المراحل التاريخية للفتح الإسلامي للأندلس

قبل أن نتحدَّث عن المظاهر الحضاريَّة في إسبانيا الإسلاميَّة، يجدر بنا أن نستعرض سريعًا المراحل التاريخيَّة للفتح الإسلامي، فبعد أن تمكَّن طارق بن زياد من فتح طليطلة عاصمة القوط، لحقه موسى بن نصير (93-95هـ= 712-714م)، واستولى على إشبيليَّة وماردة، والتقى بطارق في طلبيرة عام (94هـ=714م)، واتَّجه القائدان إلى الشمال الشرقي والغربي لشبه الجزيرة الإيبيريَّة، لكنَّ الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك (86-96هـ= 705-715م) استدعاهما إلى دمشق عام (95هـ=714م)، فترك ابن نصير ابنه عبد العزيز واليًا على الأندلس (97-100هـ= 716-719م)، واستمرَّ الحكم الإسلامي في الأندلس إلى سقوط غرناطة سنة (897هـ=1492م).

ويُقسِّم المؤرِّخون الحقبة الإسلاميَّة في إسبانيا إلى فتراتٍ تاريخيَّة:

1- فترة الولاة: وتمتدُّ من الفتح الإسلامي سنة (92هـ=711هـ)، إلى مجيء عبد الرحمن الداخل (138-172هـ= 756-788م) وتوليه الحكم في قرطبة سنة (138هـ=756م).

2- فترة الإمارة: وهيمن حكم عبد الرحمن الداخل إلى أن اتَّخذ عبد الرحمن الثالث (300-350هـ= 912-961م) لقب "أمير المؤمنين"، وتسمَّى بالناصر لدين الله سنة (316هـ=928م).

3- فترة الخلافة: من عهد عبد الرحمن الناصر إلى نهاية الخلافة الأمويَّة في الأندلس عام (422هـ=1031م).

4- فترة الطوائف: ومدَّتها ستُّون عامًا (422-483هـ= 1031-1090م)، تدهورت خلالها أحوال المسلمين في الأندلس، وسقطت طليطلة بيد ألفونسو السادس ملك قشتالة وليون (465-502هـ= 1072-1109م) سنة (478هـ=1085م).

5- فترة المرابطين: وتبدأ من دخول المرابطين إلى الأندلس عام (483هـ=1090م)، وفي عهدهم شهدت الأندلس انتصارات على القشتاليِّين، واتَّحدت مع المغرب، وسقطت دولتهم على أيدي الموحدين عام (541هـ=1146م).

6- فترة الموحدين: وفي عهدهم حاول المسلمون الحفاظ على ما بأيديهم من مدنٍ قرنًا من الزمان حتى معركة العقاب سنة (609هـ=1212م)، التي نتج عنها هزيمة المسلمين، وتقلَّص ممالكهم، ولم يبقَ لهم سوى مملكة غرناطة.

7- عصـر غرناطـة: ويمتـدُّ من عام (668هـ=1269م) إلى سقوطها سنة (897هـ=1492م).

ومن الناحية الحضارية، نجد أنَّ التطوُّر الحضاري كان تدريجيًّا من القرن الأوَّل الهجري إلى أن بلغ قمَّته في عصر الخلافة، الذي أُطلق عليه "العصر الذهبي للمسلمين في الأندلس" في القرن (الرابع الهجري= العاشر الميلادي).

