ظلامٌ طويلٌ لفَّ هذه الكيانات الكونية، ولعلنا لم نتخيل يومًا مشاهدتها بالعين المجردة، فكل ما وصلنا عنها حتى الآن كان نتيجة تأثيرها ذائع الصيت، أمّا مشاهدتها…. ربما كان أفضل ما خطر في بالنا هو مئة عامٍ قادمة؛ على الأقل.
لكن، هل سنصل يومًا إلى تصديق ما قاله أينشتاين– كلّ ما قاله- منذ مئة عام؟ لقد تنبأ بالأمواج الثقالية، وسمعنا صوتها، يبدو أنّ الـ- نعم- هي الإجابة الصحيحة، فها نحن اليوم نرى بأم أعيننا صور الثقب الأسود، ولمن خانه السمع فلم يسمع صوت الموجات الثقالية ولم يصدق أينشتاين، انظروا بأعينكم.
الصورة التقطها تلسكوب حمل اسم “أفق الحدث”، وربما كان اسمًا على مسمًّى الآن.
تلسكوب أفق الحدث EHT
Event Horizon Telescope أو EHT تلسكوب يحاكي تلسكوب بحجم الأرض، وهو مصفوفة من ثمان تلسكوبات راديوية أرضية نشأت عن تنسيق دولي، وهو مصمم لالتقاط صورةٍ لثقبٍ أسود.
اليوم، وعبر مؤتمرٍ صحفي جرى بالتنسيق بين علماء الفلك القائمين على المشروع من كافة أنحاء العالم؛ كشف باحثو EHT أنهم نجحوا بالكشف عن أول دليلٍ مرئي مباشر عن ثقبٍ أسود فائق الكتلة وظله.
أُعلن عن هذا الكشف عبر أطروحةٍ من ست صفحات نُشرت في دورية The Astrophysical Journal Letters. وكشفت الصورة عن ثقبٍ أسود يقع في مركز مجرة ميسيه 87 (Messier 87)، وهي مجرةٌ عملاقة تقع بالقرب من عنقود كوكبة العذراء. يبعد هذا الثقب الأسود 55 مليون سنة ضوئية عن الأرض، وكتلته تفوق كتلة الشمس ب6.5 مليار مرة.
يقول رئيس مؤسسة العلوم الوطنية فرانس كوردوفا France Córdova: “يومٌ عظيمٌ للفيزياء الفلكية، إننا نشاهد ما لا يمكن أن نشاهده، ولطالما شحذت الثقوب السوداء مخيلتنا بخصائصها الغريبة وغموضها بالنسبة لنا، ومع ذلك، وعبر المزيد من عمليات الرصد المشابهة لتلك، إنها تكشف عن أسرارها، هذا هو الغرض من وجود الوكالة”.
EHT هو تلسكوب له حجم الأرض افتراضيًا، ويتمتع بدقةٍ وحساسيةٍ لم نشهد مثيلًا لهما. وهو نتاج أعوامٍ من التنسيق الدولي، كما ويقدم للعلماء طريقةً جديدة لدراسة أكثر أجسام الكون تطرفًا والتي تنبأت نظرية أينشتاين في النسبية العامة بوجودها، في الاحتفالية المئوية للنظرية التي ثبتت صحتها الآن.
يقول مدير مشروع EHT شيبارد دويلما من مركز هارفارد وسميثسونيان للفيزياء الفلكية: “لقد التقطنا أول صورةٍ لثقبٍ أسود، تلك خطوة علمية عملاقة وبطولية قامت بها مجموعة من أكثر من مئتي باحث”.
لعبت مؤسسة العلوم الوطنية دورًا كبيرًا في هذا الإنجاز، بتمويلها منذ بداية المشروع عمليات بحثٍ واستقصاء فردية، وفريق من مختلف التخصصات العلمية ومرافق بحث فلكية راديوية، لقد منحت المؤسسة المشروع 28 مليون دولار مباشرةً، وهي أكبر ممولي المشروع.
الثقوب السوداء
الثقوب السوداء هي أجسام كونية غريبة جدًا، وتتميز بأنها فائقة الكتلة، لكنّ أحجامها مركّزة، ويؤثر وجود هذه الكيانات على محيطها بطرق عنيفة، كما وتمزق الزمكان، وتسبب تسخينًا فائقًا لأي مواد في المحيط.
لو وضعنا ثقبًا أسودًا في منطقةٍ من غازات متوهجة، كقرص غازي مثلًا، نتوقع أن يقوم الثقب الأسود بخلق منطقةٍ مظلمة تشبه الظل، وهو أمرٌ تنبأت به نظرية أينشتاين في النسبية العامة، وهذا الظل الناتج عن الانحناء الذي تسببه الجاذبية واحتجاز أفق الحدث للضوء، يكشف الكثير عن طبيعة هذه الأجسام المذهلة ويسمح لنا بقياس الكتلة الهائلة للثقب الأسود M87″.
لقد كشفت عمليات المعايرة والتصوير المستمرة عن بنية حلقية مع منطقةٍ مركزية مظلمة- ظلّ الثقب الأسود- وقد استمر ظهور ذلك على مدار مختلف عمليات الرصد التي قام بها EHT. وكان تطابق الصور مع النماذج النظرية مذهلًا.
تنبؤات صادقة ولو بعد حين
منذ مئة عامٍ مضت، صور أينشتاين الجاذبية على أنها القوة التي تسبب تشوه الزمكان، وقد بينت معادلاته أنّ جسمًا فائق الكتلة وصغيرًا بما يكفي، يمكن أن يتوارى خلف أفق الحدث، وأفق الحدث هو الحد الذي تبلغ فيه الجاذبية حدًّا هائلًا من القوة فلا ينفذ حتى الضوء عبره.
