شروط ومؤهِّلات ومهارات المفسّر وآدابه(2)
أهداف الدرس
1 ـ أن يتعرّف الطالب إلى بعضٍ آخر من العلوم والمعارف الّتي يحتاجها المفسِّر
2- أن يدرك المؤهِّلات والمهارات الشخصية والمواصفات النفسيّة الّتي يجب أن يتمتّع بها المفسِّر.تمهيد
45
قلنا في الدرس السابق أنّه لا بدّ للمفسِّر من شروط ومؤهِّلات ومهارات ينطلق منها ويعتمد عليها تساعده على القيام بتلك المهمّة الجليلة. وقلنا إنّ في هذه المسألة جانبين:
الأوّل: الجانب العلمي والمعرفي: ويتضمّن أنواع العلوم الآلية والمعارف الّتي يجب أن تتوفّر في المفسِّر حتّى يكون أهلاً للتفسير.
الثاني: الجانب الشخصي النفسي: ونقصُد به المؤهِّلات والمهارات الشخصية والمواصفات النفسية الّتي يجب أن يتمتّع بها المفسِّر.
الجانب الأوّل: الجانب العلمي والمعرفي
وقد ذكرنا في الدرس السابق بعضاً ممّا يتعلّق بهذا الجانب:
1ـ معرفة اللغة العربية وعلومها.
2ـ معرفة بعض ما يختصّ بعلوم القرآن. وبقي الكلام عن:
3ـ العلوم الّتي لها صلة بعلم التفسير
ومن العلوم والمعارف الّتي يحتاجها المفسِّر بالإضافة الى ما مرّ في الدرس السابق عدد من العلوم الّتي لها صلة بعلم التفسير، منها:أ- علم الكلام
47
وهو يهتمّ بأصول العقيدة كالتوحيد والعدل، والنبوّة، والمعاد، كما يهتمّ بالمسائل المرتبطة بها، كالجبر والتفويض، والحسن والقبح... وغيرها.
ب- علم أصول الفقه
علم أصول الفقه ويفيد المفسِّر في مجال آيات الأحكام والبحوث الفقهية.
وصلة علم أصول الفقه بالتفسير باعتبار أنّ قسماً مهمّاً من آيات القرآن المباركة تناولت الأحكام الشرعية والمسائل الفقهية، وهي الّتي جُمعت تحت عنوان آيات الأحكام، وهي موضوع لعلم الأصول.
ولقد وُضعت أسس هذا العلم اعتماداً على قواعد عقليّة، ونقليّة، وقد استمدّ العلماء الكثير من مباحث هذا العلم من علوم مختلفة منها علم التفسير نفسه.
وهذا العلم يزوِّد علم التفسير بضوابط وقواعد عامّة من شأنها أن تفيد المفسِّر إذا استعان بها، لا سيّما في مجال بيان آيات الأحكام.
ج- معرفة تاريخ العرب قبل الإسلام وبعده
ومن الأمور الّتي لها صلة بعلم التفسير، ويستفيد منها المفسِّر دراسة تاريخ العرب، ونقصد دراسة الواقع أو الحال الّذي كان يعيشه الناس قبل الإسلام وفي زمن البعثة النبويّة الشريفة.
فقد نزل القرآن الكريم في جوّ مجتمع الجزيرة العربية، ولهذا المجتمع خصوصيّاته التاريخيّة والاجتماعيّة والجغرافيّة، كما له مميّزاته وخصائصه التربويّة والثقافيّة والدينيّة، حيث كان مجتمعاً متعدِّد الأديان والثقافات.
فقد كانت الجزيرة آنذاك موطن كلٍّ من الوثنيين والمشركين إضافة إلى أهل الكتاب من يهود ونصارى.كما كانت تسود بين أهلها أعراف وقيم وعادات وتقاليد تحكم تصرّفاتهم وحركتهم الاجتماعية. فقد بُعث النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في هذه الأمّة ولهؤلاء الناس جميعاً.
