مناظرة البهلول مع عمرو بن عطاء في فضل أهل البيت عليهم السلام
حكى صاحب المجالس عن الشيخ الاَجل المتكلم محمد بن جرير بن رستم الطبري انّه روى في كتاب الايضاح أن البهلول كان ماراً في بعض أزقة البصرة فرأى جماعة يسرعون في المشي أمامه فقال لرجل منهم : هؤلاء البهائم الشاردون بلا راع إلى أين يذهبون ؟!
فقال له ذلك الرجل من باب المزاح : يطلبون الماء والكلأ !!
فقال له البهلول : كيف ذلك مع قلة الحمى والمنع الشديد ، والله لقد كان العلف كثيراً رخيصاً ولكنهم أحرقوه بالنار ، ثم أنشد هذه الاَبيات :
بـرئت إلــى الله من ظالم ***** لسبط النبــي أبي القاسـم
ودنــت إلهي بحب الوصي ***** وحب النبي أبـي فاطــم
وذلك حـــرز من النائبات ***** ومـن كل متهــمغاشـم
بهم أرتجـي الفوز يوم المعاد ***** وأنجو غداً من لظى ضارم
فلما سمعوا كلامه رجعوا إليه ، وقالوا له : إنهم ذاهبون إلى مجلس والي البصرة محمد بن سليمان ابن عم الرشيد .
فقال : لاَي شيءٍ تذهبون إليه ؟
فقالوا : إن عمرو بن عطاء العدوي من أولاد عمر بن الخطاب ، ومن علماء الزمان حضر مجلسه ، ونريد تحقيق حاله ومعرفة مبلغ فضله وكماله ، وإن كنت تذهب معنا لتناظره كان ذلك حسناً !
فقال لهم بهلول : ويلكم ، مجادلة العاصي توجب زيادة جرأته على العصيان ، ويمكن أن توقع أصحاب البصيرة في الشبهة ، ولا شكّ في وجود الله تعالى ، ولا شبهة في الحق ولا التباس ، فإذا كنتم من أهل المعرفة تقنعون بما أخذتم من أهل العرفان .
فلما يئسوا منه ذهبوا إلى مجلس محمد بن سليمان ، وحكوا له ما جرى لهم مع البهلول ، فأمر غلمانه بإحضاره فأحضروه ، فلما وصل إلى قرب دار محمد بن سليمان ، قام عمرو بن عطاء العدوي واستأذن محمد بن سليمان في مناظرة بهلول؟ فإذن له .
فلما وصل بهلول إلى الدار قال : السلام على من اتبع الهدى وتجنب الضلالة والغوى .
فقال عمرو بن عطاء : السلام على المسلمين ، إجلس يا بهلول ؟
فقال بهلول : أتأمرني بشيء لا مدخل لك فيه ، وتتقدم فيه على رجل فضله عليك ظاهر ، ومثلك في هذا الباب مثل رجل طفيلي على خوان رجل آخر ويريد أن يمتن على الناس ويعطيهم من هذا الخوان !!
فبقي عمرو بن عطاء مبهوتاً لا يحير جواباً !!
فحينئذٍ قال محمد بن سليمان لعمرو بن عطاء : كنت تريد أن تناظره ، وهو في حديث الورود جعلك ساكتاً مبهوتاً!
فقال بهلول : أيها الاَمير هذا الاَمر ليس صعباً عند الله تعالى ، أما قرأت قوله تعالى : ( فبهتَ الذي كفرَ واللهُ لا يهدي القومَ الظالمين ) (۱).
ثم قال محمد بن سليمان للبهلول : المجلس مجلسي وقد أذنت لك في الجلوس !
فدعا له بهلول فقال : عمر الله مجلسك ، وأسبغ نعمه عليك ، وأوضح برهان الحق لديك ، وأراك الحق حقاً ، وأعانك على اتباعه ، وأراك الباطل باطلاً ، وأعانك على اجتنابه .
فقال عمرو بن عطاء : يا بهلول التزم طريق الحق وابتعد عن الهزل ، وتكلم كلاماً حسناً !؟
فقال بهلول : ويلك ! هل يوجد كلام أحسن من هذا الكلام الاِلهي ؟ وهل يوجد كلام جدي غيره ؟ فأنت تكلم كلاماً تقياً ، ولا تشر إلى عيوب الناس قبل أن تنظر في عيب نفسك !
فقال عمرو بن عطاء : أنت ترى نفسك من مشهوري زمانك ، وتدعي الاطلاع على المعارف ، فأريد إما أن تسألني أو أسألك ؟
فقال بهلول : لا أحب أن أكون سائلاً ولا مسؤلاً !!
فقال العدوي : لماذا ؟
قال : لاَني إذا سألتك عن شيء لا تعلمه ؟ لا تقدر أن تجيبني عنه ، وإذا سألتني تسألني بطريق أهل التعنت والعناد ؟ فيختلط الحق بالباطل ، والذين هم كذلك نهى الله تعالى عن مجالستهم بقوله تعالى : ( وإذا رأيتَ الَّذينَ يَخُوضونَ في آياتِنا فأعرِض عنهُم حتى يخُوضُوا في حديثٍ غَيرهِ وإِما يُنسينَّكَ الشيطانُ فلا تقعُد بعدَ الذكرى مع القومِ الظالمين ) (۲).