ولطالما اعتقد علماء الفلك أن هذه الأجسام المعروفة باسم الثقوب السوداء موجودة، وهي تشغل مركز كلّ المجرات المعروفة، وهناك تبلغ كتلتها مليارات وربما تريليونات أضعاف كتلة شمسنا.
لكن العراقة في التاريخ ليست كلّ شيء، فهذه الأجسام التي ربما تشغل الصدارة في العلوم الفلكية- ويرجع السبب في ذلك إلى غموضها أكثر من أي شيءٍ آخر- ورغم كل ما أحرز علم الفلك والفيزياء الفلكية من تقدم، لم نرها مباشرةً، لم نرَ أبدًا ثقبًا أسودًا، وسيكون تلسكوب أفق الحدث، أو اختصارًا EHT، هو أول أداةٍ تجريبيةٍ تلتقط صورة لثقبٍ أسود. بذلك سيختبر تلسكوب أفق الحدث نظرية أينشتاين في الجاذبية، في أحد أكثر الأماكن تطرفًا وحدةً في الكون، إنه أفق الحدث.
تلسكوب أفق الحدث
إن أفضل الأماكن لالتقاط صورةٍ لأفق الحدث هي ثقبٌ أسود فائق الكتلة واقعٌ في مركز مجرتنا “درب التبانة”.
يفوق حجم هذا الثقب الأسود حجم شمسنا بأربعة ملايين ضعفًا، وهو بعيد جدًّا عنا بحيث أننا إن رسمنا خارطةً لنا مع أفق الحدث لهذا الثقب الأسود؛ سيبدو الأمر مشابهًا للوقوف في نيويورك وعدّ النتوءات الصغيرة الموجودة على كرة غولف في لوس أنجلوس.
ترتفع درجة حرارة الغازات التي تسقط داخل هذا الثقب الأسود لتصل مليارات الدرجات المئوية، ما يسبب ظهور أفق حدث هذا الثقب الأسود كهالةٍ لصورةٍ ظليلية. حجم أفق الحدث هذا وشكله يمكن التنبؤ به من نظرية أينشتاين. ومن الأفضل رصد هذا الظل بواسطة ضوءٍ يصل طول موجته 1 ميلليمتر، حيث يزداد سطوع الغاز، ويمكن للضوء أن ينتقل دون عوائق من مركز المجرة إلى التلسكوبات الموجودة على سطح الأرض.
بالقرب من الثقب الأسود، تبدو الأمواج الضوئية دائرية كتموج المياه في البحيرة، لكنها ومع وصولها إلى الأرض، تصبح أمواج مستوية بشكلٍ أساسي، وتصوير ثقبٍ أسود عند هذا الطول الموجي، يتطلب تلسكوبًا يبلغ حجم كوكبنا.
إن تلسكوب EHT يستخدم شبكةً أرضيةً من الصحون اللاقطة تحاكي تلسكوبًا بحجم الأرض، ويلتقط كل صحن الأمواج الراديوية القادمة من مناطق قريبة من الثقب الأسود ويسجلها، ومن ثمّ يتم تجميع هذه البيانات لخلق صورةٍ لأفق الحدث. إنجاز هذا الأمر ممكنًا فقط إن تمت مزامنة الصحون. ولفهم ذلك، لنقم بتشبيه ذلك بالمرآة، ولنقل أن هذه التلسكوبات البصرية (كالمرايا) تُستخدم لعكس صور النجوم. تخيل جوانب تلسكوب أفق الحدث المؤلفة من مختلف عناصر المصفوفة الثمان كمرآة واحدة تأخذ شكل قطعٍ مكافئ، هذه المرآة منحنية، لذا عندما ترد موجةٌ ضوئيةٌ على الصحن، ترتد عنه بزاويةٍ محددة وتصل إلى مركز القطع المكافئ في الوقت ذاته. ولدى مزامنة جميع صحون EHT، حينها ستصطف التسجيلات جميعها تمامًا كاصطفاف انعكاس الضوء المرئي عن المرآة المستوية.
إن لم يكن سطح المرآة مستقرًا، كأن يهتز مثلًا، لن تتجمع الأشعة الضوئية المنعكسة بشكلٍ صحيح في المركز، وبالنسبة لـ EHT يشبه سطح مرآةٍ غير مستقر تسجيلات غير مستقرة، وللتأكد من الاستقرار، يستخدم EHT ساعاتٌ ذرية، وهذه الساعات تتأخر ثانيةً واحدة كل مئة مليون عام.
إن البيانات المسجلة من عمليات الرصد كبيرة جدًا بحيث لا يمكن أن تنتقل عبر الإنترنت، لذا تخزن التسجيلات على أقراص صلبة وتنقل ثانيةً إلى مرفق مركزي للمعالجة. وهناك يقوم حاسوبٌ فائق بدمج البيانات من كل المواقع، مجدولًا إياها أثناء التشغيل لحساب الفروقات الزمنية بين وصول الموجات جميعها إلى كل تلسكوب. بعد ذلك، تُستخدم البيانات الناتجة لخلق صور بقدرة تكبيرٍ هائلة، وبوجود العديد من الصحون في EHT والمسافات الكبيرة الفاصلة بينها، نحصل على صور أكثر حدة لأفق الحدث.
في نيسان/ أبريل من عام 2017، بدأ التنسيق لعمليات رصد الثقب الأسود المركزي في درب التبانة، باستخدام شبكة تلسكوباتٍ عالمية أرضية، ويقوم فريقٌ دولي من علماء الفلك بتحليل البيانات، وكانوا مصممين على تصوير ثقبٍ أسود للمرة الأولى، وبالطبع من شأن النتائج أن تخطو بفهمنا للثقوب السواء والكون والجاذبية.
نجوى بيطار - اراجيك