قصة إحدى العجائب الهندسية في إيران عمرها آلاف السنين
ابتكر الإيرانيون القدامى قنوات خاصة للاستفادة من المياه بين الأراضي القاحلة
تعود قنوات المياه الأثرية الإيرانية إلى ثلاثة آلاف عام مضت، وقد مثلت حلا عبقريا مستداما لمشكلة شح المياه بتلك البلاد القديمة.
قبل أن تطأ قدماي مدينة أصفهان الإيرانية ذات صيف، شد أنظاري من الطائرة منظر تخاله لصليب يتوسط ما يشبه التلال التي يحفرها النمل أعلى غيرانه وإن بدت كبيرة الحجم، ناهيك عن رموز غامضة كأنها من مخلفات كائن فضائي رحل عن عالمنا. يومها لم أكن قد تجاوزت المراهقة، وما كنت لأتخيل ما يجري تحت سطح تلك الأرض.
على مر العصور قدس أسلافي الإيرانيون شيئا واحدا أكثر من النار - التي اعتبروها منبثقة من الذات الإلهية وفق الديانة الزرادشتية، ديانة إيران القديمة - ألا وهو الماء.
فقد سكنت القبائل الآرية قبل آلاف السنين تلك البلاد الشاسعة ذات التضاريس المتنوعة كما هو الحال اليوم، والتي كانت يومها أيضا رغم ما بها من ثراء تعاني الجفاف، وتعين الإيرانيين القدامى على الحياة في ظل بيئة صعبة وتمهيد الأرض والامتداد طولا وعرضا بحدود عالمهم المعروف.
لقد كان العثور على الماء في تلك البيئة القاحلة الصعبة ومد بساط أخضر وسط القفار ضربا من المحال، غير أنهم توصلوا إلى حل فاعل ودائم لمشكلة شح المياه، إذ لا تتوافر المياه السطحية بسهولة في تلك البقاع، وذلك بابتكار هندسي عرف بـ"الكاريز" عبر مد شبكة قنوات تعود إلى ثلاثة آلاف عام مضت، وقد تضمنتها قائمة اليونيسكو للتراث العالمي لليونيسكو عام 2016 لتظل شاهدة على عبقرية الإيرانيين القدامى.
من التل إلى السهل
تبدأ تلك القنوات كأنفاق جوفية تحمل الماء العذب من منابع فوق رُبى جبلية إلى أن شُقت عين بسهل منخفض لخدمة أغراض الري - ما يعد طريقة مثلى في منطقة تعج بالمرتفعات.
حفر القدامى تلك الحفر التي بدت كأعشاش النمل وصولا إلى المياه الجوفية
أولا، كان القدامى يبحثون عن مورد للمياه تدلهم عليه بقعة طمي تبدأ بسفح جبل وتمتد يمينا ويسارا، فإن وجدوه حفروا حفرة للوصول إلى الماء مخلفين تلك التلال الأشبه بغيران النمل التي شاهدتها جوا.
وأحيانا كانت المياه قريبة من السطح وبالتالي لم تكن الحفر عميقة، وأحيانا أخرىكان من الضروي حتى عمق 300 متر تحت سطح الأرض، لتتبعه حفر أخرى على مسافات منتظمة لتوفير التهوية للحفارين فضلا عن الاستفادة بالتربة الخصبة.
ولزم احتساب زاوية انحدار القناة بدقة حتى لا تزيد حدة الزاوية من نحر المياه للقناة أو يؤدي انفراجها لركود الماء مع بطء سريانه.
غير أن تلك القنوات أحدثت فرقا كبيرا، إذ مكنت الإيرانيين لقرون طوال من إمداد أكثر الأصقاع جفافا بالماء، كما في إقليم فارس بجنوب غربي البلاد حيث حاضرة برسيبوليس التي بناها الأخمينيون (550-330 ق.م) ببقعة حارة قاحلة بين جبال زاغروس كانت تنقصها المياه قبل أن تصلها تلك القنوات لتصبح برسيبوليس مركز إمبراطورية امتدت من الهند شرقا إلى اليونان غربا وعُدت بين أزهى حواضر العالم بقصورها المترفة وبساتينها الغناء.
ومن هنا انتشر اللون الأزرق الإيراني المعروف بالفارسية بالمائي ليعم شتى أنحاء البلاد.
وأثبت نظام القنوات نجاحا منقطع النظير حتى انتشر لأنحاء أخرى من العالم بدءا من الغزواتالتي قادتها جيوش الفرس ثم المسلمين العرب الذين أخذوا عنهم هذا النظام وعمموه، وصولا لشمال أفريقيا وصقلية والأندلس.
نظام "تكييف" طبيعي
كما استخدمت تلك القنوات في ترطيب الأجواء في الداخل، ففي يزد بوسط إيران حيث يشتد القيظ، مثلت تلك القنوات متنفسا أساسيا، إذ استخدمت بجانب اختراع إيراني آخر عبارة عن فتحات تهوية تعلو الأبنية يدخلها تيار الهواء الساخن ليمر على مياه القناة أسفل المبنى فيبرد ومن ثم يتوزع داخل البناية عبر فتحات خاصة قبل خروج الهواء مرة أخرى من أعلى.
لآلاف السنين مكنت تلك القنوات الإيرانيين من الاستفادة بالماء بأكثر المناطق جفافا
ومازالت البيوت في يزد مزودة بنظام التكييف القديم هذا كسمة معمارية مميزة.
كما أمكن بفضل تلك القنوات تخزين كميات ضخمة من الثلج على مدار العام في أجواء شديدة الحرارة، عبر غرفة تعرف باسم الـ" یخچال"، وهي غرفة من مواد مقاومة للحرارة مخروطية الشكل تعتمد على التقنية الإيرانية لتمرير الهواء، لتشكل ثلاجة إيرانية قديمة تعود إلى نحو عام 400 ق.م.
