مدينة شنترين Santarem إحدى الحواضر الإسلامية في بلاد الأندلس وأشهر فراديس البرتغال المسلمة، والتي شهدت نهضة كبيرة طوال تاريخها الإسلامي منذ افتتاحها سنة 94هـ /713م، وحتى سقوطها بيد النصارى البرتغاليين سنة 542هـ/1147م، ومما يزيد من افتخارها وعلو منزلتها انتساب الكاتب الكبير والمؤرخ العظيم ابن بسام الشنتريني صاحب "الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة" إليها.

الموقع الجغرافي

تقع مدينة شنترين Santarem الأندلسية فى شمال شرقي أشبونة "لشبونة Lisboa عاصمة البرتغال" وتتبع ولاية إسترمادوره البرتغالية، وهى تقع على ضفاف نهر تاجُه أطول أنهار شبه الجزيرة الآيبرية.

قال عنها ياقوت الحموي: "شَنْتَرِينُ مدينة متصلة الأعمال بأعمال باجة فى غربى الأندلس، ثم غربى قرطبة وعلى نهر تاجُه قريب من انصبابه فى البحر المحيط، وهى حصينة، بينها وبين قرطبة خمسة عشر يومًا، وبينها بين باجة أربعة أيام، وهى الآن للأفرنج، مُلكت فى سنة 543هـ".

الفتح الإسلامي لمدينة شنترين

وشنترين مدينة قديمة ترجع إلى العهد الرومانى، واسمها القوطي القديم سانتا إيرينه، واسمها اليوم سنتريم Santarem، وقد نطقها المسلمون شنترين لقرون حتى دخلت في حوزة مملكة البرتغال. فتحت شنترين ضمن سلسلة المدن والبلدات التي فتحها القائد عبد العزيز بن موسى بن نصير، فاتح البرتغال. ففي الوقت الذي كان موسى بن نصير وطارق بن زياد، يقومان بفتوحاتهما في شمالي الأندلس، كان عبد العزيز يقوم بفتح وسط البرتغال. فقد عاد عبد العزيز إلى إشبيلية، ومن ثم إلى مارِدَة، حيث ولاّه أبوه القيادة العامة للبلاد المفتوحة، ومن باجَة زحف إلى يَابُرَة ( Evora) وشَنْتَرِيْن (Santaren) وقُلُمْرِيَّة ( Caimbra)، وظلّ متجهًا إلى أقصى الغرب، بقصد ملاقاة الفرق الإسلامية في أَسْتُرْقَة ( Astorga). وقد قام عبد العزيز بهذا الفتح قبل رحيل أبيه موسى من الأندلس إلى دمشق: "فلم يبق في الأندلس بلدة دخلها المسلمون بأسيافهم، وتصيّرت ملكًا لهم، إلاّ قسّم موسى بن نُصير بينهم أراضيها، إلاّ ثلاثة بلاد، وهي: شَنْتَرِيْن وقُلُمْرِيَّة في الغرب، وشَيَّة Huesca في الشرق، وسائر البلاد خُمِّسَت وقُسِّمت بمحضر التابعين الذين كانوا مع موسى بن نُصير"، ومعنى هذا عبد العزيز افتتح شَنْتَرِيْن وَقُلُمْرِيَّة صلحًا. وقد تمّت فتوح عبد العزيزبن موسى خلال سنة 94هـ /713م، وسنة 95هـ / 714م، أي حين كان أبوه موسى واليا على الأندلس.

وعرفت شنترين خلال تلك الفترة ازدهارا ثقافيا واقتصاديا. حيث انتشر العرب والبربر في نواحي شنترين وانصهروا مع أهلها الذين تبنوا عادات وتقاليد الفاتحين إلى حد كبير، وتكاثر عددهم، وشكلوا قوة فاعلة في المجالين السياسي والاقتصادي. على أن امتزاج هذه العناصر لم يتم دائما في سهولة ويسر، ولهذا لم تخل حياة البرتغال الإسلامية خلال القرنين الأولين من ثورات عنيفة مما أتاح الفرصة لبدء ما يسمى بحرب الاسترداد.

وكانت شنترين في أيام المسلمين نظرًا لحصانة موقعها فى منعطف النهر، من المراكز الأمامية للمعارك المستمرة بين المسلمين والنصارى، ولها فى ميدان الجهاد تاريخ مؤثر.

