدقات، أو تفاخر بإقامة الولائم، أو تنافس على تقديم وجبات الإفطار في المساجد.. بل هو أيضًا صوم يجب أن نجسِّد من خلاله أروع الصفات الإسلامية، وأصدق العلاقات، وأسمى النوايا في كل علاقاتنا وفي أعمالنا. نتمنى أن يتحقق ذلك.. ونتمنى أن نصوم رمضان هذا العام بسلوك إسلامي متكامل[1].
[1] صحيفة الرياض السعودية، مقال بعنوان "في رمضان نحتاج إلى صوم آخر!!" بتاريخ 21/8/2009م.