الحكاية الشعبية العراقية بحث في الأصول الثقافية
بالعودة الى الحكاية الخامسة والتي نوهت في مطلعها عن النسق الثقافي الخطير الذي تؤسس له هذه الحكاية . واكرر هنا قولي حول هذا الموضوع . حيث ان هذه القضية بحاجة الى وقفة تأمل ومراجعة لأثر الحكايات الشعبية في البناء النفسي للمجتمع . وذلك لان الظروف التي يمر بها بطل الحكاية مشابهة في كثير من الاحيان بالظروف التي تمر على كثير من افراد المجتمع . والخطورة تكمن في مسالة تقمص الشخصية الحكائيه من لدن بعض افراد المجتمع ، لان الشخصية الحكائية كانت قد رسخت في ذهن المتلقي ، وهي تظهر في اللاوعي الفردي عند الانسان ، وربما تبرز كذلك في اللاوعي الجمعي ، كما في حالات النهب الكبرى التي شهدتها مجتمعاتنا. على اقل من تقدير كما حصل ويحصل في العصر الراهن.
من القضايا الاخرى التي نجدها في هذه الحكايات وهي النهاية السعيدة لبطل الحكاية وهو اسلوب دأبت عليه القصص التراثية والسير الشعبية كما في سيرة الملك سيف بن ذي يزن وعنترة بن شداد وكثير من حكايات الف ليلة وليلة . (15)
خلاصة القول انه لا يوجد مجتمع من المجتمعات الإنسانية على وجه الارض الا وله تراثه الادبي من الحكي الشعبي في اشكاله المختلفة ، الاسطورة ، الملحمة ، السيرة ، الحكاية الشعبية ، والمثل ، فقد عرفت المجتمعات الإنسانية كلها " السرد القصصي " منذ فجر التاريخ وظل هذا الشكل من اشكال التعبير ملازما لتطور هذه المجتمعات بلا توقف او فتور ، يتطور بتطورها ليلائم احتياجاتها المعرفية – لمعرفة ما يدور حولها وتحاول ان تفسره من خلال مخيلتها وفكرها البدائيين ، او التعليمية بما تلقنه لأجيال متعاقبة من تقاليد، وحكم من خلال معايشتها للحياة على مر العصور ، ومن هنا كان التنوع والثراء في اشكال الحكي الشعبي .
قطين ، ذخيره العجائب العربية (سيرة سيف بن ذي يزن): 41
مما تقدم ممكن ان نحدد مميزات الحكاية الشعبية :
1 - الإضافة والحذف وفاقا لذاكرة الراوي واهوائه احيانا
2 - الحكاية مرآة العصر تبين افكار الامم وعاداتها ينتابها التحوير مع المتغيرات والا سقطت . (16)
3 - لا تستقر الحكاية في مكان واحد بل تنتقل بانتقال الراوي
4 - الرواية الشفهية
5 - مؤلفها مجهول
6 - تدور حول اشخاص ابتدعهم الخيال واحيانا حول شخصيات تراثية لكنها تُغيَّر في الحكاية بواسطة الخيال الشعبي الى صور خيالية ومتوهمة كما في شخصية سيف بن ذي يزن او عنترة او الاميرة ذات الهمة . ( 17)
7 – هدفها اخلاقي مثل تأصيل القيم والعادات الاجتماعية وايجاد الحلول المستعصية او فتح افاق للخروج من الازمات .
8 – اللغة بسيطة عامية او فصيحة ونشدد على الفصيحة لكن هذا لا يعني خلوها من البلاغة.
9 – لا تخرج عادة عما هو سائد في المجتمع
10 – الذيوع والانتشار عند العامة والخاصة ايضا
11 – احيانا تتشابه في جميع انحاء العالم كما في قصة السندرلا
12 – ما يميز الحكاية فكرة الحرية لا قوانين ولارقيب على الاضافات ، التخلص من محدودية الزمان والمكان
13 – المحتوى مستمر التجدد اي ما يتعلق بأغراض المستمرة تعكس موقفا جمعيا لا يختلف الاطفال مثلا حين يستمعون الى الحكايات في مواقفهم يتعاطفون مع الشخصية نفسها ويكرهون الشخصية نفسها.