في عهد بني الأفطس من ملوك الطوائف

وعندما سقطت الدولة الأموية في الأندلس في سنة (422هـ/1031م) ، وأعلن الوزير أبو الحزم بن جهور انتهاء رسم الخلافة جملة لعدم وجود من يستحقها، وأعقب ذلك فترة من الاضطرابات والتناحر بين أهل الأندلس أدت إلى ظهور دويلات صغيرة متنازعة، فقد استقل كل أمير بناحيته وأعلن نفسه ملكا عليها، فدخلت البلاد بذلك في عصر جديد هو عصر ملوك الطوائف، وكانت منطقة غرب الأندلس من نصيب بني الأفطس، حيث كانت مملكتهم تشمل أراضي البرتغال كلها تقريبًا حتى مدينة باجة في الجنوب، وكانت العاصمة بطليوس تتوسط هذه الرقعة الكبيرة التي تشمل عدا العاصمة، عدة مدن هامة أخرى مثل ماردة، ويابرة، وأشبونة، وشنترين، وشنترة، وقُلُمرية، وبازو، وغيرها.

وقد عاشت شنترين عصرها الذهبي في عهد دولة بني الأفطس الذين اتخذوا من بطليوس وباجة وشنترين مقرًا لحكامهم. وبعد مرور أربعة قرون على الفتح الإسلامي، ظهر المرابطون على أرض المغرب (448هـ - 541هـ/ 1056 - 1147م)، ويعتبر يوسف بن تاشفين مفخرة هذه الدولة، فعندما دانت له بلاد المغرب، هب لإنقاذ الإسلام من الخطر الداهم الذي أصاب بلاد الأندلس، حيث تمكن ملك قشتالة الفونسو السادس من الاستيلاء على طليطلة سنة (478هـ / 1085م)، وفرض الجزية على كبار ملوك الطوائف، أمثال المعتمد بن عباد في إشبيلية والمتوكل بن الأفطس في بطليوس، وغيرهما، وحينئذ لم ير هؤلاء بدا من الاستنجاد بيوسف بن تاشفين الذي لبى النداء، فعبر البحر بجيوشه إلى الأندلس فنزل في الجزيرة الخضراء وقام بتحصينها وما يتبعها من قواعد عسكرية أخرى على المضيق مثل جبل طارق وطريفة. ثم زحفت الجيوش نحو إشبيلية ثم بطليوس بغية لقاء العدو الذي أسرع هو الآخر بجيوشه نحو تجمعات المسلمين من المغاربة والأندلسيين، فالتقى بهم في الشمال من بطليوس عند فحص الزلاقة الذي يعرف اليوم باسم (SAGRAJASS)، وهناك دارت المعركة الفاصلة بين الفريقين في منتصف رجب سنة (479هـ / 23 أكتوبر 10866م) حيث انتصر المسلمون انتصارا باهرا.

وبسبب حالة الارتباك والفراغ الذي خلفه غياب المرابطين عن الأندلس، نشأت مملكة البرتغال المسيحية في غرب الأندلس لتلعب الدور نفسه الذي لعبته مملكة قشتالة ضد المناطق شرق ووسط الأندلس. ونظرا لموقع شنترين الحصين فقد زاد عليها عبء مواجهة الممالك المسيحية الشمالية، وكان ألفونسو السادس ملك قشتالة ينوي الاستيلاء على بطليوس، فرغم هزيمته في الزللاقة فإنه لم يتوان عن هجماته على غرب الأندلس، حيث سار في قواته إلى مدينة شنترين من أعمال ولاية الغرب واستولى عليها سنة 486هـ / 1093م. وقد وقع ذلك فيما يبدو خلال غزو المرابطين لمملكة بطليوس، التي كانت شنترين من أعمالها، ونحن نعرف أن بطليوس سقطت في أيدي المرابطين في صفر سنة 487هـ / مارس 1094م.

