شناشيل حلية... سحر المكان وعذوبة الزمان

تعتبر الشناشيل من الظواهر المألوفة في البيوت التراثية الحلية ومن معالمها الإسلامية المميزة ، وهي الشرفات الخشبية المزخرفة المعلقة والمصطفة على الطريق العام ، حيث توفر مظلّة يحتمي بها المشاة من شمس الصيف وأمطار الشتاء، وفي بيوت الميسورين تتحول الشناشيل إلى قطع فنية رائعة، وذلك لجمال نقوشها الخشبية التي تتخللها قطع زجاجية صغيرة ملونة .

يذكر الدكتور رؤوف الأنصاري أنه جاء في فرهنك جديد ( المعجم الجديد ) لفريدون كار ، فارسي ـ فارسي أن الشناشيل كلمة فارسية مركبة من ( شاه نشين ) بمعنى محل جلوس الشاه ، ويذكر اللغوي والمؤرخ العراقي الدكتور مصطفى جواد: أن الشناشيل يطلق عليها أيضاً الأجنحة والرواشين ، مفردها روشن ، وهي لفظة فارسية ومعناها الضوء .
وقد انتقل هذا الفن المعماري الجميل والرائع من مدينة البصرة إلى باقي المدن العراقية الأخرى وبالخصوص المناطق الجنوبية والوسطى منها، وكانت مدينة الحلة من أكثر المدن تأثراً بالشناشيل في تزيين واجهات عمائرها وبيوتاتها خلال العهود الإسلامية .
تشيد الشناشيل أساساً على قسم من بناء الطابق الأول يضاف إلى المساحة الأساسية للبيت ، وذلك عن طريق احداث بروز يستند إلى روافد خشبية أو معدنية ، وعندما يتسع البروز نسبياً ، يعمد المعمار إلى تدرج ألواح الخشب أو الروافد ، ليمكنه من الحصول على نقاط إسناد قوية تشيّد فوقها الشناشيل، ويبلغ البروز عادةً متراً واحداً أو أكثر قليلا .

ويتم صنع الشناشيل من الخشب بدلاً من الطابوق ( الآجر ) أو الحديد، للتغلب على مشاكل الثقل في توسعة البناء، وكذلك مساعدة الخشب في تحقيق برودة الجو الداخلي للغرف عن طريق تقليل كمية الحرارة الواصلة إلى البيت ، دون أن تمنع الضوء والهواء من الوصول إلى غرف الشناشيل من خلال الفتحات الخارجية المشبّكة، وكذلك لتحفظ للسكان حرمتهم وخصوصيتهم، فهي مصممة لحجب الرؤية من الخارج للجالسين في هذه الشرفات أو الغرف الملحقة بها .

ومن الظواهر المألوفة الأخرى في البيوت التراثية ما يعرف بالأرسي ( الشبابيك الخشبية المزخرفة )، التي تفتح وتغلق برفعها إلى الأعلى والأسفل . وتتخلل الأرسي أحياناً الأبجورات وهي شبابيك صغيرة شبيهة بالأبواب تغطيها مقاطع من الخشب المائل المشبّك لدخول الهواء وحجب الضوء.

وقد تعود هذه الشناشيل الحلية إلى العشرينيات من القرن الماضي حيث كان يسمى بـ(الركوكو) والمبني بطريقة كلاسيكية رائعة الجمال والقياس حيث يظهر وبشكل جلي دقة الحرفي آنذاك وحتى الأعمدة ( الآيونيك) الملونة بتلوينات ساحرة، وأحيانا تجد في بناء الشناشيل كيانا جماليا تشم فيه رائحة الشعر وسحر الهندسة المعمارية. ويبدو أن هناك خصوصية لكل عمل من الشناشيل يعتمد بالأساس على قدرة الفنان القديم من خلال فهمه لروح التراث والفولكلور، لأنه يدرك جيدا طبيعة عمله وصولا إلى العمل بالزخارف الإسلامية حيث منحت فضاءاته اسلوبية غاية بالغناء التراثي الإسلامي.. اضافة إلى ذلك تجد الطرز الزخرفية لواجهات الأبنية المستقيمة والمسطحة بشكلها العام هي طرز هجينة (عراقية ـ اوربية) من الزخرفة المحلية إلى ما يسمى بـ(الركوكو) أو (الارت نوفو) أو (الارت ديكور)، ومن الممكن أن هذه الزخارف جاءت إلينا عن طريق التأثيرات الاوربية عبر بعض المهندسين العرب والأجانب وكذلك من خلال المجلات المعمارية التي كانت تصل إلينا آنذاك، إلا أن هذا الرأي لا يستطيع الوقوف أمام تاريخ بناء الشناشيل التي يرجع بعضها إلى بدايات العصر العباسي، والبعض الآخر إلى العصر العثماني، فضلاً عن شناشيل العصر الحديث، مع نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. ومع عدم وجود الأدلة والوثائق، إلا أن هناك من يقول إن هذه الطرز ذات الطابع المتميز والفريد تعود إلى الحضارات السومرية والأكدية والآشورية والبابلية مروراً بعصر صدر الإسلام والعصرين العباسي والعثماني، بسبب آثارالبنائين الذين عرفوا منذ تلك العصور أولاً، ومزايا البيئة العراقية التي تنعكس على الواقع الفني والمعماري العراقي. كما أن زخرفة الخشب (الشناشيل) هواية العراقيين القديمة، إذ يحكي أحد البنائين الذين ورثوا هذه المهنة أن جده يروي له ما كان أجداده يتناقلونه جيلاً بعد جيل، من أن العراقيين كانوا يستوردون أنواعاً خاصة من الخشب من الهند، ومن ثمَّ يقومون بزخرفته وبناء شناشيلهم، التي هي صنعة عراقية الجذور.