مميزات الفتح الإسلامي لإسبانيا

لقد كان الفتح الإسلامي لإسبانيا مختلفًا عمَّا سبقه من غزوات وهجرات؛ فقد تمَّ في وقتٍ وجيز، بحيث لم يصطدم بالعقبات الشعبيَّة التي عاقت الجيوش الأوربِّيَّة، وجاء الفتح الإسلامي استجابةً لرغبة السكان الذين عانوا من سوء الأوضاع السياسيَّة في البلاد، يُضاف إلى ذلك كلِّه أنَّ الفاتحين المسلمين أصحاب رسالة حضاريَّة تُحدِّد أهدافهم العسكريَّة، وتؤطر علاقاتهم بأهل البلاد المفتوحة، أورد جاروديم قولة بلاسكو إيبانيز (Blasco Ibanez) (1867-1928م)، وفحواها: "إنَّ انتعاش إسبانيا لم يأتِ من الشمال حيث القبائل البربريَّة؛ بل من الجنوب مع العرب الغزاة". وقال: "استولى العرب خلال سنتين على ما بذل الآخرون لاسترجاعه منهم سبعة قرون، ولم يكن ذلك فتحًا يُفرض بالسلاح، بل كان مجتمعًا جديدًا يمدُّ من كلٍّ جانبٍ جذوره القويَّة".

يذكر وِل ديورانت أنَّ الفاتحين المسلمين عاملوا السكَّان معاملةً طيِّبةً، ولم يفرضوا ضرائب كما فعل القوط الغربيُّون، وضمنوا الحريَّة الدينيَّة:

"وكثيرًا ما كان المسيحيُّون يُفضِّلون حكم المسلمين على حكم المسيحيِّين، ولم تنعم الأندلس طول تاريخها بحُكْمٍ رحيمٍ عادلٍ كما نعمت به أيَّام الفاتحين العرب، وما من شَكٍّ أنَّ حكم المسلمين كان أفضل من حكم القوط الغربيِّين، لقد كانوا أقدر أهل زمانهم على تصريف الشئون العامَّة في العالم الغربي، فكانت قوانينهم قائمة على العقل والرحمة، والإحصاء الدقيق والضرائب المعقولة التي لا تُقارن بضرائب روما أو بيزنطة، كان حكم العرب نعمة وبركة قصيرة الأجل على الزراع من أهل البلاد، وحرَّروا رقيق الأرض من عبوديَّة الإقطاع، وبلغت العلوم في إسبانيا من التقدُّم أكثر ممَّا بلغته في أوربَّا المسيحيَّة".

التزاواج بين المسلمين والأندلسيات

لم يتقوقع الفاتحون المسلمون في بروجٍ عاجيَّة، ولم يعتبروا أنفسهم أعلى عنصرًا وأنقى دمًا من الآخرين؛ بل أتاحوا لأصحاب البلاد فرص الاندماج الحضاري من خلال سياسة التسامح والعدل التي انتهجها الولاة والأمراء والخلفاء والملوك المسلمون خلال قرون الحضارة الإسلامية، يتحدَّث المؤرِّخ الإسباني رفائيل ألتاميرا (Rafael Altamira) عن الفترة الإسلامية بإعجابٍ، ويذكر أنَّ المسلمين أتاحوا للسكان الأصليِّين الحريَّة الدينيَّة، وتزوَّجوا منهم؛ فالأمير عبد العزيز بن موسى بن نصير تزوَّج أيلونه (Egilona)، أرملة آخر ملك قوطي هو لُذريق (Rodrigo)، وكُنيتها "أم عاصم"، كما أنَّ محمد الطويل -أمير وشقة- تزوج من الأميرة سنشا (Sancha)، ابنة الكونت الأرغوني أسنار غاليندو (Asnar Galindo).

وكانت أم الخليفة عبد الرحمن الناصر إسبانية سواء كانت ماريا النافارية كما في رواية، أو أونيكا (Oneca) ابنة فرتون بن غرسية كونت ليمبلونة حسب روايةٍ أخرى، وتزوَّج ابنه الحكم الثاني المستنصر بالله (350-366هـ= 961-976م) أورورا (Aurora) التي عُرِفت باسم "صبح"، وهيمن نافار. كما أنَّ المنصور بن أبي عامر (371-392هـ= 981-1002م) تزوَّج من تريسا (Teresa) ابنة برمودو الثاني ملك ليون (Vermudo II) (984-999م)، ومن بنت شانجه الثاني (Sancho II) ملك نافار (359-384هـ= 969-994م)، التي اعتنقت الإسلام وسُمِّيت "عبدة"، وأنجب منها ابنه عبد الرحمن المأمون (399هـ= 1008-1009م) الذي كانت أمُّه تُسمِّيه شنجول (Sanchuelo) لشبهه بجدِّه شانجه، وتزوَّج مجاهد بن يوسف العامري صاحب دانية والجزائر الشرقية (408-436هـ= 1017-1044م) من الأميرة الإسبانية جود، وأنجبت منه خمس بنات تزوجهنَّ ملوك من الطوائف.

