«اللهمَّ إن كنتُ أصلح للمسلمين من ابن أبي عامر فانصرني، وإن كان هو الأصلح لهم فانصره» هذا ما قاله غالب بن عبد الرحمن الناصري أحد القادة البارزين في الأندلس قبيل معركة شنت بجنت التي أُشْعِل فتيلها بينه وبين محمد ابن أبي عامر حاجب الخليفة هشام بن الحكم حينذاك..
أسباب معركة شنت بجنت
في عهد عبد الرحمن الناصر وبالتحديد في سنة (335ه= 946م) برز اسم غالب بن عبد الرحمن الناصري[1]، فكان مولًى لعبد الرحمن الناصر، ثم أصبح من أكابر دولة ابنه الحكم، ومن أعظم قادة الأندلس ورجالاتها [2]، وقد تزوَّج محمد ابن أبي عامر من ابنته [3].
كان غالب الناصري هذا يتمتَّع في قرطبة وسائر مدن الأندلس بسمعةٍ عاليةٍ في ميدان الفروسيَّة والقيادة، وهو ما كان ينقمه عليه محمد ابن أبي عامر، ولم يمضِ قليلٌ حتى ساء التفاهم بينهما، فعمد غالب الناصري إلى مصانعة ابن أبي عامر، ودعاه إلى وليمةٍ في مدينته أنتيسة، وجاء ابن أبي عامر في بعض أصحابه، فانفرد به غالب الناصري وشرع في عتابه، ثم اشتدَّ بينهما النقاش، فشهر غالب الناصري سيفه على صهره فجأةً، فأصابه في بعض أنامله وصدغه، واستطاع ابن أبي عامر أن يفرَّ ناجيًا بنفسه، وسار لفوره إلى مدينة سالم، حيث دار غالب الناصري وأهله، فاستولى عليها وعلى سائر أمواله ومتاعه[4].
أحداث معركة شنت بجنت
جهَّز ابن أبي عامر جيشًا من قرطبة ثم سار به إلى ملاقاة غالب الناصري، وهنا اتَّصل غالب الناصري براميرو الثالث ملك ليون، وطلب منه النجدة ضدَّ جيش قرطبة، فأمدَّه راميرو بجزءٍ من جنده [5]، والتقى الجيشان في (4 من المحرم سنة 371هـ= أغسطس سنة 981م) أمام حصن شنت بجنت [6]؛ جيش قرطبة يقوده ابن أبي عامر في القلب، وعلى الميمنة جعفر بن حمدون، وعلى الميسرة الوزير أحمد بن حزم والد الإمام ابن حزم أمام جيش غالب الناصري ومعه جيش ليون، ومع أنَّ غالب الناصري كان قد بلغ الثمانين إلَّا أنَّه هجم على الميمنة فغلبها ومزَّقها، ثم عاد وهجم على الميسرة فغلبها ومزَّقها أيضًا، وما هو إلَّا أن واجه القلب وفيه ابن أبي عامر، فرفع غالب صوته قائلًا [7]: "اللهمَّ إن كنت أصلح للمسلمين من ابن أبي عامر فانصرني، وإن كان هو الأصلح لهم فانصره" [8].
نتائج معركة شنت بجنت
ترك غالب الناصري القتال ومشى بفرسه إلى خارج الجيشين، فظنَّ الناس أنَّه يُريد الخلاء، ثم طال غيابه، فذهب بعض جنوده للبحث عنه فوجدوه ميتًا بلا أثر ولا ضربة ولا رمية، وفرسه واقفٌ بناحيةٍ يمضغ لجامه، ولا يعلم أحدٌ سبب موته، فعادوا بالبشرى إلى ابن أبي عامر [9].
وحُمِلت رأس غالب الناصري في الحال إلى ابن أبي عامر، فدبَّ الوهن والذعر إلى قوَّاته، وطاردتها قوَّات الأندلس وأمعنت فيها قتلًا وأسرًا، وهلك من الجند النصارى الذين كانوا يُقاتلون إلى جانب غالب عددٌ كبير، وقُتِل كذلك في المعركة عدَّةٌ من الكبراء والقادة المسلمين، الذين كانوا مثل غالب يُعارضون سياسة ابن أبي عامر، هذا وقد بلغت القسوة بابن أبي عامر أن أمر بالتمثيل بجثمان خصمه الصريع الباسل، فحُشِي جلده بالقطن، وصُلِب على باب القصر بقرطبة، وصُلِب رأسه على باب الزاهرة، ولبث كذلك دهرًا، حتى أدركه الإمام ابن حزم رحمه بنفسه سنة (399هـ= 1008م) [10].
[1] سالم بن عبد الله الخلف: نظم حكم الأمويين ورسومهم في الأندلس، عمادة البحث العلمي بالجامعة الإسلامية، المدينة المنورة، المملكة العربية السعودية، الطبعة الأولى، 1424هـ= 2003م، 2/ 512.
[2] محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس، مكتبة الخانجي، القاهرة، الطبعة الرابعة، 1417هـ= 1997م، 1/ 512.
[3] المقري: نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب، تحقيق: إحسان عباس، دار صادر، بيروت، لبنان، 1900م، 1/ 400.
[4] لسان الدين بن الخطيب: أعمال الأعلام، تحقيق: سيد كسروي حسن، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، 2/ 65، ومحمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس، 1/ 537، 538.
[5] راغب السرجاني: قصة الأندلس، مؤسسة اقرأ للنشر والتوزيع والترجمة، القاهرة، الطبعة الأولى، 1432هـ= 2011م، 1/ 263.
[6] محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس، 1/ 538، 539.
[7] راغب السرجاني: قصة الأندلس، ، 1/ 264.
[8] ابن حزم الأندلسي: رسائل ابن حزم، تحقيق: إحسان عباس، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بناية برج الكارلتون، ساقية الجنزير، بيروت، لبنان، الطبعة الثانية، 1987م، 2/ 94.
[9] ابن حزم الأندلسي: رسائل ابن حزم، 2/ 94، 95، وراغب السرجاني: قصة الأندلس، 1/ 264.
[10] محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس، 1/ 538- 540.
قصة الإسلام