تعد ظاهرة بناء المكتبات ظاهرة قديمة في الدولة الإسلامية، وقد لاقت عناية فائقة في بنائها من قبل الخلفاء والأمراء، وبخاصة في عهد دولة المماليك البحرية.
ويمكن أن تقسم هذه المكتبات إلى:
1- مكتبات خاصة: ويقصد بها المكتبات التي قام الخلفاء والأمـراء بإقامتهـا عبـر التاريخ الإسلامي وفي حقبة البحث بشكل خاص. وقد ترك مسار إقامـة هـذه المكتبات أثره الكبير في الحركة التعليمية.
2- المكتبات العامة: كانت أقل انتشارًا في البداية من المكتبات الخاصة، لكنها أخذت بالتزايد مع ازدهار الحركة التعليمية، مما جعلها أكثر أثرًا لاعتمادها على قاعدة عريضة.
العناية بالمكتبات في العهد الزنكي والأيوبي
وفي عهد نور الدين زنكي لاقت المكتبات عناية خاصة منه، لما عرف عنـه من إقامته للمؤسسات التعليمية المختلفة والذي تطلب إقامتها، إلحاق مكتبات فيهـا، واستمر الحال من تشجيع إقامة هذه المؤسسات في العهد الأيوبي؛ إذ كان يعين لهذه المكتبات الخاصة منها والعامة، موظفون، كالخازن والنساخ والمجلدين، ومن هـذه المكتبات مكتبة علي بن يوسف القفطي وزير حلب، والتي جمع فيها كتبًا كثيرة، وقد أوصى بها للملك الناصر يوسف بن محمد بن غازي سلطان حلب.
عناية دولة المماليك البحريـة بالمكتبات
كان من ثمار النهضة العلمية في عهد دولة المماليك البحريـة، التي سـارت سيرة الأيوبيين، الاهتمام بالمكتبات، والعناية بالكتب وجمعها، حيث اهتم سـلاطين المماليك وأمراؤهم وأغنياؤهم، بتأسيس المكتبات في المدارس والمساجد والخوانق وغيرها من المؤسسات التعليمية في ذلك العصر؛ فقد كان لكـل مدرسـة مكتبـة بجانبها تقريبًا، لأنها أصبحت جزءًا لا يمكن الاستغناء عنه في كل مدرسة، وبـذلك كان للمكتبة أثر كبير في زيادة فرص التعليم بوصفها جزءًا أساسيا فـي المدرسـة للتعليم والتعلم.
أ- المكتبات في المساجد:
ضمت كبرى المساجد في بلاد الشام مكتبات عامرة بالكتب، وكانـت هـذه المكتبات تقوم بدورها الحضاري، وقد وجدت هذه المكتبات في المسجد الأموي، والمسجد الأقصى، والنوري بحلب، فأوقفت هذه المكتبات من قبل كبار العلماء مثل خزانـة علي بن طاهر السلمي النحوي في الجامع الأموي، وخزانة شرف الدين بن عـروة الموصلي وخزانة أبي الفداء صاحب حماة، والتي أوقفها على جامع الدهشة.
ب- المكتبات في المدارس:
أشارت دراسة حديثة إلى أن معظم المدارس التي كانت موجودة فـي بـلاد الشام خلال عصر دولة المماليك البحرية، كان على جانبها مكتبة ومن المدارس التي كان بها مكتبات: المدرسة العزية، والناصرية، والعادلية.
ومما يذكر عن خزانة كتب دار الحديث الأشرفية فـي الأشرفية في دمشق، أن الملك الأشرف أنشأ مكتبة قيمة فيها ضمت أمهات المكتبات التي يرجـع إليها الطلبة، كما أن وقفية المدرسة وفرت لطلابها النازلين بها الكتب التي يقرؤونها على شيوخها، ثم إن شيوخها ألفوا فيها كثيرًا من مؤلفاتهم وأوقفوهـا علـى مكتبـة المدرسة.
كما أن العلماء كانوا يتنازلون عن رواتبهم فيها ويشترون بها كتبًا ويوقفونها على المدرسة، ففي ترجمة الإمام النووي أنه لم يتناول رواتبـه فـي دار الحـديث بل اشترى بها كتبًا ووقفها وزيادتها في المدارس.
وبذلك نرى أن طريقة الحصول على الكتب الأشرفية يتم وفق الطرق التالية:
1- الكتب التي توفرها الوقفيات للمدارس الخاصة بها.
