الحرب العالمية الثانية - الألمان بعد الاستسلام
في الثامن من مايو/ أيار عام 1945 دخل الاستسلام غير المشروط للجيش الألماني حيز التنفيذ، إلا أن السلام لم يعم بعد ذلك مباشرة كل أرجاء "الرايخ"، فالكثير من الألمان حل بهم الخوف من قوات التحالف التي انتصرت على النازية.
"الحرب انتهت. البنادق صمتت". هذه الجملة كتبتها هيلدغارت تاينرت في التاسع من مايو/ أيار 2015، وهو اليوم الذي أعلن فيه عن استسلام الجيش الألماني بكافة أرجاء ألمانيا. كتبت هيلدغارت هذه السطور في مفكرة زوجها. وبعد كتابة هذه الأسطر بقليل، قام زوجها، مدرس اللغة اللاتينية يوهانس تاينرت بإطلاق النار على زوجته أولاً، ثم الانتحار في باحة منزلهما ببلدة غلاتز في منطقة شليزيا السفلى.
في الساعة الحادية عشرة وخمس وأربعين دقيقة من ليلة الثامن من مايو/ أيار عام 1945، قام الجنرال فلدمارشال فيلهلم كايتل بتوقيع وثيقة الاستسلام الكامل وغير المشروط للجيش الألماني، وذلك بحسب التأريخ الرسمي لوثيقة الاستسلام. لكن في حقيقة الأمر، فإن كايتل قام بتوقيع هذه الوثيقة في التاسع من مايو/ أيار. كما أن توقيعه ما هو إلا إجراء شكلي لما جرى الاتفاق عليه قبل توقيع الوثيقة بيوم في مدينة ريمز الفرنسية، والتي أعلن فيها الكولونيل جنرال يودل "الاستسلام غير المشروط لكل القوات المسلحة البرية والبحرية والجوية للقائد الأعلى لقوات التحالف وفي نفس الوقت أيضاً للقائد الأعلى للقوات السوفييتية". وكان من المفترض أن تتوقف كافة العمليات القتالية في الساعة الحادية عشرة ودقيقة ليلاً في الثامن من مايو/ أيار.
تقول الرواية الشائعة إنه، وبإلحاح من جوزيف ستالين، كان من المفترض إعادة هذه المراسم مرة أخرى في برلين، وذلك لعدم وجود ممثل رفيع المستوى للقوات المسلحة السوفييتية في ريمز. حول ذلك تقول مارغوت بلانك من المتحف الألماني الروسي في برلين: "لقد لعب ذلك بالتأكيد دوراً ما، إلا أن التأكيد على القيام بذلك جاء بشكل رئيسي من الجانب البريطاني، الذي أشار إلى أنه خلال الحرب العالمية الأولى، قامت قيادة الجيش الألماني بإرسال الحكومة المدنية للاستسلام، كي تقول في ما بعد إنها لم تُهزم في الميدان".
هل انتهى "الرايخ الثالث"؟
هذا الخوف من "طعنة ألمانية في الظهر" دفع البريطانيين إلى الموافقة على اقتراح ستالين، بحسب ما تقول بلانك. ولذلك، وجب على كبار قادة الجيش الألماني آنذاك توقيع وثيقة الاستسلام، وهم كايتل نيابة عن القوات المسلحة بأكملها، بالإضافة إلى الكولونيل جنرال شتومف عن سلاح الجو والجنرال أدميرال فون فريدبيرغ عن سلاح البحرية.
التوقيع على وثيقتي الاستسلام في ريمز وبرلين جاء بالاتفاق مع القيصر الألماني آنذاك، كارل دونيتز، الذي أصبح الخليفة الرسمي للطاغية هتلر منذ انتحاره في الثلاثين من أبريل/ نيسان، والذي اتخذت حكومته مدينة فلنسبورغ مقراً لها بعد فرارها من برلين. حتى بعد التوقيع، بقيت تلك الحكومة رسمياً ممثلة لألمانيا، إذ يشير يوهانس هورتر من معهد التاريخ المعاصر في ميونخ إلى أن "الجيش فقط هو من استسلم، وليس الرايخ الألماني". وفي الثالث والعشرين من مايو/ أيار، ألقت قوة الاحتلال البريطانية القبض على دونيتز وعدد من أعضاء حكومته، أيضا بطلب من الأمريكيين بعد حصولهم على معلومات تفيد بإعدام عدد من الأشخاص بعد الثامن من مايو/ أيار بناء على أحكام أصدرتها محاكم عسكرية ألمانية.
