جماليات البيوت التراثية البغدادية يقتلها الألوكوبوند!



كتابة وتصوير/ حسين رشيد
لم يكن ببال أبي هيثم الذي اضطر الى ترك البلاد في فترة مبكرة من حياته ربما كانت أوائل السبعينيات لظروف سياسية أن يكون حال زقاقهم بهذا الشكل وبيتهم بشكل خاص، ذلك البيت الذي تزيّنه الشناشيل والأقواس والزجاج الملوّن، والحوش الذي طالما جمع ضحكاتهم
لم يكن ببال أبي هيثم الذي اضطر الى ترك البلاد في فترة مبكرة من حياته ربما كانت أوائل السبعينيات لظروف سياسية أن يكون حال زقاقهم بهذا الشكل وبيتهم بشكل خاص، ذلك البيت الذي تزيّنه الشناشيل والأقواس والزجاج الملوّن، والحوش الذي طالما جمع ضحكاتهم ايام الطفولة والصبا، فقد تحولت المنطقة الى قطع خرسانية غريبة من الشكل المألوف لزقاقهم الكرادي المشهور، الحدائق اختفت بشكل تدريجي بعد أن كانت العوائل تتباهى بانواع الشتلات والاشجار في كل حديقة.
لكن اكثر ما أوجع أبا هيثم الشكل الخارجي لبيت جارهم السابق أبي معين الذي اضطر لبيعه لحاجة مالية. فقد محت الواجهة الامامية للبيت وحلّ محله ما يُعرف بـ(الالوكوبوند) بالوان لا تمثل إلا الفوضى البصرية التي سمع عنه، تأمله طويلا وهو يتذكر كل تفاصيل الواجهة التي كانت تعد الأجمل بين بيوت المنطقة.
سبق وان اعلنت أمانة بغداد عن اتخاذ إجراءات مشددة لمنع تحويل البيوت التراثية الى مبانٍ تجارية حفاظاً على الإرث الحضاري والمعماري والجمالي للعاصمة بغداد، مؤكدة: على اهمية الحفاظ على المباني التراثية ومنع تحويلها الى مرافق تجارية واتخاذ اشد الإجراءات المنصوص عليها في القوانين والانظمة البلدية بحق المخالفين ، مشيرة إلى انها لم تمنح أيّةَ اجازة هدم لأيّةِ جهة تروم تحويل بيت تراثي الى مبنى تجاري في اطار سعيها الجاد للحفاظ على هويتها المميزة وتأصيل القيم والعناصر الأثرية فيها التي تعد الركيزة الأساسية للمحافظة على المباني والمناطق التراثية في العاصمة بغداد.

ذاكرة المجتمع
المعماري خالد السلطاني وصف هذه الظاهرة بحديثه لـ(المدى) انها تشويهات تجري على الموروث المعماري. مضيفا: ان كل ذلك يحدث بسبب الجهل والفقر الثقافي ونزعة الشعبوية وعدم الاهتمام السائدة في جميع مناحي البلاد، مع الأسف. مشدّداً على ضرورة الحفاظ على هذا الموروث المعماري وصيانته باعتباره جزءا مهمّا من ذاكرة المجتمع وامتداداً لهذه الذاكرة في الزمن.
واضاف السلطاني: اعتقد أن الشعب الذي لا يتمكن من صيانة إبداعه، هو شعب لا يمتلك ذاكرة يسخرها في المزيد من البناء الحضاري. موضحا: بل انه لا يعي أن الذاكرة هي أساس في تكوين وجدان المجتمع وهو قول لا يمكن للمرء، إلا أن يتفق معه.
النسيج العمراني المميـّز
سبق وان اتخذت أمانة بغداد الاجراءات الكفيلة بمنع التجاوز على الدور التراثية حفاظاًً على الإرث الحضاري والمعماري والجمالي للعاصمة بغداد . وذكرت الامانة حسب موقعها الالكتروني: انها وجهت دوائرها البلدية كافة ودائرة عقارات الامانة بمتابعة البيوت التراثية بجانبي الكرخ والرصافة من العاصمة بغداد والحفاظ على طابعها التراثي ومنع التجاوز عليها او هدمها او ترميمها وتغليفها بالطرائق الحديثة المخالفة للأسس المعمارية وإتخاذ اشد الإجراءات المنصوص عليها في القوانين والانظمة البلدية بحق المخالفين.
وأشارت الى ان امانة بغداد أزالت التجاوز الذي حدث على احدى الدور التراثية في منطقة الباب المعظم بعد تغليفها بمادة الايكوبوند من قبل مالكها وتوجيه ملاكات دائرة بلدية مركز الرصافة بمتابعة الحالات المماثلة وإزالتها فوراً للحفاظ على الموروث التراثي للعاصمة. موضحة: انها تحرص على صيانة وترميم البيوت التراثية بالطريقة الموضوعية والصحيحة التي تحفظ لبغداد أبنيتها ومكانتها ونسيجها العمراني المميز بالتعاون والتنسيق مع الجهات ذات العلاقة المعنية بشؤون الثقافة والتراث والآثار.

