لقد نظرت كتب أهل السنة والجماعة إلى موسى الكاظم نظرة إجلالٍ وإكبارٍ وتقدير، ووجدنا ذلك واضحًا في كتب علماء الرجال والتراجم، مثل كتب: الخطيب البغدادي والذهبي وابن الأثير وابن كثير وابن حجر وغيرهم من الذين ترجموا له ترجمةً وافيةً ومنصفةً وعادلة.

نسب موسى الكاظم ومولده

هو أبو الحسن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين ابن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم، أحد الأئمة الاثني عشر [1] عند الإمامية الشيعة الروافض وهو سابعهم (في زعمهم) [2]، وهو من سادات بني هاشم [3]، وُلِد بـ المدينة المنورة في سنة ثمان وعشرين ومائة (128هـ= 746م)، وقيل: سنة تسع وعشرين ومائة (129هـ= 747م) [4]، لُقِّب بالكاظم والصابر والصالح والأمين، وقيل: سُمِّي بالكاظم لِمَا كظمه من الغيظ والصبر على فعل الظالمين به، وقيل: لأنَّه كان يُحسن إلى من يُسيء إليه [5].

حدَّث موسى الكاظم بأحاديث عن أبيه وحدَّث عنه أولاده وأخواه، وقيل: إنَّه رَوى عن عبد الله بن دينار، وعبد الملك بن قدامة [6]، وقد مدحه وأثنى عليه كثيرٌ من العلماء والفقهاء؛ فقال عنه ابن أبي حاتم: "هو ثقةٌ صدوق إمامٌ من أئمَّة المسلمين" [7]، وقال الذهبي: "هو أجلُّ وأشرف آل جعفر الصادق وهو الإمام القدوة السيد [8]، وهو من أجواد الحكماء ومن العباد الاتقياء، وله مشهد معروف ببغداد" [9].

عبادة موسى الكاظم واجتهاده

كان موسى الكاظم عبدًا صالحًا ناسكًا كثير العبادة والبرِّ والإحسان إلى الخلق [10]، حتى قيل: "إنَّه من أعبد أهل زمانه، وأحد كبار العلماء الأجواد" [11]، وكان يُدعَى العبد الصالح لكثرة عبادته واجتهاده وقيامه بالليل، وقد رُوِي أنَّه دخل مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فسجد سجدةً في أوَّل الليل، وسُمِع وهو يقول في سجوده: «عَظُم الذنب عندي، فليحسن العفو من عندك يا أهل التقوى ويا أهل المغفرة»، فجعل يُردِّدها حتى أصبح [12].

وحُكي عن موسى رحمه الله أنَّه كان إذا صلَّى العتمة حمد الله ومجَّده ودعاه إلى أن يزول الليل، ثم يقوم فيُصلي حتى يُصلي الصبح، ثم يذكر الله تعالى حتى تطلع الشمس، ثم يقعد إلى ارتفاع الضحى، ثم يرقد ويستيقظ قبل الزوال، ثم يتوضَّأ ويُصلي حتى يُصلي العصر، ثم يذكر الله حتى يُصلي المغرب، ثم يُصلي ما بين المغرب والعتمة، فكان هذا دأبه إلى أن مات [13].

سخاء موسى الكاظم وحلمه

كان موسى الكاظم سخيًّا كريمًا، وكان يبلغه عن الرجل أنَّه يُؤذيه فيبعث إليه بصُرَّةٍ فيها ألف دينار، وكان يُصرِّ الصُّرَر ثلاثمائة دينار، وأربعمائة دينار، ومائتي دينار، ثم يُقسِّمها بالمدينة [14].

قال محمد بن عبد الله البكري: "قدمت المدينة أطلب بها دينًا فأعياني، فذهبت إلى أبي الحسن موسى بن جعفر فخرج إليَّ فذكرتُ له قصَّتي، فدخل فلم يقم إلَّا يسيرًا حتى خرج ودفع إليَّ صُرَّةً فيها ثلاثمائة دينار" [15].

وقال عيسى بن محمد بن مغيث القرظي: "زرعت بطيخًا وقثَّاءًا وقرعًا، فلمَّا استوى الزرع أتى الجراد عليه كلَّه، وبينما أنا جالسٌ طلع موسى بن جعفر، فسلَّم ثم قال: كيف حالك؟ فقلت: أصبحتُ كالصريم، بيَّتني الجراد فأكل زرعي، قال موسى: وكم غرمت فيه؟ قلت: مائة وعشرين دينارًا، فوزن لي مائةً وخمسين دينارًا" [16].

