كيف نظر العرب قديما إلى الغربة ؟
تُمثل الغُربة اليوم واقعا يلقي بظلاله على الشباب العربي من المحيط إلى الخليج، فمع التغيرات الاجتماعية والسياسة التي تموج بمنطقتنا العربية، وارتفاع معدلات البطالة، بات السفر واقعا يفرض نفسه على كثير من الشباب، وباتت الغربة، عن الوطن والأهل، أمرا نتخلى في مقابل استمرارية العيش، ومحاولة تحسينه قدر الإمكان. وباعتبار الغربة حالة تصحبها تغيرات كثيرة، فإنها تنعكس على ذات الإنسان، لتعيد تشكيله، وبالتالي، فإنها تصحبه بكل مشاعرها المختلطة. ومن هنا تحديدا ولارتباطها الوثيق بالإنسان، فقد سال حبر كثير حول الغربة وأحوالها، فالغربة ليست وضعا طارئا يختص به زماننا، بقدر ما هي حالة رافقت الإنسان طيلة وجوده، إذ تعكس وضعا اجتماعيا خطّه التاريخ في دفاتره، وحالة تتجدد بتقدم الزمن وتغير الأحوال، ووقوف الإنسان في موقع القلب هذه التغيرات. في هذا التقرير سنرصد الكتابات التي تناولت الغربة في صفحات التراث العربي، بين مادح وذامّ، في محاولة للتبصر حول زوايا النظر المختلفة تجاه الغربة وأحوال أهلها.
آلام الغربة
يُحكى أن المحدّث، الحسن بن سفيان، قال ارتحلنا إلى شيخ من أهل مصر، فأقمنَا نسمعُ عليه الحديثَ، فنَفِدَت نفقاتُنا، وبعنَا جميع ثيابنا، وأفضَى بنا الحالُ إلى أن بقينا ثلاثة أيام بلا طعام، وأصبحنَا في اليوم الرابع وليس بنا حراكٌ من الجوع، ولم يبقَ حيلةٌ إلَّا الخروج إلى سؤال الناس، فكتبنا رقاعًا فيها أسامينا، واقترعنا على من يتولَّى السؤال، فخرجت القرعةُ على اسمي، فتحيَّرتُ ولم تسمح نفسي بذلك، فعدلتُ إلى زاويةٍ في المسجد الَّذي كنَّا فيه، وصلَّيتُ ركعتين، وسألتُ الله بأسمائه العظام وكلماته الرفيعة، فلم أستتمَّ دعائي حتَّى دخل المسجد خادمٌ في يده منديل، فقال: من منكم الحسن بن سفيان؟ فرفعتُ رأسي من السجدة وقلت: أنا، فقال: إنَّ الأمير أحمد بن طولون صاحبي يقرئكُم السلام، ويعتذرُ إليكم من الغفلة عن تفقُّد أحوالكم والتقصير في حقوقكم، وهو زائرُكم غدًا بنفسه.
ووضع بين يدي كلِّ واحدٍ منَّا صُرة فيها مئة دينار، وكنَّا ثلاثة، فقلت له: فما سببُ هذا؟ ومن أين يعرفنا الأمير؟! فقال: حدَّثني أنَّه أتاهُ البارحة في المنام فارسٌ وبيده رمحٌ، فوضعه على خاصرته، وقال: قم فأدرك الحسنَ بن سفيان وأصحابَه، فإنَّهم منذ ثلاث ما أكلوا، وهم في المسجد الفلانيّ، قال ابن طولون: فقلت: من أنت؟ قال: رضوان خازنُ الجنان، قال: فلمَّا أصبح ابن طولون دعاني وأخبرني الخبر، وقال: منذُ وَضعَ الرمحَ على خاصرتي أصابني وجعٌ شديد، فعجِّل بإيصال المال إليهم ليزولَ الوجع عنِّي! تلك حكاية رويت عن بعض المغتربين من طلبة العلم الذين جاؤوا من وسط آسيا إلى مصر في القرن الثالث الهجري/التاسع الميلادي، قبل ألف ومائة عام أو يزيد، وهي تعطي لنا ملمحًا عن قسوة الغربة، وآلامها حينذاك!