14 – الظرف التاريخي والجغرافي والاقتصادي يلعب دورا في انتاج الحكايات بين النفعية والجمالية النفعية والجمالية الخالصة . ففي ازمة الغروب السياسي وتراجع السلطة وضعفها شاعت حكايات الشطار واللصوص ، وفي ازمة النكوص القومي وانحسار الحكم الوطني ، برزت حكايات البطولة التي تسترجع صور الابطال والشخصيات العربية القادرة على حشد المشاعر واستذكار الماضي .
15 – ينتهي عمر الحكاية حينما تصبح منافية لعقائد الشعب وايديولوجيته ان لم تتطور او تُحَوَّر.
الخاتمة
التراث الشعبي العربي والعراقي منه خصوصا ، كونه موضوع البحث ، يتمتع بالأصالة بشكله ومضمونه ، وانه اقرب الاشياء الى نفس الانسان ولاسيما الاطفال منهم . كما انه تراث لكثير من الاحداث والحركات والانفعالات فضلاً عن امتلاكه خطا دراميا لا مثيل له ، خطا ياسر القلوب ويشد الانفس ويواصل الانجذاب . ولذا فقد شهدت الساحة الثقافية في العراق في اواخر القرن الماضي محاولات كثيرة وجادة لجمع التراث الشعبي العراقي وتدوينه وربما لا عادة صياغته وتقديمه بشكل اكثر عقلانية وتوافقا مع عقلية الطفل وقابليته على التقبل والقناعة . ولاسيما ان بعض هذه الحكايات الشعبية تعد فيما اذا شذبت وهذبت دروسا تربوية ذات مدلول ومغزى يتوافقان كليا مع متطلبات العصر الذي نعيش فيه ، وان اي عمل من هذه الاعمال يحتاج الى كثير من الجهد والاهتمام والحذر ، فان الحكاية الشعبية في نصها الاصلي ربما ، تحتوي على عناصر سيئة وهذه اذا تركت من غير اصلاح او تهذيب واشراف عليها فربما كانت عاملا سيئا في تربية الطفل ، لان المعلومات والحوادث التي تتضمنها هذه القصص تؤثر في تكوين الطفل العقلي والخلقي وفي ذوقه وخياله . وحري بنا كباحثين في الادب العربي ، ان نمتلك الماما ووعيا بعلم النفس التربوي وننظر فيما يقدم ، لان اية معلومة يتقبلها الطفل من الصعوبة بمكان ان تزال من ذهنه بسهوله .
هنا تكمن اهمية الآباء والمربين الشديد من ما تقدم الى الطفل من حكايات شعبية غير منقحة ، لان في ذلك اضرارا كبيرة وخطورة توثر بشكل وباخر في نفسيته وسلوكه ، ولذا يرى بعض الباحثين بان الثقافة التي يعرضها المجتمع على الطفل يأخذها الناشئ على علاتها لهذا تكون مهمة العطاء حرجة وخطرة في الوقت نفسه .. فقد تتدخل احداث الحكايات وابطالها تدخلا سلبيا في سلوكه وتوجهه التربوي .
هذه بعض الموضوعات التي حاولت ابرازها في هذا البحث . وقد اشرت في المبحث الثاني الى الاصل الثقافي للحكايات الشعبية . والنسق الثقافي الذي نستخلصه من هذه الحكايات وكذلك البنيه الثقافية التي تتأصل بسببها ، وكنت قد تناولت في المبحث الاول سبعة حكايات متنوعه ، وهي من الحكايات المتداولة في الادب الشعبي العراقي . وتحمل مفاهيم مختلفة . واخص الحكاية السابعة بالذكر كونها من ابداعات القرن العشرين والتي اظن بان وراءَها مؤلف تركي .
اخيرا ارجو ان اكون قد وفقت في اخراج هذا البحث المختصر بشكل حسن . ومن الله تعالى التوفيق .