48
والقرآن الكريم خاطب كلّ هؤلاء وجادلهم وأقرّ لهم أموراً واعترض على أخرى، وعنّفهم في أشياء وزجرهم عن أخرى، وعمل على تغيير الواقع القائم وإقامة واقع جديد.
وهو يشير في أكثر من مورد من آياته المباركة إلى تلك الأمّة، ويتحدّث عن عاداتها وتقاليدها الجاهلية.
من هنا كانت الصلة الوثيقة بين علم التفسير ومعرفة التاريخ. فإنّ الاطلاع على تاريخ الجزيرة العربية قبل الإسلام وتاريخ عصر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والبعثة المباركة، له الأثر الإيجابي الكبير في عملية بيان وتوضيح مداليل ومقاصد كثير من الآيات المباركة.
فلا يعقل أن يُفسِّر أحد قوله تعالى: ﴿وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا﴾1 وهو لا يعرف كيف كانت أحوالهم قبل ذلك، وسبب العداوة بينهم، ونوعها وحدودها، ثمّ كيف رفع الله تعالى العداوة والبغضاء من قلوبهم، وكيف ألّف بينهم، وكيف كانت مظاهر الأخوّة، إلى غير ذلك من الأمور الّتي لا بدّ من الاطلاع عليها حتّى يمكن له فهم واستيعاب ما ترمي إليه الآية المباركة.
وكذلك الحال بالنسبة إلى قوله تعالى: ﴿وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَت﴾2 فلا بدّ في تفسيرها من معرفة عاداتهم وتعاملاتهم مع نسائهم وبناتهم، لا سيّما المولودات حديثاً حتّى نقف عند مداليل هذه الآية المباركة.وكذلك بالنسبة إلى قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون﴾3.
49
وقوله تعالى: ﴿لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ* إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاء وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ* الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْف﴾4.
فكيف يمكن فهم مداليل هذه الآيات، ما لم نطّلع على أحوال قريش، وتجارتها إلى اليمن في الشتاء، وإلى الشام في الصيف، وكيف كان حالهم قبل ذلك وبعدها، وكيف أطعمهم الله من جوع، وآمنهم من خوف، إلى غير ذلك من الأمور الّتي ترتبط بتاريخهم وعاداتهم وأعمالهم.
الجانب الثاني: الشخصي النفسي
ونقصُد به المؤهِّلات والمهارات الشخصيّة والمواصفات النفسيّة الّتي يجب أن يتمتّع بها المفسِّر، ومنها:
1ـ صحّة وصدق المعتقد: لا بدّ للمفسر من أن يملك معتقداً سليماً صحيحاً، لا سيّما الاعتقاد بولاية أهل البيت عليهم السلام ودورهم ومرجعيّتهم الفكريّة والدِّينية، لأنّهم عليه السلام الثقل الثاني بعد القرآن الثقل الأوّل الّذي أمرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن نتمسّك به وهم عليهم السلام القرآن الناطق الّذي يبيّن ويفسّر الحقائق القرآنية على أكمل وجه، "إنّي تارك فيكم الثقلين ما إن تمسكتم بهما لن تضلّوا، كتاب الله وعترتي أهل بيتي وإنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض"5. فالّذي لا يملك اعتقاداً سليماً بهذه المسألة، لا يمكن له فهم القرآن فهماً صحيحاً.2ـ الإخلاص وصحّة المقصد والغاية: ومن صفات المفسِّر وآدابه الإخلاص وصحّة المقصد فيما يقول، ليلقى التسديد والهداية إلى المراد، قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾6. وقال سبحانه: ﴿لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ﴾7 ، فلا يُدرك حقائق القرآن الكريم إلّا أصحاب القلوب الطاهرة والنفوس الزكية.