في عهد المرابطين

وبعد الزلاقة عمل المرابطون على ضبط أمور الأندلس، واسترجاع المدن التي سيطر عليها البرتغاليون، وكانت شنترين من بين تلك الأهداف، ففي نفس الوقت الذي كانت فيه الجيوش المرابطية تحت أسوار طليطلة سار جيش مرابطي زاخر بقيادة الأمير سير بن أبى بكر والى إشبيلية صوب الغرب إلى أراضي البرتغال. حيث اتخذ المرابطون من مدينة بطليوس قاعدة عسكرية تخرج منها الحملات الجهادية صوب الشمال إلى أراضى مملكة البرتغال. وكانت هذه المملكة النصرانية الجديدة الناشئة في كنف قشتالة، قد بدأت في ظل أميرها هنري البرجوني (الرنك)، صهر ملك قشتالة ألفونسو السادس وزوج ابنته غير الشرعية، تريسا (تريزا)، تنمو ويشتد ساعدها بسرعة، وكانت قاعدتها يومئذ قُلُمرية، ومن ثم فإن الرواية الإسلامية تعرف أميرها "بصاحب قُلُمرية". وكانت يومئذ تضم عدة من القواعد الإسلامية القديمة من قواعد ولاية الغرب.

فسار الأمير سير في قواته صوب بطليوس، ثم زحف على يابُرة وافتتحها على الفور، ثم قصد إلى أشبونة فاستولى عليها هي وضاحيتها شنترة، وسار بعد ذلك شمالا، واستولى على مدينة شنترين، الواقعة على نهر التاجُه، ويستفاد من الرسالة التي وجهها سير بفتح هذه المدينة إلى أمير المسلمين، وهو من إنشاء كاتبه الوزير أبى محمد عبد المجيد بن عبدون، أن المرابطين هاجموها أولا فاستعصت عليهم، فضربوا حولها الحصار حتى سلمت، وكان قد قتل من حاميتها عدد كبير، فسلم الباقون، وأسروا سائر من بها. وقد كانت شنترين، حسبما ورد في هذه الرسالة من أعظم قلاع الغرب وأكثرها موارد لوقوعها في بسيط وافر الخصب، ووصل سير في زحفه نحو الشمال إلى مقربة من مدينة قلمرية عاصمة الإمارة. ولم تستطع القوات البرتغالية بقيادة الكونت هنري، دفعًا للقوات المرابطية الغازية. وكان افتتاح المرابطين لهذه القواعد الغربية في سنة 504هـ / 1111م.

ومما جاء في الرسالة التي كتبها الوزير ابن عبدون إلى الخليفة علي بن يوسف بن تاشفين يخبر فيها بفتح مدينة شنترين بقيادة سير بن أبي بكر، يقول: إنها "من أحصن المعاقل للمشركين، وأثبت المعاقل على المسلمين، أرحب المدن أمدا للعيون، وأخصبها بلدا في السنين، ولا يَرِيمها الخصب ولا يتخطاها، ولا يرومها الجذب ولا يتعاطاها، فروعها فوق الثريا شامخة وعروقها تحت الثرى راسخة، تباهي بأزهارها نجوم السماء، وتناجي بأسرارها أذن الجوزاء، مواقع القطار في سواها مغبرة مربدة، وهي زاهرة ترف أنداؤها، ومطالع الأنوار في حشاها مقشعرة مسودة، وهي ناضرة تشف أضواؤها، وكانت في الزمن الغابر أعيت على عظيم القياصر فنازلها بأكثر من القطر عددا، وحاولها بأوفر من البحر مددا، فأبت على طاعته كل الإباء، واستعصت على استطاعته أشد الاستعصاء. فأمكننا الله تعالى من ذروتها, وأنزل ركابها لنا عن صهوتها".

في عهد الموحدين

استمر جهاد المرابطين في الأندلس رغم مواجهتهم لخطر الموحدين بالمغرب، فما أكثر ما دارت المعارك والحروب بينهم وبين العدو الذي اشتد بأسه، ولا سيما في غرب الأندلس الذي تكاثرت عليه ضربات القشتاليين، ولكن انشغالهم في حروب مستمرة مع الموحدين على أرض المغرب، أدى إلى ضعف قوتهم، إضافة إلى قيام ثورات وفتن عديدة، لعل أخطرها ثورة المريدين التي قادها ابن قسي في ميرتلة (MERTOLA) بالبرتغال، وثورات أخرى في يابرة وشلب وباجة وغيرها من مدن الأندلس، فانهارت دولة المرابطين، وأفل نجمها، لتبدأ مرحلة جديدة في تاريخ المغرب والأندلس مع قيام دولة الموحدين، الذين أقاموا دولة قوية مترامية الأطراف تمتد (من طرابلس الغرب إلى سوس الأقصى من بلاد المصامدة وأكثر جزيرة الأندلس". وبلغت ذروة مجدها على عهد عبد المؤمن بن علي وابنه يوسف وحفيده يعقوب المنصور الموحدي.