وقد نتج عن هذا التزاوج جيلٌ يتحدَّث العربيَّة لغة آبائه، واللاتينيَّة لغة أمَّهاته، وفي المقابل هناك ملوك إسبان تزوَّجوا مسلمات مثل ألفونسو الأول (I Alphonso) ملك ليون (166-171هـ= 784-789م) الذي كانت أمُّه مسلمة، وتزوَّج ألفونسو السادس ملك قشتالة وليون من أرملة الفتح بن المعتمد بن عبَّاد، الملقَّب بالمأمون، حاكم قرطبة، الذي قُتِل عام (484هـ=1091م)، واسمها زائدة، ومنها أنجب ابنه الوحيد ضون شانجه (Don Sancho)، الذي قُتِل في معركةٍ ضدَّ المرابطين في أقليش شمال جبال طليطلة عام (501هـ= 30 مايو 1108م)، أمَّا أمُّه فقد ماتت وهي تضعه عام 1098م.

التسامح الإسلامي مع يهود الأندلس

ولم يكن نصارى إسبانيا هم الوحيدون الذين استفادوا من تسامح المسلمين، بل إنَّ يهود شبه الجزيرة الإيبيريَّة رأوا في الفاتحين المسلمين منقذين لهم من ظلم القوط، فانخرطوا في خدمتهم، واستثمر المسلمون خبرتهم اللغويَّة والسياسيَّة والتجاريَّة في العلاقة بينهم وبين سكَّان إسبانيا، وتولَّت شخصيَّات منهم -تحت الحكم الإسلامي- مناصب رفيعة، وبعد أن استردَّ نصارى إسبانيا طليطلة أفادوا من علماء اليهود في دار الترجمة فيها.

ظهور المستعربين وانتشار العربية بين الإسبان

ونتيجةً لهذا الانفتاح الإسلامي على المجتمع الإسباني، والفرص التي هيَّأها المسلمون للعناصر غير المسلمة، أقبل النصارى على تعلُّم اللغة العربيَّة، وظهر منهم المستعربون (Mozarabes)، وهم أولئك الذين ظلُّوا على نصرانيَّتهم، لكنَّهم استعربوا بلغة العرب، وتشبَّهوا بهم في حياتهم اليوميَّة، وقد وصف ألبارو القرطبي (Alvaro de Cordoba) -وهو رجل كنيسة- إقبال بني جلدته على الحضارة الإسلامية لغةً ونمط معيشة، وذلك في وثيقة مؤرَّخة عام (240هـ=854م):

"إنَّ إخوتي في الدين وأبناء رعيَّتي يتذوَّقون الأشعار والروايات العربيَّة، ويتعمَّقون في دراسة الفلاسفة المسلمين، وليت انصرافهم هذا يُؤدِّي إلى مساعدتهم على دحض المذاهب الإسلاميَّة أو الردِّ عليها؛ بل على العكس لكي يتمكَّنوا من هذه اللغة ومن آدابها، وليُجيدوا استعمالها أحسن فأحسن، أين نجد الآن علمانيًّا واحدًا نصرانيًّا يقرأ الأناجيل أو حياة القدِّيسين وأعمال الرسل والأنبياء؟ آه، ويا للأسف! إنَّ الشباب المسيحي الذي تميَّز بذكائه وعبقريَّته لا يجد اللذة والمتعة الروحيَّة إلَّا في قراءة الكتب العربية وآدابها، ويُنفقون الأموال الطائلة على شراء هذه الكتب، وتشكيل مكتباتٍ ضخمة، ويُنادون على رءوس الأشهاد أن لا آداب تُوازي الآداب العربيَّة، كلِّموهم عن الكتب المسيحية، يُجيبوكم بازدراء: إنَّها لا تستحق الانتباه. آه، ما أتعسنا! إنَّ المسيحيِّين من قد نسوا لغتهم، وبين ألف شخصٍ منهم لا يوجد واحدٌ يُحسن كتابة رسالةٍ إلى صديقه باللغة اللاتينيَّة؛ ولكن إذا طلبته للكتابة باللغة العربية أجاد كلَّ إجادة؛ بحيث إنَّ الكثيرين من إخواننا في الدين يُحسنون اللغة العربيَّة أفضل من العرب أنفسهم".

