رمضان في بغداد .. طقوس خالدة من الزمن الجميل
وكالة /نينا/ :
لرمضان عند البغداديين نكهة خاصة تعود بهم الى زمن مضى ، حيث كانت الطيبة والنخوة والكرم تسكن في ازقة محلات بغداد القديمة التي تستقبل هذا الشهر الفضيل بابهى صورة.
وامام جامع الشيخ صندل الذي يقع في قلب احد اقدم محلات الكرخ ، اعتاد الحاج احمد ان يقضي الساعة التي تسبق مدفع الافطار بسماع آيات من الذكر الحكيم بصوت المرحوم الحافظ خليل اسماعيل احد اشهر قراء القرآن الكريم في العراق وابن محلته ايضاً.
وعلى مائدة افطار هذا الشيخ الثمانيني في بيته ذي الشناشيل البغدادية التي تتحدى الزمن ، تشعر وكأن عبق الماضي يخرج من بين جدرانه ، فيما تحيط بنا صور الزمن الجميل لتخبرنا بحكايات ابناء المحلة او (الطرف) حلوها ومرّها ، مروراً بطقوس رمضان التي اعتادوا ان يمارسوها في هذا الشهر الكريم.
ومع (استكان) الشاي المهيّل الذي اعقب الفطور ، بدأ الحاج احمد يروي جانبا من طقوس رمضان في بغداد .. قديماً ويقول :” كانت طقوس رمضان تبدأ قبل حلول هذا الشهر الفضيل بأكثر من عشرة أيام, اذ نقوم بشراء احتياجاتنا لهذا الشهر من سوق الشواكة الذي انقرض الان وحلت محله العمارات السكنية الحديثة ، واحيانا من الشورجة ، اذ ليس هناك بيت بغدادي لا يتسوق من تلك السوق المواد الغذائية الخاصة بالأكلات الرمضانية وخاصة التوابل والسكر والشاي والبهارات والحبوب وأنواع الحلويات والرز وأنواع عديدة من العصير والسكريات “.
ويضيف ” تجتمع الأسرة في منزل اكبر فرد سناً كرمز لاحترام العادات والتقاليد التي ألفوها عند الفطور الذي يتضمن التشريب وأنواع مختلفة من الكبة سواء كبة حامض او كبة تمن أو كبة مصلاوية إضافة الى (مطبك) اللحم او الدجاج والدولمة ، وطبعا يسبق هذه الاكلات التمر واللبن و قمر الدين . وبعد الفطور يقدّم المحلبي مع الشاي المهيّل “.
اما (التمتوعة) والكلام لا يزال للحاج احمد ” فهي تكون في الساعة الحادية عشرة تقريباً قبل منتصف الليل، وتحتوي على أصناف من الحلويات كالزلابية والبقلاوة واللقم واحيانا تقدم معها أنواع من الكبة. في هذا الوقت تستعد ربة البيت لتعد اطباقا جديدة من الرز والمرق كالبامية او الفاصوليا وغيرها من الخضار، وكذلك طبق (المخلمة) “.
ويحدثنا السيد طه الشيخلي ، عن الطقوس الرمضانية في محلته (باب الشيخ) فيقول :” كانت محلتنا تمارس طقوسا رمضانية جميلة ، اذ ينصرف معظم الناس الى العبادة والتقوى ، فيما النساء يتبضعن من سوق الصدرية المشهور بالطرشي الذي يضرب به المثل. اما مسجد الشيخ عبد القادر الكيلاني فيقوم كل يوم واثناء الفطور بتوزيع الشوربة وبعض الأكلات الأخرى على الفقراء المتوزعين حوله والتي يسهم فيها بعض الميسورين من دون ان يعلنوا عن اسمائهم “.
ويسترسل في الحديث :” يجتهد البغداديون كثيرا فى إحياء العشر الأواخر من رمضان وخاصة ليلة القدر وذلك عن طريق الاعتكاف فى المساجد التي تزدحم أيام رمضان بالمصلين رجالا ونساء، والذين يحرصون على أداء صلاتي العشاء والتراويح بها “.
وللمقاهي ايام زمان وخاصة في رمضان ، جو خاص ينقلنا اليه الحاج توفيق عبد الستار الذي عاش طفولته في محلة صبابيغ الآل القديمة قرب جامع الخلفاء ، ويقول :” كان البغداديون وهم يدخنون النارجيلة ويشربون القهوة ، يصغون إلى حكايات القصخون الذي كان يشنف الاسماع ببطولات عنترة او أبي زيد الهلالي أو سيف بن ذي يزن بعد صلاة العشاء في مقاهي الجوبة والفضل وباب الشيخ والدهانة (بالرصافة)، ومقاهي الفحامة وسوق العجيمي والست نفيسة والشيخ صندل (بالكرخ) “.
ويضيف ” شاهد البغداديون في الثلاثينيات القصخون (ملا فرج) في مقهى حوري في محلة خان لاوند وعلى رأسه (جراوية) وبيده سيف خشبي ، ومثله كان القصخون (نصيف العزاوي) “.
ومع حلول شهر رمضان المبارك من كل عام تنتشر لعبة المحيبس وهي لعبة شعبية تمارس في الأحياء والمقاهي الشعبية منذ مئات السنين ويضم كل فريق من الفريقين المتنافسين الذي يمثل المحلة أو المدينة أكثر من عشرة لاعبين ويصل أحيانا إلى الف لاعب في الفرق الكبيرة ومثله في الفريق الخصم.
وكان منظمو المحيبس يقدمون الى المشاركين والجمهور الحلويات وهي على الاكثر الزلابية والبقلاوة.
وساعدت هذه اللعبة على تقوية اواصر المحبة والطيبة وتوطيد الاخوة بين العراقيين حيث يتساوى بها الجميع وتتلاشى فيها الفوارق ، وكمثال على ذلك المباريات التي كانت تشهدها مدينتا الكاظمية والاعظمية.
وفي منتصف رمضان يجتمع الاولاد حاملين أكياساً من القماش ويتجولون في محلتهم مرددين اهازيج شعبية ومطالبين بعض البيوت باعطائهم بعض أنواع الحلوى ومن تلك الاهازيج ” ماجينا يا ماجينا حلي الكيس وانطينا ” ثم يرددون ” يا اهل السطوح تنطونا لو نروح ” فتخرج صاحبة الدار وتعطيهم بعض الحلوى .
اما (ابو الطبل) او المسحراتي ، فيقوم بايقاظ الصائمين متطوعا وهو ينادي بأعلى صوته (سحور.. سحور.. سحور) ، ثم يتبعها صائحا بنغم ثابت (اصحى يا صايم ووحد الدايم).
و(ابو الطبل) الذي يسمعه البغداديون تحول الى جزء من طقوس شهر رمضان المبارك وغالبا ما يتوارث هذا الطبال هذه المهنة عن ابيه واجداده وان يكون أمينا ومعروفا من قبل سكان المحلة او الازقة التي يجوبها، وعادة يكون لكل طبال منطقته المعينة والمحددة جغرافيا ولا يجوز ان يتجاوزها للمناطق الأخرى التي لها طبالوها المعينون.
وسيدات البيوت البغدادية هن أول من يرهفن السمع لالتقاط ايقاع الطبل القادم من مسافة غير قريبة، وايقاعه على الطبل وصوته العالي يوقظ تلك النسوة اللواتي يقمن بتهيئة الطعام والشراب لأهل بيوتهن استعدادا لصيام يوم جديد.
وتبقى طقوس رمضان في بغداد تتحدى الزمن ، ويصر البغداديون على بقائها جزءا من تراثهم الخالد.