بعد أن تولَّى السلطان محمود الثاني السلطنة العثمانيَّة أخذ يتحيَّن الفرصة لتنفيذ الإصلاحات التي اشتهر بها عهده، غير أنَّ فترة حكمه امتلأت بالحروب والتطوُّرات الهامَّة التي امتصَّت معظم جهوده وكافَّة إمكانيَّاته، وبالتالي لم تؤدِّ إصلاحاته التي قام بها إلى استعادة الدولة العثمانية قدرتها في صراعها مع الأعداء، ولكن تكمن قيمة هذه الإصلاحات في أنَّ السلطان محمود الثاني قد فتح باب الإصلاح وأصبح بعد ذلك من المستحيل إغلاقه.. فمن هو السلطان محمود الثاني؟


مولد السلطان محمود الثاني وتوليته العرش

السلطان محمود الثاني هو الابن الصغير للسلطان عبد الحميد الأوَّل، وأمه السلطانة نقش ديل[1]، وُلِد في (13 رمضان سنة 1199ه= 20 يوليو سنة 1785م)[2]، وارتقى عرش السلطنة العثمانيَّة في (25 جمادى الأولى سنة 1223ه= 18 يوليو 1808م)[3]، وكان عندئذٍ في الثالثة والعشرين من العمر[4]، وقيل: كان في الرابعة والعشرين[5]، وهو آخر من تبقَّى من آل عثمان على قيد الحياة[6]، وهو جدُّ جميع العثمانيِّين المتواجدين الآن، ولا يوجد سلالة مستمرَّة من سلطان يسبقه، كان شاعرًا وخطَّاطًا عظيمًا[7]، اشتهر بإصلاحاته، وقد عدَّه بعض المؤرِّخين أعظم سلطانٍ بعد وفاة السلطان سليمان القانوني إلى نهاية الدولة العثمانيَّة، ولكن انتقده البعض بسبب تقليده للغرب[8].

إصلاحات السلطان محمود الثاني

تميَّز عهد السلطان محمود الثاني العثماني ببعض الإصلاحات الهامة التي أسهمت في ارتفاع منحنى الدولة العثمانية بعد هبوط أسهمها في فترات كبيرة قبله، فكان عهده بمثابة ارتفاع بين سقوطين، ومن تلك الإصلاحات:

إلغاء نظام الإنكشارية

الإنكشارية هم أفراد الجيش العثماني الذي أنشأه السلطان أورخان لتدريبهم على فنون الحرب والقتال من أجل الدفاع عن الدولة العثمانيَّة، وبالفعل أبلوا بلاءً حسنًا في كافَّة المعارك التي خاضها العثمانيُّون إبَّان قوَّتهم، ولكنَّهم مع مرور الزمن بدأ الوهن يتسرَّب إلى صفوفهم وفسدت طبيعتهم وتغيَّرت أخلاقهم، وأصبحوا مصدرًا للبلاء للدولة العثمانية وشعوبها، وصاروا يتدخَّلون في شئون الدولة، وتعلَّقت إفئدتهم بشهوة السلطة، وانغمسوا في الملذَّات والمحرَّمات، ومالوا إلى النهب والسلب عند غزو البلاد، كما قاموا بقتل وخلع بعض السلاطين، وقد استمرُّوا في دأبهم هذا إلى أن قيَّض الله للسلطان محمود الثاني عام (1241ه= 1826م) التخلُّص منهم، فسلَّط عليهم المدفعيَّة فدمَّرتهم وانتهى أمرهم[9]، وللتوسع والاستزادة من المعلومات عن كيفية إنهائه لفرقة الإنكشارية يمكنك مطالعة مقال: «الإنكشارية والنهاية المأساوية .. قصة نهاية أقوى فرقة عسكرية في زمانها»..

إصلاحات أخرى

بدأ السلطان محمود الثاني حركته الإصلاحيَّة بإحداث سلسلةٍ من التغييرات؛ فبعد إلغاء نظام الإنكشارية أخذ في ترتيب وتنظيم جيشٍ جديدٍ على أساس التجنيد العسكري الإجباري، وأطلق عليه اسم العساكر المحمديَّة المنصورة، كما طوَّر في الجهاز الإداري للدولة، وأنشأ مكتبًا للترجمة، وأعاد افتتاح السفارات في العواصم الأوروبِّيَّة، كما وضع الأوقاف تحت إشرافه، وأنشأ مجلس الأحكام العدليَّة، وعمل -أيضًا- على تطوير الحقل التعليمي؛ فأرسل الطلاب إلى الخارج في بعثات دراسيَّة، وأسَّس مدرسةً للطب، وأنشأ نظام الحجر الصحي، كما قام بأوَّل إحصاءٍ للسكَّان في عام (1246ه= 1830م).