ضعف الحكومة
الباحث في التراث البغدادي عادل العرداوي ذكر بحديثه لـ(المدى) أن قرار حماية وصيانة البيوت التراثية في بغداد ليس بالأمر أو الإجراء الجديد، بل هو قائم وموجود منذ أكثر من 30 سنة مضت، مضيفا: انه قرار قانوني صارم صادر من أعلى سلطة في البلاد في حينه وهو ساري المفعول حتى الوقت الحاضر، مستدركا: لكن الخلل في تطبيق وتفعيل ذلك القرار الذي يتأثر بالظروف التي تمر بها البلاد.
وأوضح العرداوي: عندما تكون الحكومة قوية وقبضة القانون محكمة فإن التجاوزات تنحسر وتقل خوفاً من الإجراءات القانونية والعكس صحيح. عاداً: هذا ما ينطبق على حال البيوت التراثية في بغداد المشخصة والمعروفة والمؤشرة أنها تراثية في سجلات أمانة بغداد وهييئة الآثار والتراث ومحمية بقانون خاص بها.

حرق البيوت التراثية
واضاف الباحث في التراث البغدادي: مشكلة الخروقات التي تتعرض لها هذه الشواخص إنما يكمن في ضعف تطبيق القانون وفي جشع أصحاب العقارات والأملاك الذين لا يعترفون بتراثية املاكهم وعقاراتهم تلك، مسترسلا: بل يريدون التصرف بها حسب رغبتهم بما يحقق لهم استثمارها والتربّح منها بشكل تجاري بحت من دون اهتمامهم بموضوعة التراث التي تعيقهم من تحقيق الفائدة الربحية المرجوة منها.
واستطرد العرداوي: لذلك تجد قسماً كبيراً منهم يتحايل على قرار حماية تلك البيوت بشتى الطرق والتصرفات غير المسؤولة والمخالفة للقانون من بينها قيامهم بحرق تلك البيوت وفق طريقة أمر دُبـِّر بليل أو يسجل حادث الحريق جراء أسباب مجهولة وذلك لإجبار الجهات البلدية لمنحهم إجازات بناء تجيز لهم إعادة بناء البيت المحروق بصورة مغايرة لوضعه السابق وهكذا دواليك. وخَلُصَ العرداوي إلى القول: إن تحسن الظروف الأمنية في البلاد وإعادة هيبة الدولة والقانون كفيل بحماية هذه البيوت التراثية المميزة من تغليفها بمادة (الألوكوبوند) أو أية تغييرات أو تشوهات أخرى يقوم بها أصحابها.

200 دار مهددة
رئيس لجنة السياحة والآثار في مجلس محافظة بغداد مازن رزوقي، اكد ان القسم الاكبر من الدور الأثرية والتراثية مهددة بالزوال جراء الوضع الاقتصادي الذي يعيشه المجتمع العراقي. مضيفا: إنّ الدور التراثية والمنتشرة في عموم بغداد باتت معرضة الى الضرر وتغيير الاستعمالات والبيع بشتى الوسائل والطرق لغرض الاستفادة منها مادياً.
وأوضح رزوقي: هناك تقريباً 200 دار تراثي مهدد بالزوال من جراء هذه الأفعال غير المسؤولة، مردفاً: إن بعض المواطنين قاموا بإغراق بعض الدور وحرقها، ليتسنى لهم انتهاز الفرصة وبيعها بأسعار خيالية بجحة تضررها وتصدعها و تهرُّئها مما يجيز لهم قانوناً هدمها.
واضاف رئيس لجنة السياحة والآثار: ان تغييراستخدام الدور التراثية بهذه الطريقة الشنيعة ستؤدي الى تغيير المعالم التراثية لهذه الدور، مقترحاً: أن يقوم مجلس محافظة بغداد بالتعاون مع دائرة التراث بشراء وترميم بعض هذه الدور وتحويلها الى متاحف تراثية وقاعات لعقد الندوات الثقافية والأدبية او الى مطاعم او كازينوهات تستقطب كثيرا من السيّاح الاجانب ومحاولة إنقاذ ما يمكن إنقاذه منها.

