لمكان قصر الرحاب في منطقة الحارثية بجانب الكرخ من بغداد، الزمان صبيحة الرابع عشر من يوليو (تموز) 1958، فوج من الجيش العراقي يتقدم على القصر الملكي المتواضع ويأمر الملك الشاب فيصل الثاني وبقية العائلة المالكة بالخروج من القصر الذي كان قد تعرض لقصف مدفعي وإطلاق الرصاص.
تخرج العائلة المالكة، كانت الملكة عالية أرملة الملك غازي الاول ووالدة الملك فيصل الثاني تضع نسخة من المصحف الكريم فوق رأس ولدها طالبة من العسكر ان يحفظوا حياته فهو يتحدر من نسل الرسول محمد (ص) ولم يقترف اية جريمة بحق الشعب العراقي، لكن صوت مجنون متعطش للدم يأمر بإطلاق النار ليودي بحياة العائلة المالكة.
يؤكد شيوخ العراق وعجائزه ان نزيف الدم الذي انفجر من اجساد هذه العائلة سيستمر في العراق كعقوبة لما حدث فجر ذلك اليوم التموزي الساخن. بعد قليل من مقتل العائلة المالكة يتجه غاضبون الى ميداني الملك فيصل الاول والجنرال مود في منطقة الصالحية ليجرجروا بالحبال تمثالي الملك والجنرال البريطاني المصنوعين من البرونز ويلقون بهما في نهر دجلة، في حادثة مشابهة لإسقاط تماثيل صدام حسين وسحلها في الشوارع.
لكن قيادة دولة العراق الحديث ارتبطت بالدم وفي رسم نهايات فجائعية لملوك ورؤساء هذا البلد قبل اليوم التموزي بكثير، وكان على من يتقلد قيادة العراق ان يتجرع قارورة العسل المسموم منذ مؤسس الدولة الحديثة وأول ملوكها، فيصل الاول، وحتى صدام حسين. ومن بين تسعة ملوك ورؤساء تعاقبوا على عرش او كرسي رئاسة العراق انتهت مصائر ثمانية منهم بصورة دموية، القتل، ولم ينج الا عبد الرحمن عارف من هذا المصير. ومن اول الذين لقوا مصيرا مأساويا في العراق الملك فيصل بن حسين بن علي الحسين الهاشمي، او فيصل الاول (1883 ـ 1933)، الذي كان ملكا للعراق من 1921 الى 1933 وكان لفترة قصيرة ملك سورية في عام 1920. يرجع نسبه الى الأسرة الهاشمية. وقد ولد في مدينة الطائف التابعة لإمارة مكة احدى إمارات ولاية الحجاز التابعة للدولة العثمانية وكان الابن الثالث لشريف مكة الحسين بن علي. في عام 1913 اختير الملك فيصل ممثلا عن جدة في البرلمان العثماني. اختاره السوريون المتحمسون لفكرة استقلال دولة العرب عن الاتراك، فأصبح ملكا على سورية في 7 مارس (آذار) 1920 لمدة اقل من شهر حيث وضع سورية تحت الانتداب الفرنسي بعد معاهدة سان ريمو مما حدى بفيصل الأول الى خوض معركة ميسلون ضد الفرنسيين في 24 يوليو (تموز) 1920. خسر فيصل الأول المعركة. كان العراقيين يبحثون عن شخصية عربية تحكمهم من غير ان تنحاز لاية طائفة او قومية موجهين انظارهم صوب احد ابناء الملك الحسين بن علي كونه يتحدر من سلالة الرسول محمد (ص). بعد ان عقد مؤتمر القاهرة عام 1920 على اثر ثورة العشرين في العراق ضد الاحتلال البريطاني، تشكل المجلس التأسيسي من بعض زعماء العراق وسياسية وشخصياته المعروفة، بضمنها نوري السعيد باشا ورشيد عالي الكيلاني باشا وجعفر باشا العسكري وياسين الهاشمي وعبد الوهاب بيك النعيمي الذي عرف بتدوين المراسلات الخاصة بتأسيس المملكة العراقية. انتخب هذا المجلس نقيب اشراف بغداد عبد الرحمن النقيب الكيلاني رئيسا لوزراء العراق والذي نادى بالامير فيصل الاول ملكاً على عرش العراق حيث تم تتويجه في 23 اغسطس (اب) من عام 1921. كانت للملك فيصل الاول أفكار وطموحات قومية مناهضة للاستعمار البريطاني، ووقف بالفعل ضد السفارة البريطانية في بغداد من اجل مصالح الشعب العراقي وهذا ما يبرر الرواية التي تقول انه توفي في 8 سبتمبر (ايلول) عام 1933 بعد ان حقنته الممرضة بحقنة سامة حسب توجيهات الطبيب وبعد ان قالت الاخبار انه ادخل الى مستشفى في بيرن بسويسرا جراء ازمة قلبية ألمت به عندما كان هناك في رحلة استجمام.