2- العلماء الذين يتنازلون عن رواتبهم ويشترون الكتب للمدرسة.
3- إيقاف كثير من العلماء الكتب على المدرسة.
جـ- المكتبات التي تعود للعلماء.
وقد انتشرت هذه المكتبات في أنحاء بلاد الشام خلال حقبة المماليك البحرية. حيـث أقيمت هذه المكتبات في:
1- دمشق: مثل مكتبة ابن قيم الجوزية تلميذ ابن تيمية، ومكتبة عمـر القرشـي الدمشقي.
2- حلب: أقيم فيها العديد من المكتبات في العصر الأيـوبي، واسـتمرت خـلال العصر المملوكي مثل خزانة بني جرادة، وخزانـة جمـال الدين بن القفصي، وخزانة قطب الدين النيسابوري وقد أقـام بعـض أمراء المماليك خزانات للكتب مثل خزانة أرغون نائب حلب، كما وجدت مثل هذه المكتبات الخاصة في مدينة القدس.
جـ- المكتبات الطبية:
أوقف نور الدين زنكي مكتبة في المشفى النوري في دمشق، كما ترك العلماء في علم الطب مكتبات طبية، مثل مكتبة أمين الدولة السامري والذي اجتمـع عنـده نحو عشرون ألف مجلد، ومهذب الدين الدخوار صاحب مدرسة الطـب الدخواريـة .كما كان يوجد مكتبات في المؤسسات الصوفية بدمشق والذي كان له خزانة كتب وخاصة الخوانق، كونها أكبر المؤسسات الصوفية، حيث كان يوجد مكتبة كبيرة في الخانقاه السميساطية التي أقامها أبو سعيد البندهي مؤدب ولد صلاح الدين يوسف.
د- المكتبات عند أهل الذمة:
وجد داخل الأديرة مكتبات كبيرة، يستعملها الرهبان عندما ينشدون التـأليف، وكانت المكتبة مكان لاجتماع الباحثين من الرهبان ومن أبرز المكتبات في العـصر المملوكي في بلاد الشام:
1- مكتبة ديـر البلمنـد جنـوب شـرقي طرابلس: أنـشأها الصليبيون سـنة 552هـ/1157م، وأطلقوا عليه اسم دير الجبل. وبعد تحرير طرابلس تملكـه اليعاقية.
2- مكتبة دير الكرمل في حيفا: من أقدم المكتبات في الشرق وأشـهرها وأغناهـا، يرجع تأسيسها إلى القرن السادس الهجري.
3- مكتبة الرهبان الفرنسيسكان: أغنى مكتبات العالم مما حوته من الوثائق المتعلقة بالأراضي المقدسة.
4- مكتبة القبر المقدس: والتي أنشأها الروم الأرثوذكس سنة 451م.
5- مكتبة دير مار يعقوب الأرمن.
وكان لليهود مكتبات خاصة بهم في مدارسهم وأماكن عباداتهم، حيث وجد في يافا سنة 735هـ/1334م معبد فيه مكتبة، ومن المرجح وجود مكتبات فـي المـدن الأخرى وفي معابدهم، كما وضع العلماء اليهود كثير من المؤلفات العلميـة ونقلـوا بعض العلوم إلى اللغة العربية واللاتينية، وكان لبعضهم شغف بجمـع الكتـب فـي مكتباتهم الخاصة، فقد كان للطبيب عمران الإسرائيلي (ت: 637هـ/1239م) خزانة كبيرة للكتب في بيته.
يتضح مما سبق أن المكتبات كانت بمثابة مدارس للتعلم، ومؤسـسات ينفـق عليها السلاطين والأمراء والأثرياء لنشر العلم بين الناس، وبخاصة أن الطباعة لـم تكن موجودة في ذلك العصر، وكانت الكتب تنسخ على أيدي نساخ متخصصين، مما جعل ثمن الكتاب مرتفعًا جدًا يتعذر على طالب العلم شراؤه.
______________
المصدر: هذه المادة من رسالة دكتوراة للباحث منتصر محمود صيتان شطناوي، بعنوان: التربية والتعليم في بلاد الشام في دولة المماليك البحرية (658 – 784هـ / 1260 – 1382م)، قسم التاريخ الإسلامي، جامعة مؤتة - الأردن، 2008م.