نشأة الحركة العلمية في مدينة الحلة
أضحت مدينة الحلة ومنذ تمصيرها على يد الأمير سيف الدولة صدقة بن منصور بن دبيس المزيدي الأسدي سنة (495هـ) واحدة من أبرز الحواضر الإسلامية, ُحيث شَكّلَتْ ثقلاً علمياً، وسياسياً, واقتصادياً، وعسكرياً.
وقد وصفها العديد من الرحالة العرب الذين زاروها ومنهم إبن جبير بقوله: "ولهذه المدينة أسواق حفيلة جامعة للمرافق المدنية والصناعات الضرورية, وهي قوية العمارة, كثيرة الخلق, متصلة الحدائق بها داخلاً وخارجاً, فديارها بين حدائق النخيل, وألفينا بها جسراً عظيماً معقوداً على مراكب كبار".
وذكرها الرحالة إبن بطوطة بقوله: "وهي مدينة كبيرة مستطيلة مع الفرات, وهو بشرقيها, ولها أسواق حسنة جامعة للمرافق والصناعات, وهي كثيرة العمارة وحدائق النخيل منتظمة بها داخلاً وخارجاً".
تقف وراء عملية التطور العلمي والفكري لمدينة الحلة، مجموعة عوامل جعلتها ترتقي الى مستوى المدن الكبرى المزدهرة علمياً وضاهتها على الرغم من أنها لم تكن عاصمة دينية، مثل مكة المكرمة والمدينة المنورة, ولم تكن عاصمة سياسية مثل بغداد ودمشق, لكن ازدهارها وتميزها كان بفضل أبنائها من العلماء والفقهاء والأدباء والشعراء الذين أبدعوا إبداعاً كبيراً, من خلال مؤلفاتهم المتعددة والمتنوعة التي ما زالت تدرّس في الحوزات العلمية, والجامعات الأكاديمية الى يومنا هذا، وستبقى إن شاء الله.
ومن العوامل التي ساعدت كذلك على ازدهار الحركة العلمية في مدينة الحلة :
العامل الاجتماعي: فقد عُرف عن بني مزيد الكرم، والجود، والشجاعة، وحسن الضيافة، مما جعلت الفقهاء، والأدباء، والشعراء يشدون رحالهم الى مدينة الحلة، للإنتهال من علومها، وقد وصف العماد الاصبهاني بني مزيد بقوله: "ملوك العرب وأمراؤها بنو مزيد الأسديون النازلون بالحلة السيفية على الفرات, كانوا ملجأ اللاجئين, وثمال الراجين, وموئل المعتفين, وكنف.
وقد أشاد الكثير من العلماء والمؤرخين بدور الأمراء المزيديين في تطوير الحركة العلمية في مدينة الحلة، فقال إبن نما الحلي في وصف دور سيف الدولة: " وسمعت عن كمال الملك أبي البدر سعد بن الحسين أنه كمل ما يخرج من أمواله إلى الوفاد والشعراء والندماء, وفي رسوم الراتبة, والصلات العارضة, والمطابخ, والمضيف, فكان ينفق في كل سنة ستين ألف دينار", وذكر ابن الطقطقي الحلي، الأمير دبيس بن صدقة بقوله " وكان دبيس بن صدقة أحد أجواد الدنيا, كان صاحب الدار والجار والحمى والذمار, وكانت أيامه أعياداً, وكانت الحلة في زمانه محط الرحال, وملجأ بني الآمال, ومأوى الطريد, ومعتصم الخائف الشريد ".المستضعفين, تشد إليهم رحال الآمال", ووصف الأمير صدقة بن منصور مؤسس الحلة السيفية بقوله: " كان جليل القدر, جميل الذكر, جزيل الوفر للوفد, مجداً في حراسة قانون المجد, له دار الضيافة التي ينفق عليها الأموال الألوف, ويردها ويصدر عنها الضيوف, المعروف بإسداء المعروف، وإغاثة الملهوف, من دخل بلده أمن مما كان يخافه, ودرت لرجائه بجوده أخلاقه ".
ومن هذه النصوص يتبين لنا أن قوة الإمارة المزيدية, وشجاعة وكرم أمرائها، ورعاية أمرائها للشعراء والأدباء والعلماء القادمين إلى مدينة الحلة، وأبنائها, وتوفيرهم الأمن والجو السياسي الهادئ ساعد على ازدهار الحركة العلمية في مدينة الحلة.
العامل السياسي: وبعد انتهاء الإمارة المزيدية, أصبحت مدينة الحلة ضمن سيطرة العباسيين, تُعَيّنْ عليها العمال لإدارة شؤونها, وقد توافق ذلك مع بداية ضعف السلاجقة, وبدأ العباسيون تصحيح سلطتهم السياسية، والإدارية واستمر ذلك حتى نهايتهم سنة (656هـ).
مرت مدينة الحلة في الفترة المحصورة ما بين انتهاء الإمارة المزيدية واحتلال المغول لمدينة بغداد سنة (656هـ), بمرحلة نزاع على تولي السلطة, فتولاها عمال بني العباس تارة، وعمال السلاجقة تارة أخرى.