أما صاحب النهاية المأساوية الثاني فهو غازي بن فيصل بن الشريف حسين الهاشمي او غازي الاول (1912 – 1939) وهو ثاني ملوك العراق، حكم من 1933 حتى 1939. وقد ولد في مكة الواقعة ضمن ممالك وولايات الدولة العثمانية، وهو الابن الوحيد للملك فيصل الأول الذي كان له 3 بنات. عاش في كنف جده حسين بن علي شريف مكة قائد الثورة العربية المنادي باستقلال العرب عن الاتراك العثمانيين منادياً بعودة الخلافة للعرب. وكان متزوجا من ابنة عمه عالية بنت الملك علي بن الملك حسين بن علي شريف مكة. ورزق بابنه فيصل وهو الوحيد يوم 2 مارس (آذار) 1935. سمّي الامير غازي ولياً للعهد عام 1924 فتولى الحكم وهو شاب، 23 عاما، ثم اصبح ملكا لعرش العراق عام 1933 لذا كان بحاجة للخبرة السياسية التي استعاض عنها بمجموعة من المستشارين من الضباط والساسة الوطنيين. كان الملك غازي ذا ميول قومية عربية كونه عاش تجربة فريدة في طفولته حيث كان شاهدا على وحدة الاقاليم العربية ابان الحكم العثماني قبل تنفيذ اتفاقية ساكس بيكو التي قسمت الوطن العربي الى بلدان تحت النفوذ اما البريطاني أو الفرنسي. وناهض النفوذ البريطاني في العراق واعتبره عقبة لبناء الدولة العراقية الفتية وتنميتها واعتبره المسؤول عن نهب ثرواته النفطية والاثارية المكتشفة حديثاً، لذلك ظهرت في عهده بوادر التقارب مع حكومة هتلر التي كانت تشيع الافكار القومية بحدة قبل الحرب العالمية الثانية. وقد اهداه هتلر سيارة مرسيدس يوضع كرسي في مقدمتها لأغراض الصيد والقنص، حيث كان الملك غازي مولعا بجمع السيارات وقيادتها بنفسه.
كان الملك غازي متقاطعا مع السفارة البريطانية ويعدها مركزا للاعداء مما دفع البريطانيين لتدبير محاولة اغتياله بواسطة حادث سيارة مفتعل داخل قصره في الرابع من ابريل (نيسان) عام 1939، اذ قيل انه اصطدم بعمود كهربائي، واظهرت التقارير الميدانية ان العمود كان في الجهة اليمنى بينما كان الملك غازي يجلس في الجهة اليسرى، كما ان العمود وجد نظيفا وجديدا وفي منطقة لا وجود لعمود فيها من قبل. وحسب تقرير الطبيب الشرعي فان الضربة القاتلة كانت في رأسه من الخلف مما يدل على ان احدا ما كان قد ضربه بآلة حادة في مؤخرة رأسه. ورفض طبيب القصر الانجليزي سندرسن بابا ان تقابله زوجته قبل وفاته كي لا يدلي بأية أسرار لها حتى موته. أدلت زوجته الملكة عالية بشهادتها امام مجلس الوزراء بأنه اوصاها في حالة وفاته بتسمية الامير عبد الإله ـ شقيقها ـ وصيا على ابنه فيصل.
