بعد موت يوسف بن تاشفين بعامٍ واحد، وبعد ما يقرب من اثنتين وعشرين سنةً من معركة الزلاقة الشهيرة، تدور واحدة من أضخم المعارك بين المرابطين والقشتاليين، وهي التي سُمِّيت في التاريخ بمعركة أقليش وهي من المعارك المهمَّة في تاريخ الأندلس خاصَّةً وتاريخ المسلمين عامَّةً، وهي أعظم انتصارٍ أحرزه المرابطون على قوَّات قشتالة بعد نصر الزلَّاقة، فكان من أثره توطيد سلطان المرابطين في الأندلس وإعلاء سمعتهم العسكريَّة والدفاعيَّة.
الوضع في الأندلس قبل موقعة أقليش
في يوم الاثنين مستهل شهر (المحرَّم سنة 500ه= 2 سبتمبر سنة 1106م) تُوفِّي أمير دولة المرابطين في المغرب والأندلس يوسف بن تاشفين، وفي اليوم نفسه الذي تُوفِّي فيه عُقِدَتْ البيعة لولده علي بن يوسف بن تاشفين فبايعه أخوه وسائر من حضر من الأشياخ والأكابر، ثم سار علي بن يوسف إلى الأندلس وهناك بادر إليه زعماء الأندلس ورؤساؤها وقضاتها وفقهاؤها وأدباؤها وشعراؤها وقدَّموا إليه بيعتهم وطاعتهم، وكان علي بن يوسف هذا أميرًا وافر الهمَّة والذكاء والعزم، وكانت تحْدُوه رغبةً صادقةً في أن يسير على نهج أبيه في الحكم وفي متابعة الجهاد.
أسباب موقعة أقليش
لمـَّا مرض أمير المسلمين يوسف بن تاشفين في أواخر عهده، وذاع أمر مرضه في المغرب والأندلس، اعتقد ألفونسو السادس ملك قشتالة أنَّ الفرصة قد سنحت له ليستأنف غزواته في أراضي المسلمين في الأندلس، فبعث حملةً إلى إشبيلية من نحو ثلاثة آلاف وخمسمائة (3500) مقاتل استولت على كثيرٍ من الغنائم والسبي، فخرج والي إشبيلية في قوَّاته وردَّهم على أعقابهم بعد أن قتل منهم نحو ألفٍ وخمسمائة (1500) مقاتل، ولمـَّا تولَّى الأمير علي بن يوسف بعد وفاة والده أصرَّ أن يردَّ على هذا العدوان وأن يُبادر ألفونسو السادس بالهجوم في قلب أراضيه.
السير إلى أقليش
أصدر الأمير علي بن يوسف أوامره لأخيه تميم قائد الجيوش بالاستعداد لغزو أراضي قشتالة، فصدع تميم بأمر أخيه وجهَّز جيشًا وخرج به من غرناطة في (العشر الأخيرة من شهر رمضان سنة 501ه= أوائل مايو سنة 1108م)، واتَّجه صوب أراضي قشتالة، وفي الطريق انضمَّت إليه حشود قرطبة بقيادة محمد بن أبي رنق، وحشود مرسية بقيادة محمد بن عائشة، وحشود بلنسية بقيادة محمد بن فاطمة، واخترقت القوَّات المرابطية أراضي قشتالة وتوجَّهت صوب بلدة أقليش[1]، فوصلتها في يوم الأربعاء (14شوال 501هـ= 27 مايو سنة 1108م).
ما كادت القوات المرابطية تصل إلى أقليش حتى طوَّقتها وهاجمتها بعنفٍ إلى أن أسقطتها في اليوم التالي، ثم دخلتها وقوَّضت صروحها، فهرع المسلمون الذين كانوا بها إلى معسكر الجيش المرابطي، والتجأ المدافعون عنها من النصارى إلى قصبة أقليش[2] الحصينة، وامتنعوا بها في انتظار الغوث والإنجاد من مواطنيهم.
لم يستطع ألفونسو السادس أن يسير بنفسه لملاقاة جيوش المرابطين بسبب الإعياء والمرض، فجهَّز حملةً قويَّةً بقيادة كبير قادته ألبر هانس، وجعل معه الأمير الصبي ولي العهد سانشو (ابن ألفونسو السادس)، وزحف الجيش القشتالي بسرعةٍ لإنجاد قلعة أقليش فوصل عصر يوم (الخميس 15شوال 501ه= 28 مايو سنة 1108م).
أحداث موقعة أقليش
في فجر يوم الجمعة (16 شوال سنة 501ه= 29 مايو سنة 1108م) بدت طلائع المعركة وبدأ الهجوم ونشب بين الفريقين قتالٌ بالغ العنف والشدَّة، وبينما القتال على أشدِّه إذ دخل الأمير الصغير سانشو إلى قلب المعمعة ولم يلبث أن سقط من فوق جواده بعد أن أصابته طعنةٌ قاتلة، فدبَّ الهرج إلى صفوف القشتاليِّين، وكثر القتل بينهم، وسقط معظم القادة والأمراء قتلى ومن بينهم الأمراء السبعة الذين كانوا حاشيةً للأمير سانشو، وعُرِفَ مكان مصرعهم فيما بعد بـ «الكونتات السبعة»، وهكذا تمَّت الهزيمة الساحقة على الجيش القشتالي، وأحرز المسلمون نصرهم الباهر في ذلك اليوم المشهود.
نتائج موقعة أقليش
قُتِل من الجيش القشتالي في هذه الموقعة على أرجح الأقوال ثلاثة وعشرون (23000) ألفًا، وأمر الأمير تميم بجمع رءوس القتلى وتكديسها، وأذَّن من فوقها المؤذِّنون وَفْقًا للتقليد المأثور، واستولى المرابطون في الوقت نفسه على مقادير هائلة من الأسلاب والغنائم؛ من المال والخيل والبغال والسلاح والدروع وغيرهما، ثم غادر الأمير تميم في قوَّاته ميدان المعركة عائدًا إلى غرناطة مكلَّلًا بغار الظفر، وكتب إلى أخيه أمير المسلمين علي بن يوسف رسالة يصف فيها المعركة.
هكذا كانت موقعة أقليش الشهيرة التي أعادت بروعتها ذكريات موقعة الزلَّاقة، حتى قيل عنها: إنَّها الزلاقة الثانية. وتُعرف هذه الموقعة في الرواية النصرانيَّة بموقعة «الكونتات السبعة» نسبةً إلى الأمراء السبعة الذين قُتِلُوا فيها[3].
[1] تقع أقليش في شمال جبال طليطلة، وجنوب غربي وبذة، وقد أنشأها الفتح بن موسى بن ذي النون في أواخر القرن الثالث الهجري.
[2] قصبة المدينة: مجموعة سكنية في حيِّ من أحيائها يُحيط بها سور.
[3] محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس، مكتبة الخانجي، القاهرة، الطبعة الثانية، 1411هـ= 1990م، 3/ 57- 67، وانظر: أ.د. راغب السرجاني: قصة الأندلس، مؤسسة اقرأ للنشر والتوزيع والترجمة، القاهرة، الطبعة الأولى، 1432هـ= 2011م، 2/ 517، 518، وطارق سويدان: أطلس الأندلس، شركة الإبداع الفكري، الكويت، الطبعة الأولى، 1426هـ= 205م، ص310- 311.
قصة الإسلام