(اَللّـهُمَّ اجْعَلْ سَعْيي فيهِ مَشْكُوراً ، وَذَنْبي فيهِ مَغْفُوراً وَعَمَلي فيهِ مَقْبُولاً ، وَعَيْبي فيهِ مَسْتُوراً ، يا أسْمَعَ السّامِعينَ !)
- (اَللّـهُمَّ اجْعَلْ سَعْيي فيهِ مَشْكُوراً...) :
لماذا قال : اجعل سعيي فيه مشكوراً ؟..
هناك سعي مقبول ، وهناك سعي مشكور..
السعي المقبول : هو ذلك السعي الذي فيه أدنى درجات القبول ، والله عزوجل يعطي الأجر مقابل ذلك السعي..
ولكن السعي المشكور : هو ذلك السعي الذي قال عنه الله سبحانه وتعالى : {لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ}.. ذلك السعي الذي لا يقبله الله عزوجل من الإنسان المؤمن فحسب ، وإنما يشكره على ذلك السعي.. والشكر من الله عزوجل شكر من جهة لا محدودة ، ومعنى ذلك أن الشكر في بعض صوره يتصف بالأبدية وعدم الفناء.. كالشكر الذي شكره الله عزوجل إبراهيم وإسماعيل على هذا العمل : {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}.. فلأن هذا السعي هو سعي مشكور ، ولهذا هل انحصر أثره في جرهم وفي تلك الأيام ؟.. أبداً.. هل في أمته ؟.. أبداً.. هل في أمة النبي الخاتم ؟.. أبداً.. هل في البرزخ والقيامة ؟.. أبداً.. لأن أهل الجنة يعيشون على مائدة إبراهيم ، من بركة الحج.. فالحج يعطى المؤمنين من زمن إبراهيم إلى قيام الساعة ، درجات في الجنة لا نهائية ، غير فانية ، وهذا هو معنى الخلود.. فلأن السعي سعي مشكور ، فقد بدأ من بناء الكعبة ، ولا ينتهي هذا السعي إلى حياة الأبد في جنات الخلد.
- (وَعَيْبي فيهِ مَسْتُوراً) :
ما معنى العيب المستور ؟..
من المعلوم العيب الذي أثره في الواقع موجود ، ولكنه مستور عن العباد.. ولكن ما قيمة هذا الستر ؟!.. أن يكون إنسان يعيش المرض الباطني القاتل ، ويقول : يا رب، استر عليّ العيب !.. وهذا هو المتعارف عند الناس أنهم يخافون الفضيحة عند الخلق ، ولا يهمهم بعد ذلك ما يفعلون في السر !.. ما قيمة هذا الستر حتى يكون هماً للمؤمن ويدعو ربه لذلك ؟!..
إن المراد بالعيب المستور هنا : هو العيب الذي لا بروز له في النفس ، العيب الذي لا وقع له في الخارج..
مثلاً : لو إنسان لا يمكنه أن يقتلع الحسد من وجوده ، أو لا يمكنه أن يقتلع الحقد والتكبر من وجوده ، وهو متأذٍ من ذلك ، ويريد الخلاص من هذه الملكات الخبيثة.. فالخطوة الأولى : أن يمنع من تأثير العيب الباطني في الخارج.. فهذه أول خطوة لتصفية الباطن ، فإن الذي يعمق الملكات الخبيثة ، ويؤصل ذلك في النفس ، هو عبارة عن المدد الخارجي والعمل الخارجي.. والخطوة الثانية : أن يعمل بما يعاكس الملكة الخبيثة..
ولهذا قيل في علم الأخلاق : إذا أحس الإنسان بحالة من الحسد تجاه مؤمن : فالخطوة الأولى : أن لا يعمل بحسده ، نميمةً ، وغيبة ، وكلاماً وقيعاً.. والخطوة الثانية : أن يحسن إليه متعمداً ، ويخصه بالثناء ، ويخصه بالتكريم ، والدعاء ، حتى تكون حركة معاكسة لما في الباطن.. فهذا الإنسان إذا واظب على هاتين الحركتين : عدم الاستسلام للملكة ، والمعاكسة ؛ فإنه بعد فترة من المجاهدة سيتخلص من هذه الملكة.. وهكذا : لو إنسان عنده بذور التكبر ، فإن عليه أن لا يتكبر خارجاً ، بل يتعمد ويتكلف التواضع.. ولو إنسان عنده حالة البخل ، ولا ينفق ، فإن عليه أن لا يستسلم للبخل ، ويجبر نفسه على الإنفاق..
إذن، هذه المقولة التي يرددها البعض : أن الملكات غير قابلة للعلاج ، مقولة باطلة ، ومما يوجب اليأس في النفوس.. البعض يحمل هذا الاعتقاد ويثبط الهمم في النفوس : أنت إنسان فطرك الله على الحسد ، عليك أن لا تعمل بالحسد ، وأما الحسد الباطني فلا يزال !.. هذه بأية آية أم بأية سنة اعتقدنا هذا الاعتقاد الباطل ، أن الملكات لا تقبل التغيير !.. وقد رأينا خارجياً أناس ذو ملكات خبيثة وزالت عنهم الملكة ، لا العمل فحسب..
إذن، العيب المستور هو ذلك العيب الذي لا أثر له في الخارج.
نعم، المرحلة الأرقى من العيب المستور : هو كناية عن العيب المعدوم.. لا يكفي أن يكون العيب مستوراً بمعنى عدم التأثير ، وإنما بأن يعدم من أصله ، وهذا هو معنى القلب السليم ، الذي أشرنا إليه في مناسبات عديدة.. القلب السليم : هو ذلك القلب الذي يلقى الله عزوجل ولا أحد غير الله في هذا القلب.. قلب خالٍ لا من العيوب والملكات ، بل مما سوى الله عزوجل..
لو فتشوا قلبي رأوا ما به -- سطران قد خطا بلا كاتب
العدل والتوحيد في جانب -- وحب أهل البيت في جانب
هذا القلب لا يوجد فيه إلا الله ، ورسوله ، وأحباؤه ، ومن لله فيه نصيب..
ولدعبل (رحمه الله) عندما وقف أمام الرضا (ع) هذه العبارة الجميلة :
أحب قصي الرحم من أجل حبكم -- وأهجر فيكم زوجتي وبناتي
نعم، هذا هو المنطق أن الناس في قلبي لهم درجات ، وهذه الدرجات لا بحسب النسب ، ولا بحسب الحسب ، ولا بحسب العلاقات الأرضية ؛ وإنما بمقدار ما لهم لله من نصيب.. أعطيهم من الحب والقرب والود ، بمقدار قربهم من الله عزوجل.. ولا يبلغ الإنسان حقيقة الإيمان إلا إذا وصل هذه الدرجة العالية ، من خلو النفس من أي شائبة من شوائب الالتفات إلى غير الله عزوجل.. وفي عبارة أخرى جميلة ، يقولون : بأن التوحيد ألا ترى أحداً في الوجود إلا الله.
إلهي بفاطمة وأبيها وبعلها وبنيها والسر المستودع فيها ، صلِّ على محمد وآل محمد ، واجعلنا من عبادك الصالحين ، بحرمة محمد وآله الطيبين الطاهرين !..
منقوووول