أما الثالث ذو النهاية المأساوية فهو الوصي عبد الإله بن علي (1939 ـ 1958). ولد الامير عبد الإله بن علي بن الحسين في الطائف من الديار الحجازية عام 1913، وتلقى علومه في كلية فكتوريا في الاسكندرية بمصر، عاد بعدها الى بغداد ملحقاً بالبلاط الملكي ووزارة الخارجية. وفي ابريل (نيسان) 1939 بعد مقتل الملك غازي والمناداة بولي عهده الامير فيصل ملكاً على العراق، اختير الأمير عبد الإله وصياً على العرش. وفي اثناء تأزم الوضع في منتصف عام 1940 وأوائل سنة 1941 ظهر تأييد للسياسة الانجليزية، فغادر بغداد سراً الى الحبانية ومنها الى البصرة، فحدثت أزمة خطيرة، مما اضطر حكومة الدفاع الوطني التي قامت في البلاد يومئذ، الى دعوة مجلس الأمة الى الاجتماع في العاشر من ابريل (نيسان) 1941، وتعيين الشريف شرف وصياً على العرش.
فقررت الحكومة البريطانية اعادة عبد الإله الى منصب الوصاية مهما كلفها الأمر، فاصطدم الجيشان العراقي والبريطاني في معارك دامية بدأت في الثاني من مايو (أيار) 1941 انتهت في الثلاثين منه، حيث أعيد الوصي المعزول واعتقل وفصل الكثير من الضباط والموظفين وغيرهم، كما أوقف صدور الصحف، وبقي مسيطراً على شؤون الدولة حتى بعد تولي الملك فيصل الثاني سلطاته الدستورية وانتهاء مدة وصايته عام 1953. وكان قد أصبح ولياً للعهد إضافة الى منصب الوصاية في قرار مجلس الوزراء بتاريخ 11 / 11 / 1943. وقد أخذ عبد الاله يمعن في التدخل في شؤون البلاد، حتى سعى الى عقد حلف بغداد وتكوين الاتحاد العربي مع الأردن، فظهرت الاحتجاجات والانتقادات من الجهات الوطنية والاحزاب، ضد السياسة المتبعة في العراق، قصد بها اصحابها انقاذ البلاد من خطر التدهور والاضمحلال، وتوزيع المسؤوليات بحسب الاختصاصات ومراعاة حرمة الدستور والقوانين المنبثقة منه. وقد قتل الأمير عبد الإله في 14 يوليو (تموز) 1958مع العائلة المالكة وقد أوغل الغاضبون في سحله في شوارع بغداد وتقطيع جثته الى أوصال وتعليقها في الميادين العامة.
ورابع حاكم عراقي ذو نهاية مأساوية هو الملك فيصل الثاني بن غازي 1939 ـ 1958 ولد فيصل الثاني في بغداد سنة 1935 ونشأ فيها ودرس العلوم على يد أساتذة خصوصيين، وأصبح ملكاً على العراق يوم 6 ابريل (نيسان) 1939 بعد وفاة أبيه الملك غازي «تحت وصاية خاله الأمير عبد الإله». وفي عام 1947 سافر الى انجلترا للدراسة حيث التحق بمدرسة «ساند هيرست» قبل ان يلتحق بكلية «هارو» في 7 مايو (ايار) 1949 التي تخرج منها في 23 اكتوبر (تشرين الاول) 1952. تولى الملك فيصل الثاني سلطاته الدستورية يوم 2 مايو (ايار) 1953 وبقي ملكاً على العراق حتى صباح يوم 14 يوليو (تموز) 1958 حيث انتهى العهد الملكي وقيام الجمهورية. وما زال الكثيرون يتذكرون ظهيرة يوم 15 يوليو (تموز) 1958، أي بعد يوم واحد من مقتل العائلة المالكة، كانت حشود العراقيين تتجه نحو قصر الرحاب الملكي، لم أكن قد بلغت الرابعة من عمري وكنت محمولا على كتف خالي ونحن ندخل القاعة الرئيسية لهذا القصر. ما تزال الصور تنبض في ذاكرتي، على درجات العتبة المؤدية الى القصر كانت هناك آثار دماء العائلة المالكة بينما الدخان كان ما يزال ينبعث من بعض نوافذ القصر.