كانت أول خطوة سلكها الخليفة عبد المؤمن بن علي اتجاه الأندلس هي الإسراع بإرسال الجيوش إليها والقضاء على الثوار الذين أرادوا بالأندلس الرجوع إلى عهد ملوك الطوائف، ثم قمع الأطماع النصرانية في الاستيلاء على المناطق الإسلامية.

وتمكن الموحدون من السيطرة على جزء من أراضي البرتغال، بينما كانت المنطقة الواقعة حول حوض نهر الدويره إلى حدود جليقية والتي تضم مدن قلمرية وبازو وبراغة تؤلف ولاية صغيرة تابعة لمملكة قشتالة. وكان الفونسو السادس قد زوج ابنته غير الشرعية تيريسا (TERESA) من أحد نبلاء مقاطعة برجندية الفرنسية واسمه هنري (HENRIQUES) وقدم لهما مهرا هذه المقاطعة، ولكن على شرط تبعيتها هي وزوجها لعرش قشتالة. إلا أن تيرسا وزوجها استغلا اضطراب الأحول بعد وفاة ألفونسو بغير وريث ذكر، فعملا على الاستقلال بالإمارة الجديدة التي أطلق عليها اسم عاصمتها القديمة برتقال (PORTUGAL)، ثم قام ابنهما ألفونسو إنريكي (ALFONSO HENRIQUES) -ابن الريق / الريك في المصادر الأندلسية (532 - 581هـ / 1138- 1185م) بإعلان الاستقلال الذاتي أولا حاملا لقب صاحب قلمرية (COIMBRA). ثم لم يلبث أن استقل تماما بعد انتصاراته على المسلمين واستيلائه على شنترين ثم على لشبونة في سنة 542هـ/1147م وتزايد طموحه بعد ذلك فواصل حملاته على مدن المسلمين الواقعة في حوض وادي آنه (GUADIANA)، كما انتزع منهم قلعة يابرة (EVORA ) سنة (561هـ/ 1166م). وأعلن نفسه ملكا على البرتغال، "وحكم مملكته من ذلك الحين آمنا لا يزعجه أحد من جيرانه النصارى، منتصرا في محاربة المسلمين".

وفي أواخر سنة 557 هـ / ديسمبر 1162م قبيل وفاة عبد المؤمن بقليل، قامت حملة قوية من نصارى شنترين بغزو مدينة باجة والاستيلاء عليها، ولبثوا فيها أربعة أشهر، ولم يغادروها إلا بعد أن خربوا ربوعها، وهدموا أسوارها.

وإذا كانت السنوات الأخيرة من حكم الخليفة عبد المؤمن (توفي 558هـ/ 1163م) قد شهدت ولادة الدولة البرتغالية وظهورها على مسرح التاريخ، فإن ابنه يوسف بن عبد المؤمن بن علي الخليفة الثاني لم يقف مكتوف اليدين أمام هذا الاستفزاز الذي أبداه الملك البرتغالي ابن الريق. فجهز حملة عسكرية بقيادة أخيه أبي حفص عمر وذلك سنة (565هـ/11700م) نحو أراضي البرتغال وليون واستعاد كل ما خسره المسلمون جنوبي وادي التاجة (RIOTAJO). وفي سنة (567هـ/1171م) حاصر الموحدون مدينة شنترين (وهي من أمنع المدائن) بجيش ضخم ولكن دون جدوى، فقد أرغموا على رفع الحصار بعد هزيمة فادحة.