أحلام الغربة
كتب اللغوي والأديب البارع عبد الملك بن محمد الثعالبي في القرن الخامس الهجري/العاشر الميلادي فصلا في كتابه "اللطائف والظرائف" يمدح فيه الغربة والارتحال عن الأوطان، جاء في مستهله:
من أحسن ما قيل في ذلك:
إذا النارُ ضاق بها زِندها ** ففسحتُها في فراقِ الزناد
إذا صارمٌ قرَّ في غِمْده ** حوى غيرهُ الفضلَ يوم الجِلادِ
وفي الاضطرابِ وفي الاغترابِ ** منالُ المنى وبلوغُ المرادِ
وكان يُقال: ليس بينك وبين بلدك نسبٌ، فخيرُ البلادِ ما حملَك وجمّلك. الأمر نفسه رآه الأديب الجاحظ في عدد من رسائله وكتبه، فهو يرى السفر والاغتراب أنفع للإنسان من البقاء دون حركة، يقول: "قسّم الله تعالى المصالح بين الغُربة وإلف الوطن، وبين ما هو أربح وأرفع، حين جعل مجاري الأرزاق مع الحركة والطّلب. وأكثر ذلك ما كان مع طول الاغتراب، والبعد في المسافة، ليفيدك الأمور، فيمكن الاختبار ويحسن الاختيار".
وفي "كليلة ودمنة" لابن المقفع، وهو الكتاب الأدبي الأشهر الذي جعله مؤلفه حكاية وحكِما على لسان الحيوانات والطيور، وحين كان الملك يستشير ندماءه في شأن العدو سائلا إياهم الصلح والسلام: "قال الملك للرابع من ندمائه: فما رأيك في هذا الصلح؟ قال لا أراه رأياً بل أن نفارق أوطاننا ونصبر على الغربة وشدة المعيشة خيرٌ من أن نضيّع أحسابنا ونخضع للعدو الذي نحن أشرف منه". فالغربة عند ابن المقفع هنا لازمة لصيانة العزة والكرامة؛ إذ البقاء في الوطن مع العدو المتحكم ضيم لا يقبله الكريم، وذلة لا يقدر على العيش في كنفها من تنعّم بالحرية وعرف قدرها.
ولعل ما كان يهوّن الغربة على المغتربين من أبناء حضارتنا الأقدمين تلك النصوص التي حضّتهم على الترحال والسفر لتعلم العلوم، والازدياد من المعارف والخبرات، قال الصحابي معاذ بن جبل: "تعلموا العلم فإن تعلّمه حسنة، وطلبه عبادة، وبذله لأهله قربة. والعلم الأنيس في الوحشة، والصاحب في الغربة، والمحدّث في الخلوة..."
وهو المعنى نفسه الذي جعله العلامة ابن خلدون (ت 808هـ/1406م) في نفسه واقعًا عمليًا حين ترك دياره بالمغرب، واستقر به المقام في السنوات الخمس والعشرين الأخيرة من عمره في القاهرة عاصمة المماليك حينذاك، وفيها علا نجمه، وبلغ منازل العلماء الراسخين، يقول: "ولما دخلتها (القاهرة)، أقمتُ أياماً، وانثال عليّ طلبة العلم بها، يلتمسون الإفادة مع قلّة البضاعة، ولم يوسعوني عذراً، فجلستُ للتدريس بالجامع الأزهر منها. ثم كان الاتصال بالسلطان (الظاهر برقوق)، فأبرّ اللقاء، وآنسَ الغُربة، ووفّر الجراية (المال) من صدقاته، شأنه مع أهل العلم، وانتظرتُ لحاق أهلي وولدي من تُونس، وقد صدّهم السلطان هنالك عن السفر؛ اغتباطاً بعودي إليه، فطلبتُ من السلطان صاحب مصر الشفاعة إليه في تخلية سبيلهم، فخاطبَه في ذلك".
ومن قبله صاحب المعجم الأشهر في العربية "الصحاح" إسماعيل بن حماد الجوهري (ت393هـ/1003م) الذي كان يؤثر الغربة على البقاء في الوطن، وكانت الغربة بالنسبة إليه ولنا منفعة كبيرة لعلوم اللغة العربية منذ ألف عام وحتى يومنا هذا، وفي ترجمته يقول ياقوت الحموي: "كان الجوهري يؤثر السفر على الحضر، ويطوف الآفاق، واستوطن الغربة على ساق".