أرضية القاعة كانت مؤثثة بقطع زجاج النوافذ، كانت الحشود تمشي بين الزجاج المتناثر هنا وهناك، الجدران كانت سوداء بفعل الدخان حيث احرق غاضبون القصر، قسم من هؤلاء الغاضبين سرقوا ما تبقى من اثاث ومحتويات القصر، تماما كما فعلوا بعد 45 عاما مع دخول القوات الاميركية الى بغداد، حيث نهبوا قصور صدام ومؤسسات الدولة. ثمة رجال كانوا يصرخون ان لا يمد احد يديه لسرقة ما تبقى من محتويات القصر وهم يقولون «حرام عليكم هذا بيت اشراف وسادة»، بينما كان الغاضبون يفتحون حتى اقفال الابواب لسرقتها. كان يوم 14 يوليو (تموز) دمويا بكل ما في الكلمة من معنى حيث تم سحل جثة الوصي عبد الإله وتقطيعها، من ثم تم القبض على رئيس الوزراء والسياسي المخضرم نوري السعيد ونجله صباح السعيد وقتلهما ومن ثم سحلهما في شوارع بغداد وإحراق الجثتين فيما بعد.
وخامس زعيم عراقي لاقى نهاية درامية هو الزعيم عبد الكريم قاسم (1914 ـ 1963)، الذي كان رئيسا للوزراء والقائد العام للقوات المسلحة ووزير الدفاع في العراق من 14 يوليو (تموز) 1958 وحتى 1963 حيث اصبح اول حاكم عراقي بعد الحكم الملكي. كان عضوا في تنظيم الضباط الوطنيين وقد رشح عام 1957 رئيسا للجنة العليا للتنظيم. وبالتنسيق مع شريكه في الثورة العقيد الركن عبد السلام عارف قام بالتخطيط وتنفيذ ثورة 14 يوليو (تموز) 1958 التي أنهت الحكم الملكي وأعلنت قيام الجمهورية العراقية. تخرج قاسم من الكلية العسكرية العراقية والتي كانت تسمى في حينها «الثانوية الحربية» وعمره 20 سنة وبدأ حياته العسكرية برتبة ملازم ثان في كتيبة للمشاة تم تعيينه لاحقا كمدرس في الكلية العسكرية وفي عام 1941 تخرج من كلية الأركان العسكرية وفي عام 1955 وصل قاسم الى رتبة مقدم ركن وبعد ان أصبح عقيدا تم نقله آمراًً للواء المشاة 20. وصف قاسم سياسته الخارجية بمصطلح «الحيادية الإيجابية». لكن كان قاسم من اكثر الشخصيات التي حكمت العراق اثارةً للجدل، حيث عرف بعدم فسحه المجال للاخرين بالاسهام معه بالحكم واتهم من قبل خصومه السياسيين بالتفرد بالحكم حيث كان يسميه المقربون منه وفي وسائل اعلامه «الزعيم الاوحد»، فيما اطلقت عليه الجماهير لقب «الابن البار».
كما منح المجال للحزب الشيوعي الذي اشعل احداث العنف التي قامت بها ميليشيات الحزب (المقاومة الشعبية) في الموصل وكركوك بعد محاولة الانقلاب الفاشلة للعقيد عبد الوهاب الشواف ذي الميول القومية وتنكيل محكمة الثورة بالانقلابيين وأصدقائهم بضمنها إعدام مجموعة الطبقجلي ورفاقة واتهام الابرياء والوطنيين كمحاكمة قائد ثورة مايو 1941ضد الانجليز رئيس الوزراء الأسبق رشيد عالي الكيلاني باشا ومحاولة إعدامه وابتعاد عبد الكريم قاسم عن الخط العربي والإسلامي. كان قاسم ضد فكرة الانظمام لمشروع الوحدة مع مصر وسورية مما اغاظ القوميين العرب الى حد قيام حزب البعث بمحاولة فاشلة لاغتياله عام 1959 في شارع الرشيد وسط بغداد، وفي الوقت الذي كان تلفزيون بغداد يظهر لقطات للزعيم وهو يلوح للجماهير من شباك مستشفى الكرخ الجمهوري بعد فشل محاولة الاغتيال، كانت اذاعة صوت العرب من القاهرة تكرر بث اغنية عبد الحليم حافظ «في يوم في شهر في سنة، تهدا الجراح وتنام، وعمر جرحي انا اكبر من الايام». وبلغ اوج انزعاج جمال عبد الناصر من عبد الحكيم قاسم عندما اعطى الضوء الاخضر لإنتاج فيلم كوميدي (الزعيم الهمشري) من بطولة المنلوجست شكوكو والذي يهزأ فيه من الزعيم قاسم بصورة غير مباشرة.