معركة شنترين

ومنذ أوائل شهر جمادى الآخرة من سنة 579هـ / سبتمبر 1182م أعلن أبو يعقوب يوسف بن عبد المؤمن الموحدي عن تنظيم حركة جهادية بالأندلس يقودها هو بنفسه، وأخذ المسلمون في الاستعداد لحملة حربية كبيرة، حينما أمر الخليفة بتمييز طوائف الموحدين والعرب والقبائل استعدادًا للغزو، وجرى تصنيع عشرة مجانيق جربها أبو يعقوب بنفسه، وخرجت المناشير تدعو المسلمين للخروج لجهاد الأعداء، ووفدت القبائل والبطون العربية والبربرية للاشتراك في الجهاد حتى بلغ جيش الموحدين مبلغًا ضخمًا جاوز المائتي ألف مقاتل، وهذه الضخامة ستكون وبالًا بعد ذلك على حركة الجيش.

وفي يوم السبت الخامس والعشرين من شوال 579هـ / فبراير 1184م، صدرت الأوامر بالحركة، وركب الخليفة كعادته بعد صلاة الصبح، وحدد أبو يعقوب الموحدي مدينة شنترين البرتغالية هدفًا لهذه الغزوة وذلك لأسباب عديدة، مادية ومعنوية، حيث كانت هذه المدينة أهم مراكز وقواعد العدوان البرتغالي على الأندلس ونقطة انطلاق دائمة للإغارة على حدود الأندلس الغربية، وفتحها كان سيمثل ضربة قوية ومؤثرة للدولة البرتغالية الناشئة، كما كانت هذه المدينة من أوائل المدن الإسلامية التي استولى عليها البرتغاليون أثناء قيام دولتهم، وكانت شنترين أخيرًا مركزًا للحملات المخربة التي شنها البرتغاليون في أحواز إشبيلية.

وقد فكر أبو يعقوب الموحدي في استرداد ثغر أشبونة ويقضي على الدولة البرتغالية للأبد، لذلك أمر الأسطول الموحدي بالتحرك في مياه المحيط الأطلنطي بمحاذاة الساحل الغربي للأندلس حتى يصل لثغر أشبونة ويضرب عليه حصارًا بحريًا، في حين تضرب الجيوش البرية حصارًا بريًا على شنترين وبالتالي تسقط البرتغال.

أسرع ملك البرتغال ألفونسو هنريكز وكان قد جاوز الثمانين وحشد كل قواته الصليبية داخل مدينة شنترين، وبالغ في تحصينها واستعد لمعركة فاصلة وحتى الموت. ووصل الموحدون لأسوار المدينة في منتصف ربيع الأول سنة 580هـ / 27 يونيه سنة 1184م. وفي يوم الجمعة (19 ربيع الأول 29 يونيه)، هاجم الموحدون الأسوار، واشتبكوا مع قوة من النصارى خرجت لقتالهم فهزموها وردوها صوب القصبة. وفي صبيحة اليوم التالي - السبت - تجدد القتال بين الموحدين وبين النصارى، واستمر القتال بين الفريقين حتى يوم الاثنين الحادي والعشرين من ربيع الأول (2 يوليه). ونشبت بينهما خلال ذلك عدة معارك عنيفة.

واستمر هذا القتال لعدة أيام حتى كاد الموحدون أن يفتحوا المدينة حتى وقعت غلطة عسكرية تعبوية فظيعة من جانب أبي يعقوب الموحدي؛ حيث أمر بتغيير مكان الجيوش المحاصرة والانتقال لموقع آخر، وقد فهم قادة الجيش الأمر بصورة خاطئة، حيث فهموا أن الأمر الصادر هو أمر بالانسحاب بالكلية، فكان أول من قوض خباءه وأظهر الأخذ في أهبة الرحيل أبو الحسن المالقي ويدعى -خطيب الخلافة. وبات الناس والجيش كله طوال الليل يعبرون طوال الليل والمعسكر الخاص بالخليفة الموحدي أبي يعقوب الموحدي لا يعلم شيئًا وباق في محله، ولم يبق إلا من كان بقرب خباء أمير المؤمنين. وفي يوم 21 ربيع الأول سنة 580هـ/ 2 يوليه 1184م استيقظ أبو يعقوب على غلطته الشنيعة حيث لم يبق معه سوى فلول قليلة من الخدم والحرس الخاص.