كما عمل السلطان محمود على تغيير العادات القديمة بتطبيق العادات الأوروبِّيَّة؛ فقلَّد الأوروبِّيِّين في ملبسه وشكله؛ فقصَّ لحيته وارتدى الطربوش والبنطلون بدلًا من العمامة، كما حاول تحسين أوضاع الرعايا النصارى، وأعلن نفسه نصيرًا للتسامح، وغير ذلك من الإصلاحات التي وإن كانت لم تؤدِّ إلى استعادة الدولة قدرتها على الانتصار في صراعها مع أعدائها، إلَّا أنَّ قيمتها تكمن في أنَّ السلطان محمود الثاني قد فتح باب الإصلاح وأصبح بعد ذلك من المستحيل إغلاقه[10].

الحروب في عهد السلطان محمود الثاني

واجه السلطان محمود الثاني في مستهلِّ حياته السياسيَّة أزماتٍ عدَّةً خطرة، وامتلأ عهده بالحروب التي امتصَّت معظم جهوده، أهمها:

الحرب مع روسيا

في (24 ربيع الثاني من سنة 1224ه= 8 يوليو من سنة 1809م) عقد السلطان محمود الثاني صلحًا مع إنجلترا من أجل التفرُّغ للشئون الداخليَّة، وحاول -أيضًا- عقد اتِّفاقٍ مماثلٍ مع روسيا ولكنَّه فشل، ومِن ثَمَّ اشتعلت نار الحرب بينهما، ولكن في هذه الأثناء ساءت العلاقات بين روسيا وفرنسا ممَّا جعل روسيا تطلب الصلح مع الدولة العثمانيَّة فعُقِدت بينهما معاهدة بوخارست في (16 جمادى الأولى سنة 1227ه= 28 مايو سنة 1812م) التي نصَّت على بقاء الأفلاق والبغدان وبلاد الصرب تابعةً للدولة العثمانية[11].

ثورة الصرب

لمـَّا عَلِم الصربيُّون بمعاهدة بوخارست القاضية بإعادة خضوعهم للدولة العثمانيَّة، ثاروا غير أنَّ القوات العثمانية أخضعتهم بالقوَّة، وفرَّ زعماء الحركة إلى النمسا إلَّا أنَّ أحدهم -وهو ثيودورفتش- أظهر الولاء للعثمانيِّين وخضع للسلطة العثمانيَّة، وحصل على الحكم الذاتي في عام (1231ه= 1816م)[12].

الحركة الوهابية

الحركة الوهَّابيَّة تُنسب إلى الشيخ محمد بن عبد الوهاب المولود في العيينة من بلاد نجد سنة (1115ه= 1703م)، وقد درس العلوم الإسلاميَّة أثناء ذهابه إلى أصفهان، وتعمَّق في تفسير القرآن، ثم عاد إلى بلاده نجد فحقَّقت دعوته الوهَّابِّيَّة نجاحًا كبيرًا، ثم غادر بلده ونزل الدرعيَّة فرحب به وبفكرته أميرها محمد بن سعود، فأنشأ ابن عبد الوهاب مذهبًا مستقلًّا له ودخل الناس فيه بكثرة، وشاع أمره في نجد والأحساء والقطيف وكثير من بلاد العرب، كما نجح الوهابيُّون في السيطرة على مكة والطائف والمدينة المنورة، وهو الأمر الذي أثار الدولة العثمانيَّة، فساقت لهم واليها على مصر حينذاك محمد علي باشا الذي نجح بدوره في القضاء على حركتهم في سنة (1233ه= 1818م) بعد حرب دامت بينهم نحو عشرين عامًا[13].

ثورة اليونان

ما إن أُخمدت الحركة الوهابية حتى ثار أهل اليونان ضدَّ الدولة العثمانية بتحريضٍ من روسيا والنمسا وبتشجيعٍ من الجمعيَّات السرِّيَّة، فكلَّف السلطان محمودُ الثاني محمدَ علي باشا بإخضاع ثورتهم، وبالفعل استطاعت جيوش محمد علي أن تُسيطر على المورة وأن تفتح مدينة نافارين في عام (1240ه= 1824م)، وأن تدخل أثينا بعدها في عام (1241ه= 1826م) لكن تدخلت الدول الأوروبِّيَّة بحجَّة حماية اليونان، فتمخَّض هذا التدخل عن منح اليونان استقلالًا ذاتيًّا ثم استقلالًا تامًّا[14].

الحركات الانفصالية في داخل الدولة العثمانية

واجه السلطان محمود الثاني حتى نهاية حياته بعض الحركات الانفصاليَّة داخل الدولة؛ منها احتلال محمد علي لبلاد الشام الذي أسفر في النهاية عن تدخل الدول الأوروبِّيَّة وتوسُّطها في عقد اتفاقية كوتاهية عام (1248ه= 1833م) بين محمد علي وبين الدولة العثمانيَّة، والتي تنازل بموجبها السلطان العثماني عن كامل بلاد الشام.
وواجه -أيضًا- السلطان محمود بعض الحركات الأخرى التي تمكَّن من القضاء عليها؛ مثل: حركة علي باشا والي يانينا (يازما)، وحركة باسفان أوغلو والأعيان في الأناضول، والمماليك في العراق، والقرمنليَّة في ليبيا، ومختلف عصبيات وزعامات الشام، ولكن في آخر أيَّام السلطان محمود استطاع محمد علي أن يهزم الجيش العثماني في معركة نزيب عام (1255ه= 1839م)، وقد تُوفِّي السلطان محمود قبل أن تصل إليه أنباء المعركة[15].