لقد أدَّى المستعربون دورًا مهمًّا في نشر الحضارة الإسلاميَّة في إسبانيا النصرانيَّة وأوربَّا، لإتقانهم العربيَّة واللاتينيَّة الحديثة؛ وأسلمت أسر إسبانيَّة وتفانت في خدمة الدولة الإسلاميَّة؛ مثل بني قومس (Comes)، ويُنسبون إلى قومس بن أنتنيان بن يليانه، الذي أسلم بعد عام (246هـ=860م)، وتولَّى الكتابة للأمير محمد بن عبد الرحمن (238-273هـ= 857-886م)، واستمرَّ أبناؤه وأحفاده يعملون لدى أمراء بني أمية وخلفائهم، والأمثلة على هذه الأسر كثيرة.

وكان من تشبُّع المستعربين بالحضارة الإسلامية أن بنوا كنائسهم على النمط المعماري الإسلامي في قشتالة ونافار وليون، وبالمقابل فإنَّ المسلمين الذين كانوا تحت الحكم النصراني والمعروفين بالمدجَّنين، أسهموا ببناء الكنائس المدجَّنة بأسلوب لا يختلف كثيرًا عن العمارة الإسلاميَّة؛ مثل: كنيستي سان رومان في القرن الثالث عشر الميلادي، وسان سباستيان في القرن الرابع عشر في طليطلة.

ويسَّر الأمراء والخلفاء الأمويُّون مناصب للمستعربين في السفارات والقصور وقيادة الجيوش؛ فقد بعث عبد الرحمن الثاني (206-238هـ= 822-857م) يحيى بن الحكم البكري المعروف بالغزال سنة 840م، إلى هارالد (Harald I) ملك النورمان والدانمارك (ت 863م)، وأوفد عبد الرحمن الناصر أسقف قرطبة ريسيموندو (Recemundus) المعروف بربيع بن زيد إلى أوتو العظيم (Otto I) إمبراطور ألمانيا (936-973م)، وتسمَّى رجال الكنيسة بأسماء عربيَّة، مثل: وليد بن خيزران قاضي النصارى في قرطبة، وعبيد الله بن قاسم بطريرك طليطلة.

ومن المستعربين من وصل إلى الوزارة مثل ششناندو دافيدس (Sisnando Davides) الذي أسره عام 420هـ القاضي محمد بن عبَّاد صاحب إشبيلية (414-433هـ= 1023-1041م)، وربَّاه حتى ظهرت مواهبه، فاتَّخذه المعتضد بن عباد (433-461هـ= 1041-1068م) من وزرائه وقرَّبه، فأثار ذلك حفيظة رجال بلاطه، فخشي ششناندو منهم وهرب إلى فرناندو ملك قشتالة (426-458هـ= 1035-1065م) واتَّخذه مستشارًا، وكان له تأثيرٌ على الملك ألفونسو السادس في سياسة التسامح مع المسلمين، وفتح قنوات للاتِّصال بالملوك المسلمين، حتى في مجال الطرب؛ فقد كان ثَمَّة جوارٍ من أصل إسباني يُرسَلن إلى الشرق لتعلُّم الغناء، ويَعُدْنَ لممارسته في بلاط الأمراء والخلفاء والملوك، كما أنَّ ملوك قشتالة ونافار كانوا يستمعون إلى القِيَّان المسلمات وهنَّ يُغنِّين.