50
قال الطبري: "وإنّما يخلص له القصد إذا زهد في الدنيا، لأنّه إذا رغب فيها لم يؤمن أن يتوسّل به إلى غرض يصدُّه عن صواب قصده ويُفسد عليه عمله"8.
فينبغي للمفسِّر أن يبتغي فضلاً من الله ورضواناً، فلا يتوخّى من عمليّة التفسير متاع الحياة الدنيا، والوصول إلى مقامات دنيوية. ما يؤدّي به إلى الانحراف عن القصد الإلهي من التفسير، كما حدث مع وعّاظ السلاطين، وبعض المفسِّرين الّذين اعتمدوا منهجاً سياسيّاً للتفسير، أي كانوا يفسِّرون القرآن تفسيراً سياسيّاً منحرفاً.
قال في البرهان: "اعلم أنّه لا يحصل للناظر فهم معاني الوحي، ولا يظهر له أسراره وفي قلبه بدعة أو كبر أو هوى أو حبّ للدنيا، أو هو مصرّ على الذنب أو غير محقّق بالإيمان أو ضعيف التحقيق"9.
وفي هذا المعنى قوله تعالى: ﴿سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ﴾10.3ـ الموضوعية: بمعنى التجرُّد، أي أن يقرأ الآيات بتجرُّد فيسير إلى حيث تأخذه الآيات، ولا يأخذ الآيات إلى حيث أفكاره ومعتقداته المسبقة ويُلزِم القرآن بها، والموضوعيّة هنا مقابل التحيُّز.
51
4ـ قدرة المفسِّر على الجمع والربط بين الآيات: أي أن يكون عنده شمولية في فهم القرآن الكريم؛ فالقرآن لا يمكن أخذه وتفسيره كآيات متناثرة، لأنّه هناك وحدة موضوعيّة بين الآيات، وعلى المفسِّر أن يراعيها، ويربط بينها، وإلّا فإنّه لا يستطيع تفسير القرآن وفهمه فهماً صحيحاً.
5ـ أن يملك المفسِّر عقلاً متدبِّراً واعياً لا عقلاً غافلاً وقارئاً: هناك نوعان من المفسِّرين: نوع يقرأ الآية ويقرأ ما يتعلّق بها من روايات ويقرأ آراء المفسِّرين ويجمعها ثمّ يكتب على ضوء ما رآه، وهذا ما يُسمّى "بالكاتب القارئ".
وهناك من يقرأ الآية والروايات وآراء المفسِّرين ويتدبَّر ويفكِّر ويستنتج فيأتي بمعنى جديد وهذه من أهمّ الصفات الّتي يجب أن يتمتّع بها المفسِّر الّذي يجب أن يملك عقلاً واعياً يمكنه من الاستنتاج والإتيان بالجديد كي لا يراوح مكانه.
يقول الشيخ محمّد جواد مغنيّة: "فإنّ أيّ مفسِّر لا يأتي بجديد لم يسبقه إليه أحد، ولو بفكرة واحدة في التفسير، هذا يعني أنّ هذا المفسِّر لا يملك عقلاً واعياً، وإنّما يملك عقلاً قارئاً، يرسم فيه ما يقرأ لغيره، تماماً كما ترتسم صورة الشيء في المرآة على ما هو من لون وحجم دون أيّ تأثُّر أو تأثير.
ذلك أنّ معاني القرآن عميقة إلى أبعد الحدود، لا يبلغ أحد نهايتها مهما بلغت مكانته من العلم والفهم وإنّما يكشف منها ما تُسعفه معارفه ومؤهِّلاته، فإذا وقف المفسِّر السابق عند حدٍّ من الحدود، ثمّ جاء اللاحق وترسّم خطاه لا يتجاوزها، ولو بخطوة واحدة كان تماماً كالأعمى يتوكّأ على عكّاز، فإذا فقدها جمد في مكانه"11.6ـ النظر إلى القرآن باعتباره كتاب هداية وحياة: من تتبّع آيات القرآن الكريم، وتدبّرها جيّداً، يجد أنّ وراءها هدفاً جامعاً مشتركاً، وإطاراً عامّاً يربط بين كلّ آياته وسوره، وهو أنّ هذا القرآن يهدف إلى هداية البشرية إلى الّتي هي أقوم، وأنّه يحمل دعوة إلى الحياة الطيّبة يسودها الأمن والعدل والسلام، بحيث يعيش الناس فيها في كلّ سعادة وطمأنينة ورفاه.