وعلى الرغم من التوتر السياسي الذي عاشت فيه مدينة الحلة, بعد انتهاء الإمارة المزيدية, فإن الحركة العلمية دامت مزدهرة، ويعود الفضل إلى دور العلماء الحليين الذين حافظوا على النهضة العلمية والأدبية.
وعندما بدأ الغزو المغولي على العراق, قام أهالي الحلة والكوفة بالنزوح من مدنهم, فتوجه عدد من أكابرهم من العلويين والفقهاء، مع مجد الدين بن طاووس العلوي, إلى السلطان المغولي, وسألوه حقن دمائهم, فأجابهم إلى ذلك, وعين لهم حاكماً عسكرياً, فسلمت بذلك مدينة الحلة بجهود علمائها وفقهائها, روى ذلك العلامة الحلي: " لما وصل السلطان هولاكو إلى بغداد, قبل أن يفتحها, هرب أكثر أهل الحلة إلى البطائح إلا القليل, وكان من جملة القليل والدي (رحمه الله), والسيد مجد الدين بن طاووس, والفقيه ابن أبي المعز، فأجمعوا رأيهم على مكاتبة السلطان بأنهم مطيعون داخلون تحت الإيلية, وانفذوا به شخصاً أعجمياً, فأنفذ إليهم السلطان فرماناً مع شخصين أحدهما يقال له (تُكلْم) والآخر يقال له (علاء الدين) وقال لهما: إن كانت قلوبهم كما وردت به كتبهم فيحضرون إلينا, فجاء الأميران, فخافوا لعدم معرفتهم بما ينتهي إليه الحال, فقال والدي (رحمه الله): إن جئت وحدي كفى؟ فقالا ! نعم, فركب معهما, ولما حضر أمام السلطان وكان ذلك قبل فتح بغداد, وقبل مقتل الخليفة, قال له: كيف أقدمتم على مكاتبتي والحضور عندي قبل أن تعلموا ما ينتهي إليه أمري وأمر صاحبكم؟ وكيف تأمنون إن صالحني ورحلت نقمته؟ وكان يقصد الحاكم العباسي، فقال له والدي: إنما أقدمنا على ذلك لأنا روينا عن إمامنا علي بن أبي طالب(عليه السلام), أنه قال في بعض خطبه: الزوراء وما أدراك ما الزوراء... فلما وصف لنا ذلك ووجدنا الصفات فيكم, رجوناك فقصدناك, فطيّب قلوبهم, وكتب لهم فرماناً باسم والدي يطيّب فيه قلوب أهل الحلة وأعمالها" .
بهذه الصورة بقيت الحلة آمنة من مضاعفات النكبة التي حلت بسائر البلاد, فيما أخذت تستقطب المهاجرين من بغداد, بضمنهم العلماء، والأساتذة، وطلبة العلم, وقد انتقل معهم قسم من النشاط العلمي من بغداد إلى الحلة, وأسست فيها حوزة علمية لمع في سمائها الفكري فقهاء كبار.
بقيت الحلة خاضعة للسلطة المغولية, حتى تمكن الجلائريون من السيطرة عليها بقيادة الشيخ حسن الجلائري, واستمر حكم الجلائريين لمدينة الحلة ما يقارب التسعين عاماً انتهت عام (813هـ), ولقد عانت فيها مدينة الحلة من حدة الصراع بين الجلائريين وتيمور لنك.
وعلى الرغم من الظروف السيئة سياسياً التي مَرّتْ بها مدينة الحلة، وبعد سقوط الإمارة المزيدية, لكن ذلك لم يؤثر على ازدهار الحركة العلمية فيها خلال القرنين السابع والثامن الهجريين, ويعود ذلك إلى دور علماء الحلة الذين استمروا في عطائهم العلمي .
العامل الجغرافي والإقتصادي: إن للموقع الجغرافي لمدينة الحلة الذي يتوسط بغداد وواسط, والكوفة وكربلاء, أثراً كبيراً في ازدهارها, حيث أصبحت بذلك، الطريق الرئيس للحجاج من العراق إلى مكة المكرمة, وقد اهتم بها, الناصر لدين الله العباسي وبنى فيها جسراً سنة (580هـ).
كذلك جاء في وصف مدينة الحلة بأنها مدينة زراعية وإن (حدائق النخيل منتظمة بها داخلاً وخارجاً ودورها بين الحدائق).
إن الإزدهار الزراعي لمدينة الحلة, أفاد منه أبناؤها في الجانب العلمي إفادة جمة, فعند احتلال المغول لبغداد, يقول صاحب الحوادث: " كان أهل الحلة والكوفة والمسيب يجلبون إلى بغداد الأطعمة, فانتفع الناس بذلك, وكانوا يبتاعون بأثمانها الكتب النفيسة".
وهذا دليل على مدى حب أهل الحلة وأبنائها للعلم, فغذاء العقل عندهم خير من غذاء الجسد, فبادلوا الطعام والسلع, بالكتب النفيسة, مما ساعد ذلك على ازدهار الحركة العلمية في هذه المدينة .
اعلام مركز تراث الحلة