فقال العدوي : إن كنت من أهل الاِيمان ، فقل لي ما هو الاِيمان ؟
فقال بهلول : قال مولاي جعفر بن محمد الصادق عليه السلام : الاِيمان عقد بالقلب ، وقول باللسان ، وعمل الجوارح والاَركان . (۳)
فقال العدوي : تقول ان إمامك الصادق ! فيظهر من هذا انه في زمانه لم يكن صادق غيره ؟
فقال بهلول : هو كذلك (4) ، ومع ذلك فهذا يجري عليك فإن سُميَّ أبا بكر الصديق ، فهل في زمانه لم يكن صديق غيره ؟!
فقال العدوي : بلى ، لم يكن غيره ؟
فقال بهلول : كلامك هذا ردٌ على الكتاب والسنة ، أما الكتاب : فلأن الله تعالى جعل من آمن بالله ورسوله صدِّيقاً ، فقال : ( والذين آمنوا بالله ورسُله أولئك هُمُ الصديقُون ) (5) ، وأما السنة فلأن الرسول صلى الله عليه وآله قال لبعض أصحابه : إذا فعلت الخير كنتَ صدِّيقاً (6) .
فقال العدوي : إن أبا بكر سمي صدِّيقاً لاَنه أول رجل صَدق الرسول صلى الله عليه واله .
فقال بهلول : مع أن الاَولوية ممنوعة ، تخصيصه بذلك خطأ في اللغة ، ورداً على الآية المذكورة ؟!
فترك العدوي هذه الجهة وجعل ينتقل معه من غصن إلى غصن إلى أن قال لبهلول : من إمامك ؟
قال : إمامي من أوجب الرسول صلى الله عليه وآله له على الخلق الولاء ، وتكاملت فيه الخيرات ، وتنزّه عن الاَخلاق الدنيات ، ذلك إمامي وإمام البريات.
فقال له العدوي : ويلك إذاً لا ترى أن إمامك هارون الرشيد ؟
فقال البهلول : أنت لاَي شيءٍ ترى أن أمير المؤمنين خال من هذه الصفات والمحامد ، والله إني لا أظن إلا أنك عدو لاَمير المؤمنين ، مخالف له في الباطن وتظهر الاعتقاد بخلافته ، وأقسم بالله لو بلغه هذا الخبر لاَدبك تأديباً بليغاً.
فضحك عند ذلك محمد بن سليمان ! وقال لعمرو بن عطاء : والله لقد ضيعك بهلول ، وجعلك لا شيءَ ، وأوقعك في الورطة التي أردت أن توقعه فيها ، وما أحسن بالاِنسان أن يبتعد عما لا يحسنه ، وما أقبح به أن يدخل في شيءٍ يعلم أنه ليس من أهله ، ثمّ أمر بعض غلمانه فأخذ بيد عمرو بن عطاء وأخرجه من المجلس !
وقال لبهلول : ما الفضل إلا فيك ، وما العقل إلا عندك ، والمجنون من سماك مجنوناً ، يا بهلول ، أخبرني : أيهما أفضل علي بن أبي طالب عليه السلام أو أبو بكر؟
فقال بهلول : أصلح الله الاَمير : إن علياً من النبي صلى الله عليه وآله كالصنو من الصنو، والعضد من الذراع ، وأبو بكر ليس منه ، ولا يوازيه في فضله إلا مثله ، ولكل فاضل فضله !
ثم قال محمد بن سليمان لبهلول : أخبرني أولاد علي أحق بالخلافة أو أولاد العباس ؟
فرأى بهلول أن المقام حرج ! فسكت خوفاً من محمد !
فقال له محمد : لم لا تتكلم ؟
فقال بهلول : أين للمجانين قوة تمييز وتحقيق هذه الاَمور (۷) ؟!
———————————-
(۱) سورة البقرة : الآية 258 .
(۲) سورة الاَنعام : الآية 68 .
(۳) راجع بحار الاَنوار : ج 69 ص 65 ح ۱۳ وص 69 ح 24 و25 وج ۷۷ ص 162 ح۱٫
(4) فقد جاء في سبب تسمية الاِمام الصادق عليه السلام بالصادق : عن أبي خالد الكابلي عن الاِمام علي بن الحسين عليهما السلام في حديث له …إلى أن قال عليه السلام : ومن بعد محمد ابنه جعفر واسمه عند أهل السماء الصادق ، فقلت له : يا سيدي كيف صار اسمه الصادق وكلهم صادقون ؟ قال: حدثني أبي عن ابيه عليهما السلام إن رسول الله صلى الله عليه وآله قال : إذا ولد ابني جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب فسموه الصادق فإن الخامس الذي من ولده الذي اسمه جعفر يدعي الاِمامة اجتراءً على الله وكذباً عليه وهو عند الله جعفر الكذاب المفتري على الله الخ ، (راجع: بحار الاَنوار : ج 36 ص 386 ح ۱ ، علل الشرائع : ج ۱ ص 234 ب ۱٦۹) .
(5) سورة الحديد : الآية ۱۹ .
(6) روي عن الاِمام الباقر عليه السلام عن الاِمام علي بن الحسين عليهما السلام عن رسول الله صلى الله عليه وآله قال : مايزال العبد يصدق حتى يكتبه الله صديقاً ، وما يزال العبد يكذب حتى يكتبه الله كذاباً. (راجع: بحار الاَنوار : ج ۷۲ ص235 ح ۲) .
(۷) أعيان الشيعة للاَمين : ج ۳ ص 618 ـ 619 .