يا أيها الذين آمنوا ان من أزواجكم و أولادكم عدوا لكم !!يا أيها الذين آمنوا ان من أزواجكم و أولادكم عدوا لكم !!
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد الطيبين الطاهرين
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
قال الله سبحانه وتعالى في محكم كتابه الكريم :
( يا أيها الذين آمنوا ان من أزواجكم و أولادكم عدوا لكم )
في توجيه القرآن الخطاب للمؤمنين بالذات في هذه الآية بيان لحقيقة واقعية و هي : ان المؤمن الحقيقي مجاهد بطبعه ، لذلك تتوالى عليه الضغوط و التحديات ، و لانه من دون سائر الناس يتحمل المسؤولية الرسالية ، و بالتالي فانه الاولى بمثل هذا الخطاب ، و الأقرب لفهم معانيه ، فهو هنا ذلك الانسان الذي أمن بربه وحده ، و اطاع قيادة الحق متوكلا على الله . و كيف يدرك المتقاعسون معنى التحديات الاسرية و الاجتماعية و السياسية و هم يسبحون مع تيارها و ليس ضده كما يفعل المؤمنون الصادقون
قال الامام الباقر - عليه السلام - : " ان الرجل كان اذا أراد الهجرة الى الرسول - صلى الله عليه وآله - تعلق به ابنه و امرأته ، و قالوا : ننشدك الله ان لا تذهب عنا و تدعنا فنضيع بعدك ، فمنهم من يطيع أهله فيقيم ، فحذرهم الله ابناءهم و نساءهم و نهاهم عن طاعتهم ، و منهم من يمضي و يذرهم و يقول : اما و الله لئــن لم تهاجروا معي ثم يجمع الله بيني و بينكم في دار الهجرة لا انفعكم بشيء ابدا !
و لا تعني الآية من الأزواج النساء وفقط ، فقد تكون الزوجة مؤمنة مجاهدة و يكون العدو هم الزوج و الاولاد فهي مسؤولة ايضا . و ما اروع موقف وهب الانصاري حينما تحدى تثبيط زوجته اذ تعلقت به لتردعه عن خوض القتال دفاعا عن الاسلام بين يدي الامام الحسين -عليه السلام - و لكنه اندفع الى الشهادة ، لان حب الله كان انفذ بقلبه من عاطفته تجاه زوجته الشابة ! و ما اعظم موقف آسية بنت مزاحم و هي تتحدى طغيان زوجها فرعون حتى استشهدت موثقة بالاوتاد ! و لعمري ان التاريخ الرسالي لحافل بمواقف البطولة للنساء و الرجال على سواء ، الذين فكوا حلقة الاسرة ، و انطلقوا في رحاب الدفاع عن القيم السامية .
و كما أن العداوة تتخذ ألوانا فان عداوة الازواج و الاولاد قد لا تظهر على شفرة سيف ، و لا سنـان رمــح ، و لكنها تتمثل في مظاهر اخرى عاطفية و اجتماعية و اقتصادية ، فحينما يكون المؤمن متفانيا لقضيته منصهرا في بوتقة اهدافه فان معاداة.
أسرته للقضية و الاهداف هي في الواقع معاداة له ذاته ، و لو جاءت تلك المعادات في صورة قشيبة من جهة التظاهر بحبه .
و اذا لم يحذر المؤمن هذه العداوة فان عاقبته الخسران ، ذلك ان الطغاة و المترفين و الكسالى و الرجعيين يحسنون استخدام سلاح الأسرة ضد المؤمن الرسالي ، لذلك تراهم ما يبرحون يسعون بشتى الاساليب ترغيبا و ترهيبا و تضليلا لادخالها في معادلة الصراع ضد الرساليين .
( فاحذروهم )
أي خذوا الحيطة المسبقة ، و تحصنوا ضد عداوتهم . و امره تعالى بالاحتياط هنا ثم دعوته الى الصفح و التسامح بعدئذ يدل على ان العداوة المعنية ليست التي تصل الى حد القتال بل هي العداوة الخفية ، كالتي تستهدف التثبيط و النيل من عزيمة الجهاد لدى الانسان المؤمن .