البيوت التراثية مراكز ثقافية
المجموعة الوطنية للسياسات الثقافية ذكرت على لسان العضو المسرحي كاظم النصار لـ(المدى) أنهم كانوا يتطلعون إلى دور أكبر لأمانة بغداد في الالتفات للشأن الثقافيّ، بدءاً من فسح المجال أمام المنتديات والمنظّمات الثقافيّة الفاعلة لإقامة أنشطتها في البيوت التراثيّة واستثمار فضاءاتها للعمل الثقافيّ، كونها بحسب اطّلاعنا، إمّا مغلقة ومهملة، أو سيطر عليها سياسيون وأحزاب من دون وجه حقّ، كما في أحد البيوت بشارع حيفا، قرب مبنى وزارة الثقافة، الذي يسيطر عليه عضو مجلس نوّاب جعله مقراً لتياره! والأمثلة كثيرة على ذلك.
وأضافت المجموعة ، أن المثقفين والفنانين كانوا يتطلّعون أيضاً لأن تلتفت الأمانة إلى أسماء الشوارع البغداديّة ورموز بغداد في الثقافة والفــنّ العراقيين، بأن تطلق أسماء روّاد ثقافتنا على بعض شوارع العاصمة، متسائلة: لِِمَ لا يُطلق اسم المسرحيّ الرائد د. صلاح القصب، على أحد الشوارع الرئيسة ببغداد، ولِمَ لا يحمل شارع آخر اسم الفنّان التشكيليّ الرائد ضياء العزاوي، وأيضاً ألا يستحق رمز شعريّ وثقافيّ بحجم مظفر النوّاب، أن يُطلق اسمه على شارع ببغداد، وليكن في مدينته الكاظمية.

خصوصية بغداد العمرانية
الباحث والأكاديمي د. معتز عناد غزوان ذكر لـ(المدى) لاشك أن التراث راسخ في لمساته الزمكانية في معظم المعالم البصرية المهمة التي تحاكي تاريخاً متراكماً من الخصائص الجمالية في تشكيل المعمار العراقي منذ نهايات القرن التاسع عشر مروراً بالقرن العشرين حتى يومنا هذا، مؤكدا: على حضور الخصوصية والهوية العمرانية لاسيما البغدادية بوصفها اللبنة الأساسية للتحضر والتقدم والنمو آنذاك.
واضاف غزوان: ارتبط المعمار بخصائصه البغدادية المعروفة من الشناشيل والمحجرات وطريقة بناء البيت البغدادي والذي يطلق عليه بالعامية (الحوش) بخصوصية المدينة وشرايينها الأساسية وتفرعات تلك الشرايين لتؤلف الكتل السكانية آنذاك. مستطردا: لقد باتت تلك المباني تشكل نوعاً من الإحساس بالانتماء الحقيقي للتاريخ والموروث والحضارة، وان عملية إزالة تلك المظاهر هي عملية غير حضارية لأنها بالتالي ستمحو وجه وخصوصية بغداد وهويتها العمرانية.

فضلات الحضارة الغربية
واسترسل الباحث والأكاديمي : تميزت عمارة بغداد بمميزات نادرة في طبيعة تشكيلها ومكوناتها الزخرفية والجمالية التي لا نظير لها في دول الشرق الأوسط الأخرى. مضيفا: نلاحظ أن العديد من الدول لاسيما الأوروبية منها قد حافظت على خصوصية تلك العمائر إلى يومنا هذا كما في باريس وروما ولندن وغيرها. مبينا: إن الحاجة اليوم إلى رفض تهديم تلك المعالم التراثية المهمة باتت ملحة للغاية ولابد من الحفاظ على هوية بغداد وخصوصيتها من خلال المحافظة على نسيجها العمراني بعيدا عن اختلاط ذلك النسيج مع الأبنية العشوائية الآن لأنها ستؤدي إلى التلوث البصري وفقدان الهوية والخصوصية.
واختتم غزوان حديثه عن ظاهرة تغليف البيوت التراثية بمادة (الألوكوبوند): من واجب الحكومة اليوم أن تحافظ على النسيج العمراني لبغداد وتمنع عملية تهديمه وإعادة بناء أبنية عشوائية لا تمت لتراث بغداد بصلة، داعيا: مجلس النواب لاسيما اللجنة الثقافية فيه إلى سن القوانين المهمة التي من شأنها الحفاظ على النسيج العمراني الأصيل لبغداد وترسيخ هويتها الثقافية والاجتماعية، مشيرا: الى التشويه الكبير الذي يقوم به المقاولون الآن بالاستعمال السيء للتغليف بمادة (الألوكوبوند) الذي أساء لتلك العمارة البغدادية وقد وصفها المعماري العراقي الرائد الدكتور قحطان المدفعي بأنها فضلات الحضارة الغربية!