52
قال تعالى:﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا﴾12.
وقال سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُم﴾13.
وعلى هذا الأساس ومن هذا المنطلق ينبغي للمفسِّر أن ينطلق في محاولة تفسيره لآي الذكر الحكيم وبيان مصادرها وأهدافها، بحيث يجعل هذا الهدف العام والمشترك حاكماً على كلّ ما يمكن أن يتوصّل إليه أثناء تفسيره فلا يُناقضه أو يُهمله.
7ـ الحضور والإحساس والانسجام القلبي والعقلي مع القرآن: يقول الشيخ محمّد جواد مغنيّة: وهنا شيء آخر يحتاج إليه المفسِّر، وهو أهمّ وأعظم من كلّ ما ذكره المفسِّرون في مقدّمة تفاسيرهم لأنّه الأساس والركيزة الأولى لتفهُّم كلامه جلّ وعلا. ولم أر من أشار إليه... وهو أنّ معاني القرآن لا يدركها، ولن يدركها على حقيقتها، ويعرف عظمتها إلّا من يحسّها في أعماقه، ويسلّم معها بقلبه وعقله، ويختلط إيمانه بها بدمه ولحمه، وهنا يكمن السرّ في قول أمير المؤمنين عليه السلام: "ذاك القرآن الصامت وأنا القرآن الناطق"14.
53
خلا صة الدرس
ـ من العلوم الّتي لها صلة بعلم التفسير علم الكلام فيمكن للمفسِّر الاستفادة ممّا توصّل إليه هذا العلم الّذي يعتمد على محكم القرآن وما جاء صريحاً على لسان أهل الذكر عليهم السلام أثناء تفسيره وبيانه لتلك الآيات، وذلك لكي يكون على بيّنة ممّا يجوز على الله تعالى وأنبيائه عليهم السلام وما يستحيل عليهم.
ـ وهناك علم أصول الفقه ويفيد المفسِّر في مجال آيات الأحكام والبحوث الفقهيّة وغير ذلك. وصلته بالتفسير باعتبار أنّ قسماً مهمّاً من آيات القرآن المباركة تناولت الأحكام الشرعيّة والمسائل الفقهيّة، وهي موضوع لعلم الأصول.
وهذا العلم يزوِّد المفسِّر بضوابط وقواعد عامّة من شأنها أن تفيده إذا استعان بها، لا سيّما في مجال تفسير آيات الأحكام.
ـ ومن الأمور الّتي لها صلة بعلم التفسير، ويستفيد منها المفسِّر معرفة تاريخ العرب قبل الإسلام وفي زمن البعثة النبويّة الشريفة.
هناك صلة وثيقة بين علم التفسير ومعرفة التاريخ، فإنّ الاطلاع على تاريخ الجزيرة العربية قبل الإسلام وتاريخ عصر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والبعثة المباركة، له الأثر الإيجابي الكبير في عمليّة بيان وتوضيح مداليل ومقاصد كثير من الآيات المباركة.
ـ من المؤهِّلات والمهارات الشخصيّة: صحّة وصدق المعتقد، صحة المقصد، الموضوعية، قدرة المفسِّر على الجمع والربط بين الآيات، أن يملك المفسِّر عقلاً متدبِّراً واعياً لا عقلاً غافلاً وقارئاً، النظر إلى القرآن باعتباره كتاب هداية وحياة، الحضور والإحساس والانسجام القلبي والعقلي مع القرآن.