بل إنَّ رجال الكنيسة أقبلوا على الحضارة الإسلامية ينهلون من معينها بغضِّ النَّظر عن أهدافهم؛ فقد استطاع الرهبان إتقان العربيَّة قراءة وكتابة وتحريرًا، ونثرًا وشعرًا؛ فقد قام يُوحنَّا رئيس أساقفة إشبيلية بنقل التوراة سنة 724م، من اللاتينيَّة إلى العربيَّة وعاونه الأب "فيسنتي" في ثمانية أجزاء في قوانين الكنيسة، وأهداها إلى الأسقف عبد الملك في أبياتٍ من الشعر العربي الرصين:

كِتَابٌ لِعَبْدِ الْمَلِكِ الْأسْقُفِ النَّدْبِ

جَوَادٌ نَبِيلُ الرَّفْدِ فِي الزَّمَنِ الْجَدْبِ

بل أسهمت أسر وأفراد من نصارى إسبانيا في الشئون العسكريَّة والسياسيَّة تحت مظلَّة الحكم الإسلامي، منهم أسرة بني قصي التي يُقال إنَّ أصلها قوطي ثم أسلمت، واستولت في أواخر القرن الثامن الميلادي على أراغون، ومن رؤسائها موسى الثاني الذي حكم الثغر الأعلى تابعًا للأمير الأموي محمد بن عبد الرحمن، وحارب برشلونة وقشتالة وفرنسا وتسمَّى "ملك إسبانيا الثالث"، وبعد أن مات موسى نقض أبناؤه تبعيَّتهم للأمير محمد، وانضمُّوا إلى معسكر ألفونسو الثالث ملك ليون (866-910م).

ومن المستعربين رودريجـو ديـاز دي بـيـفار (Rodrigo Diaz de Bivar) (1045-1099م) المشهور باسم "السَّيِّد" الذي أُحيطت شخصيَّته بالأساطير والمغامرات، وُلِدَ السَّيِّد الملقب بالقنبيطور (Campeador) -أي المغوار- عام 1045م، في بليدة فيفار شمال برغش (Burgos) من مدن الشمال، وفي عام 1079م عهد إليه ألفونسو السادس برئاسة الوفد الذي التقى المعتمد بن عباد في إشبيليَّة، إلَّا أنَّ العلاقة بينه وبين ألفونسو ساءت، فغادره إلى سرقسطة حيث جعل نفسه في خدمة ملكها المسلم، الذي ناداه بـ "السَّيِّد"، ثم استولى على بلنسية في 15 يونيو 1094م، وقد وعد الرعيَّة -كما لو كان سلطانًا مسلمًا- بأن يكون عادلًا ويقرُّ العمل بالشريعة الإسلامية في جباية الزكاة والأعشار، ويستقبل الشكاوى يومي الاثنين والخميس من كلِّ أسبوع، ويمتنع عن الشرب والخلوة مع النساء والغناء، إلَّا أنَّه نكث بوعوده، وحوَّل جامع بلنسية إلى كاتدرائية "سانتا ماريا"، ومن المرجَّح أن يكون السَّيِّد يتحدَّث العربيَّة، ويرتدي زيًّا عربيًّا، وكان الشعراء المسلمون والنصارى يلقون بين يديه قصائدهم بلغاتهم المختلفة.