فارزة

ينسحب الدمار الذي لحق بالبُنى التحتية العراقية بشتى مجالاتها على البيوت التراثية البغدادية ايضا، التي تشكل مَعلـَماً وسمة مميزة من سمات بغداد الجمالية الزمكانية والتي ارتبطت بطبيعة الحياة البغدادية وطريقة معيشة العائلة عبر فضاءات بنائية متناسجة بخيط عمراني من طراز فريد جدا كما هو الحال في بيوت منطقة البتاوين التي آلَ معظمها للسقوط او التخريب مع محاولة تجميل / تشويه معالم ما تبقى منها او ما يصلح للسكن بالتغليف او الاعمار بمواد بناء لا تلائم فترة بنائه ولا المواد المستخدمة بالنباء... ووفقاً لإحصاءات حكومية فإن ما تبقى من بيوت بغداد التراثية نحو ستمئة بيت من أصل ألف و ثلاثمئة حافظت على نفسها حتى عام 2003. وبعد ذلك تناقصت هذه الستمئة إلى اقل من مئتين الأمر الذي ينذر بكارثة عمرانية تستهدف التراث العمراني.
في أحد أزقة الكرادة الواصلة بين شارع ابي نؤاس والكرادة داخل كان ثمة أربعة بيوت تراثية بغدادية مشيدة بطريقة رائعة في غفلة تحولت إلى بيوت مقطعة على شكل مشتملات صغيرة مغلفة بمادة (الألوكوبوند) على طريقة البنايات المشيدة حديثا او كتلك التي تدخل مرحلة الاعمار والتأهيل، ولا بأس اذا كان من اجل إعادة الحياة الى البناية او الى الواجهة العمرانية التي يمكن إن تضفي جمالا إلى الشارع بشكل عام لكن هذا الامر للاسف خلق فوضى بصرية متمثلة (بالألوكوبوند) الذي وصل غزوه إلى البيوت التراثية البغدادية الامر الذي جعل امانة بغداد تصدر تعليمات مشددة بهذا الخصوص. لكن الامر يتوقف على مدى تنفيذ وتطبيق هذه التعليمات التي لابد إن ترافقها عقوبات صارمة بحق المخالفين حتى لو وصلت إلى الامر إلى السجن من اجل الحفاظ على جزء من الارث البغدادي العمراني. بالمقابل منح مكافآت وتسهيلات لمن يحافظ على أملاكه التراثية او من يحولها إلى منتديات ثقافية وفنية وادبية وبالامكان إن تدخل الدولة عبر مؤسساتها المعنية مساهمةً بالامر إن لم تستطع شراء تلك الاملاك بحجة الازمة المالية الحالية التي لم تكن موجودة قبل سنين في ظل فائض مالي كبير في موازنات انفجارية لكنها ذهبت إلى جيوب وارصدة السرّاق بدل أن تعمر بها العاصمة ومدن البلاد الاخرى ولو بالمحافظة على الارث العمراني لكن غياب العقول المنتجة والوطنية ترك أثره بهذا الشأن مع ضياع فرصة اخرى تمثلت باختيار بغداد عاصمة للثقافة العربية عام 2012 لكن ذهبت سدى مثلما هُدرت عشرات المليارات من دون محاسبة المقصرين بذلك، اذ كان بالامكان اعادة الروح إلى تراث بغداد العمراني ببعض من هذه المليارات.
من الجيد أن يجري تشخيص المباني التراثية بشكل دقيق ومواصلة هذا التشخيص وفق ثوابت يجري تحديدها وقد يكون من المفيد الإشارة الى تحديد عمر المبنى الذي يُعدُّ تراثيا . ولكي تجري حماية المبنى التراثي من الحرق او الأتلاف بغية تحويله الى مرفق تجاري على أمانة العاصمة أن تأخذ تعهداً من مالك المبنى بالمحافظة عليه وتحمله كافة النتائج المترتبة على اتلافه او الأضرار به وبخلاف ذلك يجب على الأمانة ان تضع يدها على المبنى وتتولى هي المحافظة عليه بعد تعويض عادل لصاحبه . وعلى الأمانة ايضا والدوائر المهتمة بالعمارة العراقية أن تدرس وتحدد ملامح التراث المعماري العراقي وتبدأ بعد ذلك ببناء كل الدوائر الرسمية وفق تلك الملامح وتطبيقها وعند ذاك ستكون هناك الكثير من الأبنية التراثية المملوكة للدولة والتي لا يمكن أن تمتد اليها يــد القطاع الخاص المتهالك على الأرباح حتى لو باع تراثه .