ومن جانب آخر يشير بعض الباحثين إلى أن هذه الطرز موجودة مع البناء العراقي منذ أقدم العهود، ولكن في العهد الإسلامي حدث تفاعل ما بين خصائص بغداد وخصائص البلدان الإسلامية المرتبطة بالخلافة الإسلامية، ممّا أدى إلى تعزيز بعض العناصر الوظيفية والجمالية لهذه الشبابيك، فهي الهوية الأساسية للبناء العراقي التي تبلورت في العصر العباسي، إلا أن بعض التأثيرات البسيطة الجزئية طرأت عليها في الفترات اللاحقة للعصر العباسي.
وإضافة إلى الفوائد الوظيفية التي تضفيها الشناشيل على البيوت، فأن لها جمالية تظهر في الزخرفة بأشكالها المختلفة، نباتية وهندسية، فهي تضفي الجو العاطفي ، نتيجة لتسرب أشعة الشمس من خلال الزجاج الملون، ليضيف ذلك على البيت جمالاً وتلويناً.


وتمتاز العديد من البيوت التراثية الحلية بوجود البنجرات وهي عبارة عن قضبان حديدية ذات أشكال زخرفية جميلة تصّف عمودياً وتثبّت من الأعلى إلى خشبة مرتكزة في أعلى الشباك وأخرى تستند إلى قاعدة الشباك ، وفي فصل الصيف كانت تصّف أواني الماء الفخارية على هذه البنجرات ، ليقوم الهواء الخارجي بتبريد الماء الموجود في داخلها .
كما أن تصاميمها تمنع دخول أشعة الشمس بصورة مباشرة إلى المنزل، ويتم ذلك بواسطة النوافذ ذات المشبكات الخشبية المثلثة ، فضلاً عن توفيرها الظل للزقاق أو الشارع، وبذلك كانت طريقة مناسبة للتخفيف من حرارة البيوت في المناخ العراقي الملتهب صيفاً.

وكذلك أسهم الخشب الذي يشيّد منه الشناشيل في التخفيف من وزن الأبنية آنذاك، أي أن سهولة التعامل مع الخشب في مجال العمارة والنقوش أدت إلى تنوع أشكال الشناشيل ومحتواها.
إن وضع الشناشيل في الطابق العلوي من المنزل أدى إلى تقارب سكان البيوت، بحيث يسمح للعائلات بتبادل التحيات والأخبار وشتى الأحاديث من خلالها، مما أثر على تقارب العلاقات الاجتماعية فيما بينهم،ومن بين المحلات التي كانت تزينها هذه الشناشيل المهدية والتعيس والاكراد وغيرها.
ومن اشهر البنائين الذين برعوا في هذه الصنعة في الحلة حسين فنفخ، وعلي بكه، وعباس شدهة، وهاشم مطر أبو حبال، ومحمد عاشور، وأحمد حنفوش، والحاج كيفي، وعباس القيسي وغيرهم.
إن الشناشيل تمثل مزيجاً بين الفن والعمارة والحضارة، التي خلدت إرثاً معمارياً حليا جميلاً، ولكن هذا الإرث قد أصابه الخراب على مر الأيام وبانتظار من يعيده إلى الحياة.



اعلام مركز تراث الحلة