ما مدى تأثير الثقافة والأدب العربيين على ثقافة وآداب الشعوب الأخرى؟ وهل تمت دراسة هذا الجانب الحيوي في مرحلة من المراحل المختلفة؟ وما هو حجم هذا التأثير إن وجد؟ وفي حال عدم وجوده، ما هي أسباب هذا الغياب؟
مثل هذه الأسئلة الملحة لم يتصدّ لها الباحثون على كثرتهم في الواقع، ولم يشغل العرب أنفسهم بمثل هذه الموضوعات المهمة التي تتطلب رؤية استراتيجية عميقة ومدروسة وشاملة تتيح إدارة مثل هذه الأسئلة والأبحاث وقياسها.
فقد ظلت التأثيرات الثقافية العربية على الشعوب الأخرى المحيطة بعالمنا العربي مجهولة وليست ذات شأن وبعيدة عن اهتمامات الباحث العربي، باستثناء التأثيرات الدينية نتيجة لحاجة تلك الشعوب إلى تعلّم العربية لقراءة القرآن على سيل المثال. عدا ذلك، ظلت الثقافة العربية على مدى قرون، ثقافة متلقية للتأثيرات والأفكار والتجارب من خارجها، حتّى عندما كانت في أوج عِزها وتألقها في الأندلس، اقتصر تأثيرها على المعمار وبعض العلوم الأساسية التي ظلت رهينة عصرها وسرعان ما تضاءلت، حالما تفككت الدولة العربية هناك في أعقاب سقوط غرناطة.
نقرأ اليوم الكثير عن تأثر المثقفين العرب بأدباء ومفكري الغرب، بشقيه الإنكلوسكسوني والفرانكفوني، لكننا لم نقرأ شيئا يذكر عن تأثر المثقفين والأدباء والمفكرين في تلك البلدان بالثقافة والأدب والفكر العربيين، ناهيك عن غياب أو غموض مثل هذا التأثير على ثقافات البلدان الآسيوية والأفريقية على سبيل المثال، على الرغم من اتّساع رقعة الثقافة والأدب العربيين وتعدد أصواتهما.
ومن جهة أخرى، هناك غياب شبه تام للاستراتيجيات الخاصّة بالترجمة والترجمة المعاكسة. وفي الوقت الذي تضع فيه بلدان العالم المختلفة الخطط والأفكار لدعم آدابها ومنتجها الفكري والعمل على ترجمته ونقله إلى لغات العالم الأخرى وتخصيص الجوائز الكبرى لأفضل الأعمال المترجمة إلى لغاتها، تغيب مثل هذه الاستراتيجيات عن المُخطِّط العربي.
ولا أحد يعرف بالضبط ما مدى تأثير أدب نجيب محفوظ على الآداب الشرقية الأخرى على سبيل المثال، أو مدى تأثير ألف ليلة وليلة على الأدب الصيني أو الأميركي اللاتيني، باستثناء دراسات قليلة، سبق وأن تصدت لتأثر أدب جيمس جويس بألف ليلة وليلة وغيرها من الإشارات المتفاوتة هنا وهناك، لعل أبرزها الدراسة المهمة والمعمقة التي أنجزها الدكتور محسن جاسم الموسوي عن تأثر الأدب الإنكليزي بألف ليلة وليلة.
حتّى في بلدان الخليج العربي، حيث الوفرة المالية وتخصيص المبالغ المهولة لجوائز الأدب والثقافة ذات المردود الإعلامي البحت، ظلت مثل هذه القضية الحيوية غائبة عن اهتمام المخطط أو الخبير أو المستشار العربي الذي يعمل في تلك المؤسسات التي أُريد لها أن تكون بديلا لمراكز الأبحاث الثقافية والفكرية في البلدان العربية الأخرى ذات النتائج المحدودة بسبب شحة التمويل.
لقد هالني قبل أيّام صدور كتاب جديد باللغة الهولندية عن تأثر الأدب الهولندي- الفلامنكي بالأدب الإسرائيلي عن المحرقة وملامح هذا التأثير على الروايات والأفلام السينمائية الهولندية التي أنتجت في ستينات وسبعينات القرن الماضي، بينما ظل تأثير ألف ليلة وليلة العربية، التي ترجمها المستشرق وأستاذ الآداب الشرقية ريتشارد فان ليون، على الأدب الهولندي مجهولا، على الرغم من صدور الكتاب منذ أكثر من ثلاثة عقود وقد حظي بانتشار وتوزيع واسعين.
إن الخلل في هذه المعضلة هو غياب الاستراتيجيات الموحدة ومراكز الدراسات والبحوث الثقافية والفكرية العربية. وعلى الرغم من بعض الاختراقات الفردية التي تسجلها بعض الروايات العربية المترجمة هنا وهناك، ستبقى الثقافة العربية ثقافة متلقية وغير ذات تأثير واضح على الثقافات الأخرى للأسف.
محمد حياوي