صحت بغداد صبيحة يوم الثامن من فبراير (شباط) على أصوات الانفجارات حيث كانت الطائرات تقصف مبنى وزارة الدفاع التي يتحصن بها قاسم، الذي كان يتخذ من غرفة متواضعة في الوزارة مكتبا وغرفة له ينام فيها. اذكر جيدا اني كنت احاول مد الخيط لطائرة ورقية كي ترتفع في الفضاء بينما شاهدنا من فوق سطح بيتنا ببغداد اعمدة الدخان تتصاعد من وزارة الدفاع في منطقة الباب المعظم، وذلك عندما قاد عبد السلام عارف، شريك قاسم قي انقلاب تموز، وبدعم من البعثيين انقلابا عسكريا ضد قاسم. كانت لعارف اسبابه في الانقلاب على رفيقه قاسم الذي قام بإعفائه من منصبه، وابعده بتعيينه سفيراً للعراق في المانيا الغربية، ثم ما لبث أن حاكمه بمحاولة قلب نظام الحكم اثر اجازته المفاجئة على اثر مرض والده، وحكم عليه بالاعدام إلا أن الحكم تحول الى السجن وبعدها الاقامة الجبرية لعدم كفاية الأدلة.
اضطر قاسم لتسليم نفسه على إثر تعهد من عارف والبعثيين بعدم اعدامه وتسفيره الى خارج العراق، لكن ما حدث بعد ذلك غير الذي وعد به بكثير. فقد اقتيد قاسم الى دار الاذاعة العراقية في منطقة الصالحية بعربة عسكرية مصفحة، هناك وفي احد استدويوهات الاذاعة جرت محاكمة سريعة له اذ حكمه عبد الغني الراوي بالاعدام رميا بالرصاص. وفي مساء ذلك اليوم ظهر مذيع تلفزيون بغداد وطلب من المشاهدين ابعاد الاطفال عن شاشة التلفزيون حيث سيتم عرض مشاهد مرعبة. لم نبتعد نحن الاطفال. وقتذاك ظهرت على الشاشة لقطات تظهر عبد الكريم قاسم بعد اعدامه. كانت هناك رصاصة مستقرة في جبهته وربما اخرى في وجهه وباقي الرصاص توزع على صدره، بينما خيط من الدم ينزل من فمه وهو ببزته العسكرية. كانت هناك مشاهد اكثر دموية من ذلك لابنة خالة قاسم العقيد فاضل عباس المهداوي الذي عرف من خلال محاكماته الشهيرة (محكمة المهداوي)، ووصفي طاهر وقاسم امين، وهم من المقربين لقاسم. بعد إعدام قاسم اتفق عدد من السياسيين والعسكريين بالاجماع على تولية عبد السلام عارف رئيساً للجمهورية وبذلك أصبح أول سياسي يتبوأ منصب رئيس الجمهورية العراقية، وذلك في 9 فبراير (شباط) 1963. لم يعرف لعارف انتماؤه الى اي تنظيم سياسي الا ان ميوله السياسية كانت مع التيار العروبي الوحدوي ومع الفكر الاسلامي المتفتح. عارضه البعثيون بعد حركة 18 نوفمبر (تشرين الثاني) 1963 والتي سماها بالتصحيحية، على اثر اعمال العنف والانتقام التي قام بها «الحرس القومي» ميليشيا حزب البعث، ضد خصوم البعث السياسيين كالشيوعيين وفصائل البعث الاخرى المنشقة عنه والتي سقط فيها الكثير من الابرياء وانتهكت العديد من المحرمات. وقد عارضته ايضا شريحة كبيرة من ذوي الاصول الفلاحية من المستفيدين من منجزات رئيس الوزراء الاسبق عبد الكريم قاسم، لاعتقادهم الخاطئ بأنه تسبب بإعدام زعيمهم. بعد ظهر يوم 13 ابريل (نيسان) كان عبد السلام عارف يجتاز شارع الخليج وسط البصرة وهو يلوح للجماهير التي اصطفت على طول الطريق ووقفت في شرفات بيوتهم من سيارة شيفروليه مكشوفة تمت استعارتها من عائلة الزهير المعروفة في مدينة الزبير. كان عبد السلام عارف قد وصل الى البصرة في اليوم السابق، وفي ذلك اليوم كان في طريقه لزيارة مدينة القرنة، هناك وجه خطاب لمستقبليه قال فيه «لقد نذرت نفسي للشعب العراقي»، بعدها استقل طائرة الهيلكوبتر السوفياتية الصنع طراز مي Mi لزيارة مدينتي العمارة والناصرية.