فخلال برد الشتاء، كانت المياه التي تحملها القناة تترك لتتجمد أسفل الغرفة قبل تقطيعها وتخزينها للاستخدام على مدار العام، كما يُستعان بالهواء الداخل عبر نفق القناة والبارد بفعل المياه التحتية في خفض الحرارة.
جنات وبساتين
كما أضفت تلك القنوات لمسات جمالية ذات معان دينية، فرغم البيئة الصعبة تمكن الفرس القدامى بعبقريتهم الهندسية من إنشاء بساتينهم الشهيرة، التي أضيفت ضمن قائمة اليونسكو للتراث العالمي، وهي من الروعة بحيث تبدو كعالم آخر غير الأرض القاحلة دونها - تلك الواحات من السندس الأخضر، التي تعرف بالفارسية بـ" چهارباغ" أو الحدائق الرباعية، مزينة بالأشجار والأزهار وأحواض الماء وممراته في نظام بديع من التوافق والالتقاء مما يعد انعكاسا لاحتفاء الزرادشتية بالطبيعة والتعبد لعناصرها، حتى أن البعض يعتبرها الأصل في الوصف القرآني "جنات تجري من تحتها الأنهار"، وكذا كلمة "فردوس" المشتقة من الفارسية "پاري-ديدا" وتعنى حديقة مقصورة.
ويقول خبير الدراسات الإيرانية تورج دریایی إن بساتين فارس القديمة "عجت بشتى أنواع النباتات والأزهار المروية بمياه جارية مثلت ندرة هائلة بالنسبة لسكان الهضبة الإيرانية".
بفضل مياه القنوات القديمة باتت مدينة برسيبوليس حاضرة إمبراطورية عظيمة إبان الأسرة الأخمينية
ويعد بستان باغ شازده ماهان، أو بستان الأمير، قرب كرمان في وسط إيران، نموذجا أخاذا؛ فبالنظر إليه من أعلى لا يكاد المرء يصدق كل هذا الخضار الشديد والينابيع المتدفقة وسط أرض قاحلة وجبال وعرة. ومع ذلك ليس بستان الأمير هو الحديقة الوحيدة في إيران، إذ تنتشر الحدائق والبساتين العامة في مختلف أنحاء البلاد.
وفي مسقط رأسي في طهران، أحب تناول كوب من الشاي الإيراني ومشاهدة الجمال من حولي متغاضيا عن ضجة الشارع خارج حديقة باغ خوشنويسان (بستان الخطاطين) أو بحديقة باغ موزيه (بستان المتحف) أو باغ فردوس (البستان الفردوسي) الواقعة جميعا شمالي المدينة، حيث أقصدها هربا من الاختناق الصيفي، حيث أسمع خرير المياه وتغريد الطيور وسط دوحة الأشجار والشجيرات وأحواض الزهور ما يعيد إلى مخيلتي زخرف أشعار حافظ وسعدي الشيرازي.
وما زالت بساتين الفرس وقنواتهم حاضرة في إيران اليوم يُستلهم منها الكثير من نماذج السجاد الإيراني بتصميماته وأشكاله. كذلك تعد إلهاما عالميا، ففلسفة حدائق چهارباغ تركت بصمتها في فرساي بفرنسا، وساحات وحدائق قصر الحمراء بالأندلس، وقصور مراكش بالجنوب.
لكن ربما وجد أفضل نماذجها خارج إيران في آثار سلاطين المغول في الهند وباكستان، فكما اعتبر هؤلاء السلاطين اللغة الفارسية غاية الرقي، أعلوا من شأن الحدائق الفارسية باعتبارها غاية الجمال والإبداع، ومن ثم أطلقوا على حدائق تاج محل وقبر همايون حدائق چهارباغ.
استفادة مستدامة
مكن نظام القنوات الفارسية الإيرانيين القدامى من استزراع بساتين وحدائق في الصحراء
واليوم وعلى الرغم من أفول نجم قنوات المياه بفضل التقنيات الحديثة، مازالت شرايينها تسري بطول البلاد وعرضها، إذ توجد في إيران حاليا عشرات الآلاف من القنوات التي لو مدت الواحدة للأخرى لوصلت المسافة بين الأرض والقمر.
هذا بالإضافة إلى إبداع الفرس القدامى الذي ظل قائما رغم الزمن مجسدا احتفاء الإيرانيين والديانة الزرادشتية بالطبيعة وعناصرها، والاستفادة البيئية المستدامة من المياه العذبة وتبريد الهواء والتي لا تضاهيها استفادة، فضلا عن توزيع المياه بالتكافؤ على المجتمعات الريفية وتعزيز أواصرها عبر ما تتطلبه من صيانة دائمة.
لقد اشتهر قورش العظيم بحكمته وعدله ولينه، ولا يكاد المرء يتصور الامبراطورية التي أرسى دعائمها - والتي تعد أساس إيران الحديثة باستثناء سياستها؛ فلولا تلك القنوات لما تمكنت جيوش فارس وشعبها من الوصول إلى المياه ولبَدت برسيبوليس والحواضر الكثيرة لإمبراطوريتها المترامية في هيئة أخرى دون حدائق الحسن التي خلفت أثرها على الفن والمعمار.
ويستشهد دریایی بقول أستاذ الدراسات الدينية بروس لينكولن، إن هناك شعبا... "أراد أن يملك أطراف العالم بهدف إقامة الفردوس على الأرض"، ولولا قنواته المائية لما امتد فردوسه وسط بيئة إيران الصعبة.