إن الغربة عند بعض الأقدمين كانت ذات فائدة كبرى؛ هذه الفائدة -بحسب الشاعر- لا يجب أن تجعلك جزِعا على فراق الأهل والوطن؛ فإنك في ارتحالك من بلدك إلى البلدان الأخرى -حينذاك- لا تكاد تجد فارقًا كبيرا، يقول:
لا يمنعنّك خفضُ العيشِ في دَعة ... نزوع نفسٍ إلى أهلٍ وأوطانِ
تلْقى بكلّ بلادٍ إن حلَلْتَ بها ... أهلاً بأهلٍ وجيرانًا بجيرانِ[8]
وممن وجدوا حظّا في الغربة أيضًا، ومُقامًا كريما لم يجدوه في أوطانهم؛ أبو نصر محمد بن الحسين الكاتب الذي يقول عنه الباخرزي في كتابه "دُمية القصر": "الكاتب الملقّب بصريع الكاس، نيسابوريّ تقاذفت به الغُربة إلى خوارزم، فأقامَ بها حتى انتقل من ظهرها إلى بطنها، ولم تخلُ أيام حياته مجالس أمرائها، ومحافل كرمائها".
إن الغريبَ ذليلٌ حيثما كان!
لم تكن الغربة وجه الخير والفائدة دائما، خاصة عند البعض الآخر من أولئك الرحالة وطلبة العلم وغيرهم ممن وجدوا فيها ألما وحسرة وفراقًا للأحبة، فإذا كان ابن المقفّع في "كليلة ودمنة" ينصح المضيوم بترك الوطن صيانة للعزة والكرامة والنفس، فإنه في كتابه الآخر "الأدب الصغير" يرى العكس من ذلك!
يقول: "كان يقال: من ابتُلي بمرض في جسده لا يُفارقه، أو بفراق الأحبّة والإخوان، أو بالغُربة حيث لا يعرف مبيتًا ولا مقيلاً، ولا يرجو إيابًا، أو بفاقة، تضطره إلى المسألة: فالحياة له موتٌ، والموت له حياة"[10]! والجاحظ نفسه يعود لينقل آلام الغربة والأمثلة التي قيلت في شأنها، منها: الغُربة كُربة، والقلّة ذلة. وينقل عن أحدهم بعد معاناة مع الغُربة:
لا ترغبوا إخوتي في غربة أبداً ... إنّ الغريب ذليلٌ حيثما كانا
ولعل ما يؤكد هذه النظرة المتشائمة من آثار الغربة السلبية ذلك الأعرابي الذي جاء إلى الوليد بن عبد الملك بن مروان، الخليفة الأموي في دمشق، بفرس حجازية سريعة العدو، وكان الأعرابي ذا ظرف وفصاحة، فاستظرفه الوليد ومنعه من العودة لوطنه في البادية، فلما طال مقامه في الشام مرض الأعرابي، فبعث إليه الوليد بالأطباء، فأنشد الأعرابي يقول:
جاء الأطبَّاءُ من حمصٍ تخالهمُ ... من جهْلِهم أن أُدَاوَى كالمجانينِ
قال الأطبَّاء: ما يُشْفيك؟! قلتُ لهم ... شَمُّ الدُّخانِ من التسرير يُشفيني
إنِّي أحنُّ إلى أدخانِ مُحتطبٍ ... من الجُنينة جزلٍ غير موزونِ
فأمر الوليد أن يُحمل إليه من تراب وطنه، فلما عادوا إليه وجدوه ميتا[12]! ويبلغ الحنين مبلغه بذلك الشاعر الذي خرج غازيا في عصر الفتوح الأولى، فينظر ناحية نجد، برغم أنه لا يرى شيئًا، ولكنه ينظر حنينًا إليها وإلى خيامها التي يقصر عنها الطرف، وبرغم ألا نفع في نظره فلا يزال ينظر، ثم تجري عبراته تتحدر هكذا كل يوم، وهكذا لا يستريح قلبه، فإما مجاهد في غزاة، أو ناء يتذكر وطنه، ولا يقدر على غربته، يقول
أكرّر طَرْفي نَحو نجدٍ وإنّني ... برُغمي وإن لم يُدرك الطرفُ أنظرُ
حنينًا إلى أرضٍ كأنّ تُرابها ... إذا أُمطرت عودٌ ومسكٌ وعنبرُ
أحنّ إلى أرضِ الحجازِ وحاجتي ... خيامٌ بنجد دونها الطرفُ يقصرُ
وما نظري في نحو نجد بنافع ... أجل لا، ولكني إلى ذاك أنظر
أفي كل يوم نظرة ثم عبرة ... لعينك مجرى مائها يتحدر
أما ذلك الآخر فقد ارتبط الوطن عنده بالشباب، وفيه مس جلده ترابه لأول مرة يقول:
بلاد بها حلّ الشباب تميمتي ... وأوّل أرض مسّ جلدي ترابها
والمعنى نفسه يؤكده العلامة ابن الجوزي (ت 597هـ/1116م) الذي يرى أن "أرض الرجل ظئره (مُرضعته)، وداره مُهره (فرسه)، والغريب كالفرس الذي ترك أرضه، وفطرة الرجل معجونة بحب الوطن، ثم إن الإبل تحنّ إلى أوطانها، والطير إلى أوكارها". وكان بعض الملوك قد انتقل عن وطنه، فنزل ديارًا أعمر من دياره وأخصب، ودانت له الممالك، ثم كان إذا ذكرَ الوطن يحنّ حنين الإبل وأنشد يقول:
ما من غريبٍ وإن أبدى تجلّده ** إلا تذكّر عند الغُربة الوطنا
وما يزال حمام باللوى غرّد ** يُهيّج مني فؤادًا طالما سَكَنا !