وربَّما أدَّى المستعربون دورًا في تسليم مدنهم إلى المسلمين، يُقال: إنَّ طليطلة كانت تعجُّ بالإسبان المستعربين، وكانوا منتشرين في قراها، وكانوا يميلون إلى الاستقلال، وكان شاعرهم غربيب من أسرة إسبانية مسلمة يحمسهم على ذلك، فأرسل الحكم بن هشام أمير الأندلس (180-206هـ= 796-822م)، إليهم رجلًا نصرانيًّا من وشقة يُدعى عمروس الذي أعمل الحيلة لإخضاع أهل طليطلة، فأظهر بغضه لبني أميَّة وأقنعهم ببناء حصن يجمع فيه الجنود حتى دانت له المدينة، وخضع له أعيانها سنة 191هـ. لقد بقيت طليطلة في أيدي المسلمين أربعة قرون (712-1085م)، وبقي نصاراها على ديانتهم؛ إلَّا أنَّهم اتَّخذوا العربية لغة ثقافيَّة لهم، وكانوا يُؤدُّون طقوسهم الكنسية باللغتين العربية والقوطية، وكانوا يكتبون شواهد قبورهم بالعربية واللاتينية.

إسبانيا المسلمة .. مقصدًا لطلاب العلم

ولأوَّل مرَّة في تاريخ الجزيرة الإيبيريَّة تُصبح إسبانيًّا بلدًا مصدِّرًا للحضارة بعد أن كانت متلقِّية لها من أثينا وروما، فغدت بفضل الحضارة الإسلاميَّة مقصدًا لطلَّاب العلم من أوربَّا، حتى رجال الكنيسة كانوا يفدون إلى قرطبة وطليطلة وإشبيلية في طلب العلم، مثل جربرت وأديلارد أوف باث وميشيل سكوت؛ كما أنَّ ملوك النصارى كانوا يُرسلون أبناءهم إلى بلاط المسلمين لتعلُّم الفروسية وفنِّ التهذيب، بل بلغ الأمر ببعضهم أن طلبوا مربِّين لأبنائهم من المسلمين، مثل شانجه (سانشو) الكبير ملك نافار (391-426هـ= 1000-1035م) الذي استقدم عالمين لتعليم ابنه وولِّي عهده، فتولَّيا تربيته وتعليمه.

لقد أخذت إسبانيا دورها الفكري؛ إذ أصبحت قرطبة في القرن العاشر الميلادي عاصمةً ثقافية، وشاع ذكرها في أرجاء أوربَّا، وها هي الشاعرة الألمانية روزيتا (Hroswtha) تكتب في ديرها في القرن العاشر الميلادي تصف قرطبة: "إنَّها جوهرة العالم الساطعة، مدينة جيِّدة ورائعة، فخورة بقوَّتها، شهيرة بمباهجها، مزهوَّة بما تملك من خيرٍ وفير".

وكان الفرق شاسعًا بين المناطق الخاضعة للمسلمين والمناطق الشماليَّة التي يحكمها النصارى؛ بل بلغت إسبانيا في عهد المسلمين شأوًا كبيرًا من الرقي. يقول روم لاندو: لقد حُوِّلت الأندلس إلى حديقةٍ غنَّاء. ذلك أنَّ العرب أدخلوا إلى البلاد طرائق في الريِّ والزِّراعة، وبينما كانت سائر أوربَّا تتمرَّغ في القذر والحطة، نعمت إسبانيا بمدنٍ نظيفة ذات شوارع معبَّدة ومضاءة، وكان في ميسور قرطبة وحدها أن تعتزَّ بنصف مليونٍ من السكان، وسبعمائة مسجد، وثلاثمائة حمَّامٍ عمومي، وسبعين مكتبةً عامَّة، وعددٍ كبيرٍ من دكاكين الورَّاقين.

وتقول "لوثي لوباث – بارالت"، أستاذة الدراسات الإسبانية بجامعة بورتوريكو: "إنَّ شوارع قرطبة كانت معبَّدة ومضاءة بمصابيح، بينما لم تعرف لندن النور ولا باريس بلاط الأزقَّة إلَّا بعد قرون، وكان أهل أكسفورد يعتبرون الحمَّام بدعة".

_______________

المصدر: الدكتور عبد الله بن عبد الرحمن الربيعي: الهوية الإسلامية للحضارة الإسبانية وموقف المؤرخين الإسبان منها، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، الرياض - المملكة العربية السعودية.