و ثمة ملاحظة جديرة بالانتباه تجدها في وزن كلمات الآية من الزاوية البلاغية ، فقد قال تعالى : " عدوا " بالافراد ، ثم قال : " فاحذروهم " بالجمع ، لان العدو قد يكون واحدا منهم و لكنه مندس بين ابناء العائلة و مؤثر فيهم فلا بد ان يحذرالمؤمن الجميع و يتوجس خيفة من اي كلمة تثبيط تتغلف بالود و العاطفة ، سواءا صدرت من امه و ابيه او زوجته و بنيه او اخته و اخيه ، و بهذا الحذر وحده يستطيع ان يتجنب الفضل الذي وقع فيه الكثير من الناس ، فما اكثر القرارات الصائبة التي ضربت عرض الحائط بسبب دمعة تحلقت في جفون الزوجات او كلمة عاطفية صدرت من أم أو أب ؟!!
وليست الدعوة الى الحذر تعني المقاطعة التامة مع الاسرة ، كلا .. بل لا بد ان يتحرك في علاقاته ضمن معادلة متوازنة احدى كفتيها الاحتياط و الحذر ، و الاخرى العفو و الصفح و الغفران . )
( و ان تعفوا و تصفحوا و تغفروا
و هذه ثلاث درجات لصفة واحدة هي التنازل عن الحقوق الشخصية بالسماحة و سعة الصدر لصالح الاسرة . و ينبغي للمؤمن ان يسمو بنفسه الى آفاق الحلم و السماحة تخلقا باخلاق الله ، و يتحمل بعض الاساءات من اجل جذب اسرته الى الرسالة . )
( فان الله غفور رحيم
يغفر للمتسامحين و يرحمهم ، و هي اعلى درجات التسامح . و تحسس المؤمن بحاجته الى غفران الله و رحمته لا شك يدعوه للتلطف بمن هو تحت يده و قدرته .
هنا ثلاثة أمور وهي ( العفو ، الصفح ، الغفران ) ، فالعفو هو التنازل عن حق الانتقام و المماثلة في القصاص و بالذات عند المقدرة ، و الصفح درجة ارفع ، اذ قد يتنازل الانسان عن حقه في الاقتصاص مثلا و لكن علاقته مع الطرف الآخر تبقى كدرة بسبب الاساءة ، اما اذا صفح عنه فهو يطوي صفحة الماضي و يفتح صفحة جديدة فتعود علاقته الظاهرة به علاقة طبيعية ، و ليس بالضرورة ان تزول الاثار النفسية الداخلية بذلك ، بلى . اذا غفر ازال حتى هذه الاثار ، بل و تنازل عن طلب الانتقام من الله عز وجل . و هذهالصفات ينبغي ان يتحلى بها المؤمن تجاه اسرته و الاخرين على كل حال و في كل الظروف ، و بالذات عندما يحتدم الصراع المبدئي بينه و بينهم ، فان هذا الصراع ينبغي ان يبقى في حدود المبدء و لا يتحول الى صراع شخصي مستمر ، فاذا عادت زوجته التي كانت تمنعه من العمل في سبيل الله الى رشدها او اقتنع ابواه و سائر اسرته فان عليه ان ينسى الاساءات التي صدرت منهم تجاهه ، و لا يذكرهم بها ، و لا يحمل في نفسه غضاضة ، و لا يطالبهم بالغرامة ، و ما اشبه .
جميع الأموال والأولاد عبارة عن «فتنة»، وفي الحقيقة فانّ الله يبتلي الإنسان دائماً من أجل تربيته، وهذين الأمرين (الأموال والأولاد) من أهمّ وسائل الإمتحان والإبتلاء، لأنّ جاذبية الأموال من جهة، وحبّ الأولاد من جهة اُخرى يدفعان الإنسان بشدّة إلى سلوك طريق معيّن قد لا يكون فيه رضا الله تعالى أحياناً، ويقع الإنسان في بعض الموارد في مضيقة شديدة، ولذلك ورد التعبير في الآية «إنّما» التي تدلّ على الحصر.