وحين ترك الرحّالة محمد بن محمد البدري وطنه بالشام في القرن العاشر الهجري/السادس عشر الميلادي، ونزل "بورصة" في الدولة العثمانية، كتب يقول عما يخالجه من شعور قهري، وقلق من المستقبل، وخوف على الأهل والأم والولد: "لما نزلت بعمارة السُّلطان محمد (بورصة)، وانفردتُ بذلك المكان المفرد، وصرتُ بين أهل تلك المدينة كالشامة البيضاء في الثور الأسود، أعاني الغُربة وأقاسي الكُربة، لا أجد مألفاً ولا صديقاً ولا أنيساً ولا شفيقاً ولا رفيقاً رفيقا، فاستوحش قلبي، وطاش لُبي، وترادفت عليّ هموم، وتواردت لديّ غموم، من ذلك فراق الوالدة والأولاد والأهل، وارتكاب خطة أمر لم يكن بالهين ولا بالسهل".
ولم يجد البدري تسلية لنفسه، وتفريجا لهمه سوى قصيدة بثّ فيها شوقه وهمومه، يتوسل فيها إلى الله ورسوله، وهي أبيات تتضح فيها مرارة الغربة وقسوتها جاء فيها:
رفعتُ إليه قصّتي من حوادثٍ ... وَهَىَ جَلَدي منها وقلَّ تحمُّلي
ألا يا رسول الله إني عائذٌ ... بجاهِكِ من خَطْبٍ عَراني مُجلّلِ
فراقٌ لأولادي وأمّي وعشرتي ... وأهلي وأصحابي وداري ومنزلي
وتشتيتُ شملي في البلاد وغُربتي ... بغير شفوقٍ لي عليه مُعوّلي
وقَصْدِي لحاجاتٍ أروم قضاءَها ... سريعاً وأخشى أنها لا تعجّلِ
وأسوأ من البدري الشاعر الملقّب بكبريت (ت 1070هـ/1660م) ذلك الأديب الشاعر الذي امتهن حرفة الأدب، وترك دياره مغتربا في البلاد لعله يجد من يُقدّر قيمته وأدبه، لكنه صُدم في أبناء عصره، وهو الذي لم يجد في الغربة إلا الكربة وزيادة الآلام والأوجاع.
يقول: "امتطيتُ غارب الأمل إلى الغُربة، وركبتُ مراكب المذلة والكُربة، قاصداً استعتاب الدهر الكالح، واستعطاف الزمان الغشوم الجامح؛ اغترارًا بأن في الحركة بركة، وأن الاغتراب داعية الاكتساب
على المرء أن يسعى لما فيه نفعُه ... وليس عليه أن يساعده الدهرُ
فإن نال بالسعي المُنى تمَّ قصدُه ... وإن خالف المقدور كان له عذرُ
وهيهات مع حرفة الأدب، بلوغ وطر أو إدراك إرَب (غاية)، أو مع عبوس الحظ، ابتسام الدهر.
فما كُلُّ غادٍ نحو قصدٍ ينالُه ... ولا كلُّ من زار الحِمى سمع الندا"[.
وهكذا اختلطت مشاعر الأقدمين في التراث العربي تجاه الغربة، تلك المشاعر المتضاربة ذاتها التي تخالجنا حتى اليوم، فالبعض يرى في الغربة النجاح والأمل والإبداع والتفاؤل، والبعض الآخر يرى فيها قسوة وحسرة وبُعدا عن الأوطان والديار والذكريات، ويبقى الإنسان هو الإنسان في عواطفه وجوانحه وانفعالاته على مرّ الزمان!