كان محافظ البصرة وقتذاك محمد الحياني قد اتجه الى طائرة اخرى لكن الرئيس سحبه من يده ودعاه لان يصعد معه في طائرته، وقيل ان المحافظ تردد في الصعود مع الرئيس وبعض الوزراء المرافقين لكنه أجبر على ذلك. في صباح اليوم التالي وبينما كان البصريون يخرجون الى اعمالهم فوجئوا بأفراد الجيش العراقي وهم يجوبون الشوارع مانعين أي شخص من الخروج وفارضين حظر التجول. لم يكن احد يعرف السبب، والبعض فسر الاجراء على ان الرئيس عارف سيمر من هنا، لكن اذاعة بغداد بثت عند الساعة العاشرة من صباح يوم 14 ابريل (نيسان) بيانا مقتضبا قال فيه «في ظروف غامضة اختفت الطائرة التي كان يستقلها الرئيس عبد السلام عارف وبعض وزرائه ومرافقيه بين القرنة والبصرة مساء يوم 13 ابريل (نيسان) 1966 وهو في زيارة تفقدية لألوية (محافظات) الجنوب للوقوف على خطط الإعمار وحل مشكلة المتسللين الايرانيين، إذ اندلعت بعض النيران في الطائرة وبقيت فترة محلقة خارج سيطرة الطيار تحلق باتجاهات مختلفة فوق النهر وعلى ارتفاع منخفض. ولم ينتظر الرئيس تحطم الطائرة التي كانت تحلق فوق بساتين النخيل على حافة النهر فانتظر اقترابها من الارض فقفز من الطائرة محاولاً السقوط في النهر الا ان اتجاه سقوط الطائرة أبعدها قليلا عن النهر مما ادى الى سقوطه على الحافة الترابية للنهر فارتطم على جبينه مباشرة، مما أدى الى اصابته بحالة اغماء ثم نزف شديد مع كسر في الجمجمة تسببت في وفاته بعد دقائق من سقوطه». وتشكلت لجنة تحقيق عسكرية لم تتوصل بالدقة الى سبب الحادث وقد أعلن بأن سبب الحادث كان جراء خلل فني في الطائرة الرئاسية جراء عاصفة رملية، مما حدا بالقيادة السوفياتية الى إرسال لجنه تحقيق فنية حيث توصلت الى قرار بأن الطائرة كانت سليمة ولم يكن سقوطها بسبب خلل فني، وبقيت التكهنات هل هي مؤامرة أم سوء الملاحه الجوية أم ارتطام الطائرة ببعض النخيل. لكن الاحداث كشفت فيما بعد تورط حزب البعث في زرع قنبلة مؤقتة تحت كرسي الطيار في الطائرة.