يقول أمير المؤمنين (عليه السلام) في رواية عنه «لا يقولنّ أحدكم: اللهمّ إنّي أعوذ بك من الفتنة لأنّه ليس أحد إلاّ وهو مشتمل على فتنة، ولكن من استعاذ فليستعذ من مضلاّت الفتن فإنّ الله سبحانه يقول: ( واعلموا إنّما أموالكم وأولادكم فتنة)
فالله سبحانه يعد بعض الأولاد والأزواج عدواً للمؤمنين في إيمانهم حيث يحملونهم على ترك الإيمان بالله أو ترك بعض الأعمال الصالحة أو اقتراف بعض الكبائر الموبقة وربما أطاعوهم في بعض ذلك شفقة عليهم وحباً لهم فأمرهم الله بالحذر منهم.
قد لا تبدر العداوة من قبل الاسرة تجاه المؤمن ، و لكنه يفتتن بهم او بماله ، و لربما نجد البعض تحرضه زوجته او اسرته على الجهاد و لكن تفكيره في مستقبلها بعده يمنعه من الاقدام عليه ، لذلك حذرنا الله عن ذلك بقوله :
( إنما أموالكم و أولادكم فتنة )
قد ينجح المؤمن في مواجهتها و قد يفشل و لكنها كلها بالحصر و دون استثناء فتنة ، اي انها تضعه امام مفترق طريقين : احدهما الحق و الآخر الباطل ، و تثير فيه نفسه الامارة و الاخرى اللوامة ، ليختار بعقله و يمشي بارادته في ايهما شاء .
( و الله عنده أجر عظيم )
و إنما يذكر ربنا بهذه الحقيقة لان الايمان الصادق بها كفيل بان يدفع الانسان لتجاوز الفتنة بنجاح فيختار ما عند الله على ما في الدنيا ، كما ان هذه البصيرة ترغب المؤمن ليسخر الاموال و الاولاد في سبيل الحصول على ما عنده تعالى ، و ليس جعلها عقبة دون ذلك ،كما هوالامام الحسين - عليه السلام - الذي جعل اولاده و اصحابه و أهل بيته و أمواله وسيلة للتقرب من الله .
و قدروى المفسرون حديثا عن الرسول - صلى الله عليه وآله - نستلهم منه معنى ايجابيــا للفتنة ، و انها لا تعني طرد الاولاد او نبذ الاموال ، بل التصرف الحكيم معها . الحديث كما يلي :
روى عبد الله بن يزيد عن ابيه قال : كان رسول الله يخطب فجاء الحسن و الحسين - عليهما السلام - و عليهما قميصان احمران يمشيان و يعثران ، فنزل رسول اللــه إليهمــا فـأخذهمــا فوضعهما في حجره على المنبر ، و قال : " صدق الله عز وجل : " إنما أموالكم و أولادكم فتنة " نظرت الى هذين الصبيين يمشيان و يعثران فلم اصبر حتى قطعت حديثي و رفعتمهما " ، ثم اخذ في خطبته .
و ليــس من درع يتحصن به المؤمنون ضد الفتن افضل من تقوى الله ، لانها الحبل المتين الــذي يــوصل الانسان بربه في كل مكان و في كل لحظة من عمره ، و في كل سعي و قول يصدر عنه . هذا اولا ، و ثانيا : السماع لله و لرسوله و الطاعة لهما ، و ثالثا :
الانفاق في سبيل الله و التضحية بكل ما يملكه الانسان ، فان ذلك هو السبيل المستقيم لنيل ما عنده تعالى من الاجر ، و الانتصار على شح النفس الذي هو أساس كل انحراف في حياة البشر ، و بالتالي الفلاح الحقيقي في الدنيا و الاخرة .
تفسيرالميزان