وفاة السلطان محمود الثاني

كان السلطان محمود الثاني على فراش الموت أثناء هزيمة معركة نزيب، غير أنَّه تُوفِّي بعد المعركة بسبعة أيَّامٍ في (جمادى الأولى 1255ه= يوليو 1839م)[16]، بعد أن جلس على سرير السلطنة 32 عامًا[17]، وكان شجاعًا عاقلًا عادلًا يُحبُّ الرعيَّة رحمه الله رحمةً واسعة[18]، وكان له من الأولاد ثلاثة وعشرون[19].


[1] أحمد آق كوندز، سعيد أوزتورك: الدولة العثمانية المجهولة، وقف البحوث العثمانية، إستانبول، 2008، ص383.
[2] محمد فريد: تاريخ الدولة العلية العثمانية، تحقيق: إحسان حقي، دار النفائس، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 1401هـ= 1981م، ص398.
[3] أحمد آق كوندز، سعيد أوزتورك: الدولة العثمانية المجهولة، ص383.
[4] محمد سهيل طقوش: تاريخ العثمانيين، دار النفائس، الطبعة الثالثة، 1434هـ= 2013م، ص327، ويلماز أوزتونا: تاريخ الدولة العثمانية، ترجمة عدنان محمود سليمان، مراجعة وتنقيح: محمود الأنصاري، مؤسسة فيصل للتمويل، تركيا، إستنابول، 1988م، 1/ 664.
[5] إبراهيم بك حليم: تاريخ الدولة العثمانية العلية (التحفة الحليمية في تاريخ الدولة العلية)، مؤسسة الكتب الثقافية، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 1408ه= 1988م، ص206.
[6] أحمد عبد الرحيم مصطفى: أصول التاريخ العثماني، دار الشروق، القاهرة، الطبعة الثانية، 1406هـ= 1986م، ص187.
[7] يلماز أوزتونا: تاريخ الدولة العثمانية، 1/ 664.
[8] أحمد آق كوندز، سعيد أوزتورك: الدولة العثمانية المجهولة، ص383.
[9] علي حسون: تاريخ الدولة العثمانية، المكتب الإسلامي، بيروت، الطبعة الثالثة، 1415= 1994م، ص106- 108.
[10] محمد سهيل طقوش: تاريخ العثمانيين، دار النفائس، الطبعة الثالثة، 1434هـ= 2013م، ص327- 334، وإسماعيل ياغي: الدولة العثمانية في التاريخ الإسلامي الحديث، مكتبة العبيكان، الطبعة الثانية، 1998م، ص133.
[11] محمد فريد: تاريخ الدولة العلية العثمانية، تحقيق: إحسان حقي، دار النفائس، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 1401هـ= 1981م، ص400، 401، ومحمد سهيل طقوش: تاريخ العثمانيين، ص334- 336، وإسماعيل ياغي: الدولة العثمانية في التاريخ الإسلامي الحديث، ص128.
[12] محمد فريد: تاريخ الدولة العلية العثمانية، ص402، 403، وإسماعيل ياغي: الدولة العثمانية في التاريخ الإسلامي الحديث، ص128.
[13] محمد فريد: تاريخ الدولة العلية العثمانية، ص404، وعلى حسون: تاريخ الدولة العثمانية، ص164- 166، ومحمد سهيل طقوش: تاريخ العثمانيين، ص347- 349.
[14] إسماعيل ياغي: الدولة العثمانية في التاريخ الإسلامي الحديث، ص130، وأحمد عبد الرحيم مصطفى: أصول التاريخ العثماني، ص188.
[15] أحمد عبد الرحيم مصطفى: أصول التاريخ العثماني، ص188، وإسماعيل ياغي: الدولة العثمانية في التاريخ الإسلامي الحديث، ص131، 132، ومحمد سهيل طقوش: تاريخ العثمانيين، ص359.
[16] أحمد آق كوندز، سعيد أوزتورك: الدولة العثمانية المجهولة، ص388.
[17] إبراهيم بك حليم: تاريخ الدولة العثمانية العلية (التحفة الحليمية في تاريخ الدولة العلية)، مؤسسة الكتب الثقافية، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 1408هـ= 1988م، ص206، عزتلو يوسف بك آصاف: تاريخ سلاطين بني عثمان، تقديم: محمد زينهم محمد عزب، مكتبة مدبولي، القاهرة، الطبعة الأولى، 1415هـ= 1995م، ص119.
[18] عزتلو يوسف بك آصاف: تاريخ سلاطين بني عثمان، ص119.
[19] أحمد آق كوندز، سعيد أوزتورك: الدولة العثمانية المجهولة، ص388.
- قصة الإسلام .