موسى الكاظم وقصة حبسه في بغداد

كان موسى الكاظم رحمه الله يسكن المدينة فأقدمه الخليفة محمد المهدي إلى بغداد [17] وحبسه في سنة 162هـ، ثم ردَّه إلى المدينة؛ فعن الربيع (وزير الخليفة المهدي) يقول: أنَّه لمـَّا حبس محمد المهدي موسى بن جعفر رأى في المنام عليَّ بن أبي طالب يقول له: «يا محمد {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ}[محمد: 22]»، قال الربيع: فأرسل محمد المهدي إليَّ ليلًا فجئته، فقال: عليَّ بموسى فجئته به، فعانقه وقصَّ عليه الرؤيا، وقال: تُؤمِّنَنِي أن تخرج عليَّ أو على ولدي؟ فقال: "والله لا فعلتُ ذاك، ولا هو من شأني". قال: صدقت، وأعطاه ثلاثة آلاف دينارٍ وردَّه إلى المدينة [18].

أقام موسى الكاظم رحمه الله في المدينة حتى حمله هارون الرشيد بغداد وحبسه بها [19]، وكان سبب حبسه أنَّ الرشيد اعتمر في رمضان من هذه السنة، فلمَّا عاد إلى المدينة دخل إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم يزوره ومعه الناس، فلمَّا انتهى إلى القبر وقف فقال: السلام عليك يا رسول الله يا ابن عمِّ (افتخارًا على من حوله)، فدنا موسى رحمه الله فقال: السلام عليك يا أبتِ، فتغيَّر وجه الرشيد وقال: هذا الفخر يا أبا الحسن حقًّا، وأخذه وحبسه [20].

وفاة موسى الكاظم

تُوفِّي موسى الكاظم سنة ثلاث وثمانين ومائة (183هـ= 799م) ببغداد [21]، وقيل سنة ست وثمانين ومائة (186هـ= 802م) [22]، والأوَّل أصح [23]، قيل إنَّه تُوفِّي مسمومًا [24]، وقيل: تُوفِّي في الحبس [25]، ودُفن في مقابر الشونيزيِّين [26][27]، وقبره هناك مشهور ويُزار [28]، وقد عاش موسى الكاظم رحمه الله بضعًا وخمسين سنة كأبيه وجده وجد أبيه وجد جده [29].

فرحمه الله رحمة واسعة؛ فهو أحد آل بيت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الطيبين الأطهار، وإذا كان الشيعة يقدسونه ويضعونه أحد أئمتهم على زعمهم المنكر، فنحن -أهل السنة والجماعة- أحق به وبكل آل النبي صلوات الله عليه وسلامه منهم ومن كل مدَّعٍ أفاق، فالأولى بنا أن نعرفهم حق المعرفة وأن نُطهِّر سِيَرَهم العطرة من الإفك والبهتان، وأن نقتدي بهم وخاصة بعلمائهم الأكارم الأشراف الذين أثروا حضارتنا وتاريخنا الإسلامي الفريد بعلمهم ومآثرهم وأعمالهم الجليلة، فرحمهم الله جميعًا ونفعنا بهم، وصلى اللهم على أبيهم وجدهم وحبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم.


