بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم وسهل مخرجهم
وصل اللهم على فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها والسر المستودع فيها عدد ماأحاط به علمك
وعجل فرج يوسفها الغائب ونجمها الثاقب واجعلنا من خلص شيعته ومنتظريه وأحبابه يا الله
السلام على بقية الله في البلاد وحجته على سائر العباد ورحمة الله وبركاته
عن أمير المؤمنين عليه السلام :"أيها الناس، إنما الدنيا دار مجاز والآخرة دار قرار، فخذوا من ممرِّكم لمقرِّكم..." (1) إن الرؤية التي يتبناها الإنسان في حقيقة الدنيا والآخرة تشكل الأسس الهامة في تحديد حاجاته ونمط حياته وسلوكه. الدنيا والآخرة هما مرحلتان من الحياة المستمرة والأبدية للإنسانية جمعاء، وهاتان المرحلتان مرتبطتان بعضهما ببعض ارتباطاً وثيقاً. إن شكل الحياة الدنيوية في النظرية الإسلامية هو الذي يصنع الآخرة عند الإنسان. وكل من يتمتع بالإيمان والعمل الصالح فإنه يؤمّن سعادته الأبدية. وأما الفاقد للإيمان أو العمل الصالح فلم يهيئ الزاد للآخرة وكان فيها من الخاسرين وأصحاب الحسرة. بناء على هذه الرؤية فإنَّ حاجة الإنسان إلى الهداية الإلهية وإلى تعاليم قادة الدين هي حاجة إلى الحصول على سلوك مطمئن يؤدِّي به إلى الحياة الأبدية والسعيدة، لا بل إلى الوصول إلى الكمال الحقيقي. لو لم تتمتع هذه الرؤية بواقعية فلن تبقى أي حاجة إلى الشرائع السماوية والهداية الإلهية.
* جوانب الحياة الإنسانية
عندما يقوم الإسلام بتقديم برنامج عملي وسلوكي على مستوى الفرد والجماعة وفي الأبعاد الأخلاقية والتربوية والاقتصادية والسياسية والقضائية، والعبادية والحقوقية و... فما ذلك إلا لأن هذه الأبعاد تؤثِّر في مصير الإنسان الأبدي، ولأن جميع هذه الأمور تساهم في تأمين السعادة الخالدة للإنسان. ولن نتمكن من بناء آخرة حقيقية من دون الأخذ بعين الاعتبار جميع جوانب الحياة الإنسانية. ثم إنّ كل من كان في هذه الدنيا أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضلّ سبيلاً. ولا بد من أجل الخروج من الضلال والحيرة والوصول إلى النجاة، من خلال العمل في هذه الدنيا على أساس المعرفة والبصيرة. وهذا العمل كان من أسس حركة الدين والرسالات السماوية. وهو الدور الذي اضطلعت به الرسالات السماوية والذي لا يمكن لأي معرفة أو تجربة بشرية صرفة أن تقوم به.
* لتأمين السعادة الأبدية
ومن هنا نفهم تدخل الإسلام في جميع أمور العالم. فلم يبقَ شيء له علاقة بسعادة الإنسان إلا وذكره الإسلام. فحرّم الإسلام كل ما يمكن أن يلحق الضرر بسعادة الإنسان وأوجب كل أمر ضروري له. ولهذا كان حلال محمد صلى الله عليه وآله حلالاً إلى يوم القيامة وحرامه حراماً إلى يوم القيامة. حتى أن الأحكام الثانوية أو الأحكام الحكومية كانت في إطار إصلاح الحياة الدنيا للإنسان، وكل هذا في سبيل تأمين السعادة الأبدية والخالدة. وهنا يطرح الإمام أمير المؤمنين عليه السلام في كلماته القصيرة الرؤية الصحيحة حول الدنيا والآخرة، ويدعونا لأن نتزود من دنيانا لآخرتنا على أساس أنَّ الحياة الدنيا هي تنقضي ولا تبقى، وأما الحياة الآخرة فهي الأبدية الباقية.
* حياة دنيوية أخروية
ثم إن العقل يقضي بأن نقدِّم الفاني لأجل الباقي وأن نضحِّي بالأمور المؤقتة لأجل الأصيلة الباقية. وعلى هذا يتوجب علينا أن ننظِّم أمور حياتنا الدنيا على أساس أن تكون مفيدة ومثمرة في الآخرة. السعداء هم الذين يقلّلون صرفهم من أجل رأسمالهم، وهم الذين يُخرجون قلوبهم من تعلّقات الدنيا قبل أن تخرج أبدانهم منها. عادة ما يسأل الناس بعد موت الشخص "ما الذي تركه؟" ولكن ملائكة اللَّه تعالى تسأل "ما الذي قدّمته وعملته من أجل نفسك؟". على أساس هذه الرواية تنتظم الحياة الاجتماعية وتحل العدالة والمساواة والإنصاف مكان الظلم، ويكون التعاون والخدمة مكان الاستثمار والاستعمار، والمحبة مكان الحسد والبغضاء، والزهد مكان الحرص والبخل. وفي النهاية يمكننا أن نصنع من هذه الحياة الدنيوية حياة أخروية.
نهج البلاغة، الشريف الرضي، ج 2، ص 183.