أما الرئيس العراقي الذي كسر دائرة الموت، واستطاع ان يكمل رئاسته دون قتل او مأساة فهو عبد الرحمن عارف. كان عبد الرحمن عارف أحد الضباط الذين شاركوا في حركة يوليو 1958. دخل الكلية العسكرية سنة 1936 وتخرج فيها برتبة ملازم ثان، وتدرج في المناصب العسكرية حتى بلغ رتبة لواء في 1964 وشغل عدة مناصب عسكرية هامة، وفي عام 1962 أحيل على التقاعد، وأعيد الى الخدمة ثانية في 8 فبراير 1963، ثم أسندت إليه مهمة قيادة الجيش العراقي. وبعد وفاة عبد السلام عارف أجمع القياديون في الوزارة باختياره رئيسا للجمهورية أمام المرشح المنافس رئيس الوزراء عبد الرحمن البزاز ليكون ثاني رئيس للجمهورية في العراق وثالث رئيس دولة أو حاكم بعد إعلان الجمهورية. لم يتمتع الرئيس عبد الرحمن عارف بخبرة واسعة في السياسية الدولية ولم تكن خلال فترة حكمه أي سياسة مميزة أو واضحة إلا بعض الانجازات المحدودة على صعيد إكمال القليل مما بدأ به الرئيس السابق عبد السلام عارف في مجال العمران وكذلك في مجال التسليح.
تم إقصاء الرئيس عبد الرحمن عارف من الحكم على إثر الانقلاب البعثي في 17 يوليو (تموز) 1968، حيث داهموا الرئيس في القصر الجمهوري وأجبروه على التنحي عن الحكم مقابل ضمان سلامته فوافق وكان من مطالبه ضمان سلامة ابنه الذي كان ضابطا في الجيش. تم إبعاد الرئيس عبد الرحمن عارف إلى إسطنبول وبقي منفيا هناك حتى عاد لبغداد في أوائل الثمانينات بعد أن أذن له الرئيس السابق صدام حسين بالعودة وعينه مستشارا في رئاسة الجمهورية. وهو الرئيس العراقي الوحيد الذي لم يتم قتله.
من استأنف سيرة الموت والقتل في العراق كان أحمد حسن البكر، الذي نصب رئيسا لجمهورية العراق من 1968 إلى 1979. انضم البكر إلى الأكاديمية العسكرية العراقية عام 1938 بعد أن عمل كمعلم لمدة 6 سنوات. اشترك بكر في بدايات حياته العسكرية في حركة رشيد عالي الكيلاني ضد النفوذ البريطاني في العراق عام 1941 التي باءت بالفشل، فدخل على إثره السجن وأجبر على التقاعد ثم أعيد إلى الوظيفة عام 1957. قام بدعم سورية أثناء حرب أكتوبر 1973 وقطع النفط عن الدول الغربية الداعمة لاسرائيل. في 16 يوليو1979 وبينما كان العراقيون يحتفلون بذكرى ثورتي 14 و17 يوليو قطع تلفزيون بغداد برامجه ليفاجئ المشاهدين بخبر مفاده ان البكر قد استقال من رئاسة الجمهورية وذلك لكبر سنه ومتاعبه وعين صدام حسين رئيسا للجمهورية والقائد العام للقوات المسلحة، ومنح البكر لقب «الاب القائد».
اصيبت تنظيمات البعث بالإرباك وطالبوا في اجتماع للقيادة القطرية باجراء انتخابات لاختيار الرئيس، وبدلا من ذلك أمر صدام بإعدام كل من طالب بإجراء الانتخابات وعارض رئاسته للجمهورية بتهمة ملفقة مفادها الاشتراك مع القيادة السورية في انقلاب ضده. وكان بين المعدومين غالبية الحرس القديم في الحزب.
بقي البكر تحت الإقامة الاجبارية في بيته حتى تم حقنة بإبرة سامة أودت بحياته في الرابع من أكتوبر عام 1982. وواصل صدام حسين عبد المجيد التكريتي في سيرته استكمال مأساة رؤساء العراق. حكم على صدام بالإعدام الاسبوع الماضي، وهو حكم من المرجح ان ينفذ، ليس فقط لأن فئات واسعة من العراقيين تريد إعدامه، لكن لأن حلقة العنف والسياسة في العراق قد لا تكتمل أو تغلق بدون إعدامه.
المصدر اضغط هنا