بسم الله الرحمن الرحيم
لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وآله أربعين سنة بعثه الله تعالى رحمةً للعالمين، وكافة للناس أجمعين.

وكان الله قد أخذ له الميثاق على كل نبي بعثه قبله بالإيمان به، والتصديق له، والنصر على من خالفه، وأخذ عليهم أن يؤدوا ذلك إلى كل من آمن بهم وصدقهم، فأدوا من ذلك ما كان عليهم من الحق فيه، يقول الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وآله: (وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُم مِن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ....)آل عمران/81.

وقيل: أنه أول ما بدأ به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلأ فكان يخلو بغار حراء فيتعبد فيه الليالي ذوات العدد قبل أن يرجع إلى أهله ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة عليها السلام فيتزود لمثلها، حتى فاجأه الحق في السابع والعشرين من شهر رجب الحرام، وهو صلى الله عليه وآله في غار حراء فجاءه الملك فقال له: اقرأ؟

قال: وما أقرأ؟

قال: (بسم الله الرحم الرحيم* اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ* خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ* اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ* الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ* عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ)العلق/1-5.

فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يرجف فؤاده، حتى دخل على خديجة عليها السلام فقال: زملوني زملوني، فزملوه حتى ذهب عنه الروع.

أول المؤمنين:
وكان أول من آمن بالرسول صلى الله عليه وآله من الرجال علي عليه السلام ومن النساء زوجته خديجة عليها السلام.
وعن أبي ذرانه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول لعلي عليه السلام: «أنت أول من آمن بي، وأول من يصافحني يوم القيامة، وأنت الصديق الأكبر، وأنت الفاروق الذي يفرق بين الحق و الباطل....».
وفي نهج البلاغة: «ولم يجمع بيت واحد يومئذ في الإسلام غير رسول الله صلى الله عليه وآله وخديجة وأنا ثالثهما أرى نور الوحي والرسالة، وأشم ريح النبوة، ثم زيد...» وكان غلاماً لخديجة، فوهبته لرسول الله صلى الله عليه وآله لما تزوجها.

إبلاغ الرسالة:
ثم أن الله سبحانه أمر رسوله صلى الله عليه وآله وسلم أن يصدع بما جاءه منه، وأن ينادي الناس بأمره ويدعو إليه، فأنزل سبحانه: (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ)إبراهيم/94، ثم قال تعالى (وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ* وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ* فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِي‏ءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ)الشعراء/214-216.
فعن سالم عن علي عليه السلام قال أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خديجة وهو بمكة فاتخذت له طعاماً، ثم قال لي: ادع لي بني عبد المطلب، فدعوت أربعين رجلاً.
فقال لي صلى الله عليه وآله هلم طعامك، فأتيتهم بثريد إن كان الرجل منهم ليأكل مثلها، فأكلوا منها جميعاً حتى أمسكوا.
ثم قال صلى الله عليه وآله وسلم أسقهم، فسقيتهم بإناء هو ري أحدهم، فشربوا منه جميعاً حتى صدروا.

فقال أبو لهب: لقد سحركم محمد، فتفرقوا ولم يدعهم.

فلبثوا أياماً ثم صنع لهم طعاماً مثله ثم أمرني فجمعتهم فطعموا ثم قال لهم:
«إن الرائد لا يكذب أهله، والله الذي لا إله إلا هو إني رسول الله إليكم خاصة، وإلى الناس عامة، والله لتموتن كما تنامون، ولتبعثن كما تستيقظون، ولتحاسبن بما تعملون، وانهما الجنة أبداً، والنار أبداً».
ثم قال صلى الله عليه وآله يا بني عبد المطلب؟ انني والله ما أعلم أحداً في العرب جاء قومه بأفضل مما قد جئتكم به، قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة، وقد أمرني الله تعالى أن أدعوكم إليه، فأيكم يؤازرني على هذا الأمر، على أن يكون أخي ووصيي وخليفتي فيكم؟
قال: فأحجم القوم عنها جميعاً، فقلت: واني لأحدثهم سنا،ً يا نبي الله أكون وزيرك. فأخذ صلى الله عليه وآله برقبتي ثم قال: أن هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم، فاسمعوا له وأطيعوا.

قال: فقام القوم يضحكون ويقولون لأبي طالب: قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيع.


منطق الجاهليين:
فلما نادى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالإسلام وصدع بما أمره الله تعالى به، استجاب له الأحداث من الرجال، والضعفة من الناس، حتى كثر من آمن به، فعظم ذلك على أصحاب الأغراض والأطماع من قومه، ورأوا أن مصالحهم الشخصية المعتمدة على عبادة الأصنام مهددة بالخطر، فنكروه وأجمعوا على خلافه وعداوته وأكبر على منابذته وإيذائه، فحدب أبو طالب عليه السلام على رسول الله صلى الله عليه وآله ومنعه وقام دونه، لأنه بالإضافة إلى أيمانه بالله والرسول صلى الله عليه وآله كان شريفاً في قومه، معظماً في قريش، مطاعاً في أهل مكة، فلم يتجاسروا معه مكاشفة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بشيء من الأذى.
أما أصحابه:
فمن كانت له عشيرة تحمه أمتنع بعشيرته، وأما من لم تكن له عشيرة فقد تصدوا له بالأذى والعذاب، فلقي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من العذاب أمراً عظيماً.



عمار وأبواه:

وكان ممن عذبوه عمار بن ياسر وأمه وأباه، وكان إذا مر بهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: صبراً يا أل ياسر فإن موعدكم الجنة، فمات ياسر أبو عمار تحت التعذيب القاسي، وكذلك ماتت سمية أم عمار على أثر حربة طعنها في قلبها أبو جهل، وبقى عمار في أيدي أسياده وأخذوا يعذبونه أشد التعذيب، إلى أن قالوا له: لا نتركك حتى تكفر بمحمد وإلهه، فأجابهم إلى ذلك مكرهاً، فتركوه، فأتى النبي صلى الله عليه وآله معتذراً باكياً، فأنزل الله تعالى: (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ...) النحل/106، فقال له صلى الله عليه وآله وسلم لا بأس عليك يا عمار إن عادوا فعد.

مع بلال:
وكذلك كان بلال، فإن أسياده كانوا يأخذونه إلى التعذيب خارج مكة، فيطرحونه على الرمضاء ثم يلقون على بطنه الصخرة العظيمة المحماة بالشمس، ثم يأخذونه ويلبسونه في ذلك الحر الشديد درع من حديد، ويضعون في عنقه حبلاً ويسلمونه إلى الصبيان يطوفون به، وهو في كل ذلك صابر محتسب لا يبالي بما يلقى في ذات الله، وكان كلما اشتد به العذاب يقول: أحد، أحد.