وفي نفس الوقت أدرك نصارى شنترين ما وقع في المعسكر الموحدي فخرجوا بكل قواتهم وهجموا على مؤخرة الجيش المنسحب ومعسكر الخليفة وهم يصرخون بلغتهم بأعلى صوت "الملك الملك"، يقصدون أبا يعقوب، فقتل على بابه من عيان الجند خلق كثير، أكثرهم من أعيان الأندلس، وتمكنوا من اقتحام خباء الخليفة بعد دفاع مستميت من خدمه وحرسه، وقاتل أبو يعقوب بسيفه فقتل ستة من الصليبيين، ولكنه جرح جرحًا بليغًا تحت سرته، مات منه بعد ذلك بأيام قليلة في الثامن عشر لربيع الآخر سنة 580هـ / 29 يوليه سنة 1184م.

وانتهت هذه المعركة بكارثة محققة للمسلمين، حيث فشلوا في فتح المدينة وتحطمت مشاريعهم ضد البرتغاليين وإضافة لذلك قتل عاهلهم وخليفتهم. وخَلَفَهُ ابنه يعقوب المنصور (580 - 595هـ /1184 - 1199م) الذي جمع إلى عظمة السلطان السياسي، رسوخ العقيدة، وشدة الحرص على أحكام الشريعة وسنتها.

ومن هذا التاريخ انتهت سيطرة المسلمين على مدينة شنترين، وفقدت الجيوش الموحدية هيبتها في بلاد المغرب والأندلس، والتي استعادها الخليفة أبو يوسف يعقوب المنصور الموحدي بعد انتصاره الباهر على جيوش الصليببيين من الإسبانيين والبرتغاليين في معركة الأرك الشهيرة في شهر شعبان سنة 591هـ / يوليو سنة 1195م.

شنترين حاضرة أندلسية

تعد مدينة شنترين إحدى حواضر الأندلس عامة والبرتغال خاصة، وصفها الوزير الكاتب الفتح بن خاقان حيث يقول: "شنترين قاصية أرض الإسلام، السامية الذُّرَا والأعلام، التي لا يروعها صرف، ولا يفرعها طرف؛ لأنها متوعرة المراقي، معثرة للراقي، متمكنة الرواسي والقواعد، على ضفة نهر استدار بها استدارة القلب بالساعد، قد أطلت على خمائلها إطلال العروس من منصتها، واقتطعت في الجو أكثر من حصتها".

ويكفي المدينة فخرا أنها أنجبت أديبا أندلسيا كبيرا هو أبو الحسن بن بسام التغلبي الشنتريني صاحب الموسوعة المعروفة (الذخيرة في محاسن الجزيرة)، فهو أنجب من أنجبتهم شنترين، جاء في المسهب للحجاري نقلا عن ابن سعيد: "العجب أنه لم يكن في حساب الآداب الأندلسية أنه سيبعث من شنترين - قاصية الغرب، ومحل الطعن والضرب، من ينظمها في قلائد من جيد الدهر، ويطلعها ضرائر للأنجم الزهر. ولم ينشأ بحضرة قرطبة ولا بحضرة إشبيليا ولا غيرهما من الحواضر العظام من يمتعض امتعاضه لأعلام عصره، ويجهد في جمع حسنات نظمه ونثره. وسَلَّ (الذخيرة)، فإنها تعنون عن محاسنه الغزيرة ..، ونثره في كتاب (الذخيرة) يدل على علو طبقته". وضع ابن بسام مصنفه التاريخي والأدبي الرائع قبل سقوط وطنه شنترين في أيدي النصارى بأعوام قلائق. وكان قد ذكر في مقدمته أنه غادرها، حيث قال: "وعلم الله تعالى أن هذا الكتاب، لم يصدر إلا عن صدر مكلوم الأحناء، وفكر خامد الذكاء، بين دهر متلون تلون الحرباء، لانتباذي كان من شنترين قاصية الغرب، مفلول الضرب، مروع السرب، بعد أن استنفذ الطريف والتلاد، وأتى على الظاهر والباطن النفاد، بتواتر طوائف الروم علينا في عقر ذلك الإقليم".