[1] انظر: الصفدي: تحقيق: أحمد الأرناءوط وتركي مصطفى، دار إحياء التراث، بيروت،1420هـ= 2000م، 10/23، وابن خلكان: وفيات الأعيان، تحقيق: إحسان عباس، دار صادر، بيروت، الطبعة الأولى، 1994هـ، 5/308.
[2]حاجي خليفة: سلم الوصول إلى طبقات الفحول، تحقيق: محمود عبد القادر الأرناءوط، مكتبة إرسيكا، إستانبول، تركيا، 2010م، 3/355.
[3] الزركلي: الأعلام، دار العلم للملايين، الطبعة الخامسة عشر، 2002م، 7/321.
[4] الخطيب البغدادي: تاريخ بغداد، تحقيق: الدكتور بشار عواد معروف، دار الغرب الإسلامي، بيروت، الطبعة الأولى، 1422هـ= 2002م، 15/ 14، والجوزي: صفة الصفوة، تحقيق: أحمد بن علي، دار الحديث، القاهرة، مصر، ط 1421هـ= 2000م، 1/401.
[5] ابن الأثير: الكامل في التاريخ، تحقيق: عمر عبد السلام تدمري، دار الكتاب العربي، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 1417هـ= 1997م، 5/332.
[6] الذهبي: سير أعلام النبلاء، تحقيق: مجموعة من المحققين بإشراف الشيخ شعيب الأرناءوط، مؤسسة الرسالة، الطبعة الثالثة، 1405هـ= 1985م، 6/270، وابن كثير: التكميل في الجرح والتعديل ومعرفة الثقات والضعفاء والمجاهيل، تحقيق: شادي بن محمد بن سالم آل نعمان، مركز النعمان للبحوث والدراسات الإسلامية وتحقيق التراث والترجمة، اليمن، الطبعة الأولى، 1/235، 236، وابن حجر: تهذيب التهذيب، مطبعة دائرة المعارف النظامية، الهند، الطبعة الأولى، 1326هـ، 10/339.
[7] ابن أبي حاتم: الجرح والتعديل، طبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية، بحيدر آباد الدكن، الهند، دار إحياء التراث العربي، بيروت، الطبعة الأولى، 1271هـ= 1952م، 8/139.
[8] الذهبي: سير أعلام النبلاء، 6/270.
[9] الذهبي: ميزان الاعتدال، تحقيق: علي محمد البجاوي، دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 1382هـ= 1963م، 4/202.
[10] ابن كثير: التكميل في الجرح والتعديل ومعرفة الثقات والضعفاء والمجاهيل، 1/236.
[11] الزركلي: الأعلام، 7/ 321.
[12] الخطيب البغدادي: تاريخ بغداد، 15/14.
[13] ابن الأثير: الكامل في التاريخ، 5/332، وأبو الفداء: المختصر في أخبار البشر، المطبعة الحسينية المصرية، الطبعة الأولى، 2/15.
[14] الخطيب البغدادي: تاريخ بغداد، 15/14، وابن خلكان: وفيات الأعيان، 5/308.
[15] الخطيب البغدادي: تاريخ بغداد، 15/14.
[16] الخطيب البغدادي: تاريخ بغداد، 15/14، والمزي: تهذيب الكمال في أسماء الرجال، تحقيق: بشار عواد معروف، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الأولى 1400ه= 1980م،29/46، 47.
[17] الخطيب البغدادي: تاريخ بغداد، 15/14.
[18] ابن جرير الطبري: صحيح وضعيف تاريخ الطبري، تحقيق: محمد بن طاهر البرزنجي، دار ابن كثير، دمشق، بيروت، الطبعة الأولى، 1428هـ= 2007م، 189، والخطيب البغدادي: تاريخ بغداد، 15/14، وابن الجوزي: المنتظم في تاريخ الأمم والملوك، تحقيق: محمد عبد القادر عطا، مصطفى عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1412هـ= 1992م، 9/87، الذهبي: تاريخ الإسلام، تحقيق: بشار عواد معروف، دار الغرب الإسلامي، الطبعة الأولى، 2003م، 4/985.
[19] والخطيب البغدادي: تاريخ بغداد، 15/14، والجوزي: صفة الصفوة، 1/401.
[20] ابن الجوزي: المنتظم في تاريخ الأمم والملوك، 9/88، وابن الأثير: الكامل في التاريخ، 5/332، ابن خلكان: وفيات الأعيان، 5/309، وأبوالفداء: المختصر في أخبار البشر، المطبعة الحسينية المصرية، الطبعة الأولى، 2/15.
[21] الخطيب البغدادي: تاريخ بغداد، 15/14، وابن خلكان: وفيات الأعيان، 5/310، والجوزي: صفة الصفوة، 1/401، والذهبي: تاريخ الإسلام، 4/985.
[22] ابن خلكان: وفيات الأعيان، 5/310، والذهبي: تاريخ الإسلام، 4/985.
[23] الذهبي: تاريخ الإسلام، 4/985.
[24] ابن خلكان: وفيات الأعيان، 5/310.
[25] الخطيب البغدادي: تاريخ بغداد، 15/14، وابن كثير: التكميل في الجرح والتعديل ومعرفة الثقات والضعفاء والمجاهيل، 1/236.
[26] الخطيب البغدادي: تاريخ بغداد، 15/14، ابن خلكان: وفيات الأعيان، 5/310، والمزي: تهذيب الكمال في أسماء الرجال، ،29/51.
[27] الشُّونِيزِيَّة: هي مقابر كانت مخصصة لأهل قريش في بغداد وكانت تُعرف بالشونيزي الصغير، وهي تقع على الجانب الغربي من نهر دجلة ويعرف الآن بجانب الكرخ، ودُفن بها عدد من الخلفاء العباسيين وأقاربهم القرشيين.
[28] ابن خلكان: وفيات الأعيان، 5/310.
[29] الذهبي: تاريخ الإسلام، 4/ 985.
- قصة الإسلام .