كل ذلك يعني أن "ساعة الصفر" لم تدق لكافة الألمان في الثامن من مايو/ أيار، فبالنسبة لإستر بيارانو، دقت تلك الساعة نهاية أبريل/ نيسان، عندما التقى الجنود الروس بنظرائهم الأمريكيين وأضرموا النار في صورة لهتلر وهم يهتفون فرحاً. ومن بين المشاركين في هذا الاحتفال فتيات يهوديات نجحن في الفرار من "مسيرات الموت" في أنحاء متفرقة من ألمانيا، والتي كانت بيارانو إحداهن.
تتذكر إستر بيارانو، التي تبلغ الآن التسعين من العمر، تلك اللحظات بالقول: "لقد قاموا (الجنود) بتشكيل حلقة رقص حول تلك الصورة، بينما كنت أعزف الموسيقى لهم". كانت تلك اللحظة هي الأولى التي تقوم فيها بعزف آلة الأكورديون طوعاً، بعدما كانت فرقة العزف للبنات في معسكر الإبادة آوشفيتز فرصتها الوحيدة للنجاة. وتضيف إستر: "لقد كانت تلك لحظة تحرري. لقد أدركنا آنذاك أننا أصبحنا أحراراً".
تم تحرير كافة معسكرات الإبادة والاعتقال بحلول الثامن من مايو/ أيار. ولكن ما هو مصير أولئك الذين تم تحريرهم منها؟ لقد هام العديد منهم على وجهه في ألمانيا بحثاً عن أقاربهم، بينما بقي آخرون لأسابيع عدة في المعسكرات التي كانوا معتقلين فيها بسبب الإرهاق الشديد. أما في معسكر الإبادة بيرغن بلزن، فقد أقام البريطانيون معسكراً للنازحين والمشردين.
"عدني يا طفل بأنك ستطلق النار على نفسك"
هذا ويقول أستاذ التاريخ هورتر إن "الملايين ممن فقدوا بيوتهم هاموا على وجوههم في مختلف أنحاء ألمانيا سابقاً، ومن بينهم المشردون وعمال السخرة وأسرى الحرب واللاجئون والمعتقلون السابقون في معسكرات الإبادة والاعتقال"، مضيفاً أن "عواطف عدة كانت تسود تلك الفترة، ما بين الشعور بالتحرر إلى الشعور بالخوف". وبالعودة إلى الزوجين تاينرت في منطقة شليزيا السفلى، فقد كانا يشعران بالخوف من انتقام المنتصرين في الحرب، ذلك أنهما أدركا حجم الجرائم التي ارتكبها الألمان بعد حديث مع أحد الجنود العائدين من الجبهة الشرقية.
يصف فلوريان هوبر في كتابه "عدني يا طفل بأنك ستطلق النار على نفسك" أكبر جريمة قتل جماعي في تاريخ ألمانيا، بما في ذلك مصير الزوجين تاينرت. ويقول حول ذلك: "لقد شعر الكثيرون بالذنب والتورط في ما حدث، ولذلك كانوا خائفين مما هو قادم".
ويورد هوبر أدلة على أنه في بلدة ديمن الصغيرة بمنطقة بومرانيا الغربية وحدها، أقدم ما بين 700 وألف شخص هناك على الانتحار، وذلك بالنظر إلى أن عدد سكان البلدة لم يتجاوز 15 ألف نسمة. أما في العاصمة برلين، فقد زادت نسبة الانتحار في السنة الأولى بعد انتهاء الحرب بنسبة خمس مرات مقارنة بالسنوات التي سبقتها.
وأيضاً ببلدة غلاتز في شليزيا السفلى، لم يكن المعلم تاينرت وزوجته الوحيدين اللذان أقدما على الانتحار، إذ كتبت هيلدغارت تاينرت في المفكرة، بعد يوم واحد فقط من إعلان انتهاء الحرب وقبيل إطلاق النار عليها من قبل زوجها: "لم تبق إلا لحظات قليلة، وبعدها ينتهي كل شيء .. للأبد".