ويشتمل كتاب الذخيرة وفقا لتصنيف مؤلفه على أربعة أقسام خص القسم الثاني لأهل الجانب الغربي من الأندلس، وذكر أهل حضرة إشبيليا، وما اتصل بها من بلاد ساحل البحر المحيط الرومي، وفيه من الأخبار وأسماء الرؤساء وأعيان الكتاب جملة موفورة. ومن أدباء شنترين المشهورين كذلك نذكر أبا محمد عبد الله بن سارة الشنتريني قال عنه ابن الآبار في التكملة: "سكن إشبيلية وتعيَّش فيها بالوراقة وتجول في بلاد الأندلس شرقا وغربا وامتدح الولاة والرؤساء وكتب لبعضهم وكان أديبا ماهرا شاعرا مفلقا مخترعا مولدا, توفي سنة 517هـ". وابن دِحْيَةَ في المطرب: "أدبه موفور، وشعره مشهور. انتقل من بلده شنترين إلى مدينة إشبيليا، وهو أوحش حالا من الليل، وأكثر انفرادا من سهيل، فانتجع الوراقة على كساد سوقها وفساد طريقها فتركها وأنشد فيها:

أما الوِراقةُ فهي أنكد حرفــة *** أغصنها وثمارها الحرمـان

شبهت صاحبها بإبرة خائط *** تكسو العراة وجسمها عريان.

بعض معالم مدينة شنترين

وتقع شنترين على ربوة عالية تطلّ على مساحات شاسعة من غابات الزيتون، وترتسم على دروبها الضيقة ملامح المدينة الأندلسية، وما زالت شنترين تحتفظ ببعض معالمها الأثرية الأندلسية فهناك من أسوارها القديمة جزء كبير فى حالة جيدة خلف الكتدرائية، وعلى مقربة منها قطعة أخرى من السور تشرف الربوة التى يحيط بها السور والتى يتوسطها منتزه كبير على نهر التاجه وهو يجرى تحتها وينحنى عندها ويوجد تحت السور فى نهاية الحديقة عقد عربى يسمى عقد أتمارما Arco d’Atamrma ويقال انه هو الباب الذى دخل منه الملك ألفونسو هنريكيز المدينة عقب سقوطها. وكذلك توجد قطعة ثالثة من الأسوار القديمة فى طرف المدينة عند مدخلها وهو ما يحدد موقعها القديم.

اما الكتدرائية المسماة سان فرنسيسكو فموقعها على مقربة من الأسوار الأندلسية يُرجّح انها بنيت فوق موقع جامع القصبة الأندلسية التى كانت تحتل هذه البقعة والتى تبقى منها بعض اجزائها وهى مسماة اليوم بأبواب الشمس Potra del sol. أما كنيسة الكسوفا Alcacovas فهى أقدم كنائس المدينة وأنشأها فرسان المعبد (الداوية) فى منتصف القرن الثانى عشر وتقع فى طرف المدينة الشرقى وهى ذات عقود عربية. وهناك كذلك كنيسة القديس يوحنا Sao Joao التى ما تزالت تحتفظ بمئذنة المسجد الذى بُنيت على انقاضه والذى تم تحويل مئذنته إلى برج أجراس ويسمى برج الأجراس الآن Cabaças وهو يقع على مقربة من الكنيسة.

______________

المصادر والمراجع:

- ابن عذاري: البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب، تحقيق ومراجعة: ج. س. كولان، إِ. ليفي بروفنسال، الناشر: دار الثقافة، بيروت – لبنان، الطبعة: الثالثة، 1983م.
- عبد الواحد المراكشي: المعجب في تلخيص أخبار المغرب من لدن فتح الأندلس إلى آخر عصر الموحدين، المحقق: الدكتور صلاح الدين الهواري، الناشر: المكتبة العصرية، صيدا – بيروت، الطبعة: الأولى، 1426هـ / 2006م.
- محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس، الناشر: مكتبة الخانجي، القاهرة، الطبعة: جـ 1، 2، 5، ط4، 1417هـ / 1997م، جـ3، 4، ط2، 1411هـ / 1990م.
- محمود شيت خطاب: قادة فتح الأندلس، الناشر: مؤسسة علوم القرآن - منار للنشر والتوزيع، الطبعة: الأولى، 1424هـ / 2003م.
- محمد القاضي: سلسلة تاريخ البرتغال الإسلامية، جملة مقالات على موقع قصة الإسلام.
- موقعة شنترين، موقع مفكرة الإسلام.
-مدينة شنترين، موقع أندلسي.
- قصة الإسلام .