دور الحلة المشرق في ثورة العشرين

تعد ثورة (١٩٢٠م) الكبرى في تاريخ العراق المعاصر، لما تميزت به من مشاركة شعبية كبيرة من مختلف المناطق، وقطاعات الشعب من رجال الدين وأهل المدن والعشائر ضد المحتلين الأجانب، فكانت باكورة الانطلاق في تكوين الوعي السياسي الوطني الحديث.
ويمكن إجمال أسباب الثورة إلى المد الثوري العربي في محاربة المحتل كثورة الشريف حسين عام (١٩١٦م)، وثورة مصر(١٩١٩م)، وحركات التحرر العالمية ضد سياسة الانتداب التي اتبعها الحلفاء، وسوء الإدارة وما رافقها من قمع وترهيب ونفي وتنكيل، واستغلال واردات البلد وفرض الضرائب، ودور مراجع الدين في النهوض بالوحدة الوطنية ومقاومة المحتل، وخاصة فتاوى الإمام الشيخ محمد تقي الشيرازي التي كان لها الأثر الكبير في ردع المحتل، والتهيئة للثورة وعدم الخروج عن مسارها الصحيح، إضافة إلى تأثير الأحزاب والجمعيات الوطنية في إثارة الوعي الوطني، فكانت هذه الأسباب مجتمعة، وبعد انتشار عمليات التعبئة والاستعدادات للثورة في مدن الفرات الأوسط وخاصة في مدينة الحلة الشرارة الأولى للثورة، ففي نهاية شهر رمضان وزعت منشورات في السوق الكبير في الحلة دعت إلى القيام بوجه الحكومة في حملة شعواء على جميع المتصلين بالبريطانيين، واعتلى المنبر الشيخ (محمد شهيب) لتلاوة رسالة الشيخ الشيرازي، وتتابعت بعدها الكلمات الحماسية التي ألقاها محمد الشيخ عبد الحسين، ورؤوف الأمين (زعيم حرس الاستقلال في الحلة) وعبد السلام الحافظ (خطيب أهل السنة)، وكلها كانت تدعو إلى تحقيق استقلال العراق وتعيين أحد أنجال الشريف حسين ملكاً عليه، فانتشر صداها بين قبائل الفرات الأوسط والمدن الأخرى، وحين سمع حاكم الحلة السياسي البريطاني (بولي) تلك الأنباء أرسل مساعده (خيري الهنداوي) إلى المحتشدين، إلا أن الأخير غلبت مشاعره الوطنية فوقف إلى جانب المحتشدين، فاعتقل الهنداوي ورؤوف الأمين وعبد السلام الحافظ وغيرهم ونفوا إلى جزيرة (هنجام)، مما أدى إلى الهياج الشعبي في الحلة والمدن المحاذية لها.

مشائخ ثورة العشرين في الحلة
وتم عقد مؤتمر للشيوخ في الشامية في مضيف الشيخ كاظم الحاج سكر، حضره الشاعر محمد باقر الحلي الذي أنشد قصيدة وطنية مؤثرة، وكتب المجتمعون عريضة إلى الحاكم البريطاني(نوبري)، طالبوا فيها بالإفراج عن المعتقلين والاحتجاج على نفي ابن الشيرازي، ولكن هذه المطالب لم تجد أذناً صاغية، فاشتعلت الثورة في الرميثة إلى الشامية والحلة والكوفة، ثم انتشرت في مناطق العراق كافة.

الإمام المجاهد محمد تقي الشيرازي
لذلك قرر قادة الثورة إيفاد الشيخ صلال الموح، والشيخ شعلان العطية إلى عشائر البو سلطان لحثهم على الإسهام في الثورة، فذهبوا إلى الشيخ شخير والشيخ حنتوش ابنيّ عباس أل هيمص والشيخ دليمي البراك شيخ البو مساعد عشيرة البو سلطان فكانت استجابتهم عالية، وفي معركة القطار كان الثوار يطاردون البريطانيين المنسحبين في القطار مع كامل المعدات وفي منطقة الجربوعية، حاصر الثوار القطار الذي وصل المنطقة لمدة عشرة أيام بعد انضمام عشائر الجبور اليهم، وجرت معركة عنيفة انتصر فيها الثوار على القوات البريطانية في ٢٥ تموز(١٩٢٠م)، وتكبد البريطانيون خسائر فادحة بالأرواح والمعدات، بعد إن سيطرت قوة من عشيرة بني حسن على منطقة الكفل جنوب الحلة مما دعا السلطات المحتلة إلى ارسال قوة كبيرة سميت برتل (مانشستر)، كما وجه القائد البريطاني قائد الحامية في الحلة بإصدار أوامره إلى تلك القوة بمواصلة التقدم نحو الكفل وواصلت القوة سيرها حتى عسكرت عند قناة الرستمية (الرارنجية)، وحين بدى الثوار للعيان، صدرت الأوامر بإطلاق النار عليهم فاستدل الثوار على موقع القوة، وبدأوا بالزحف عليها، بعد ذلك صدرت الأوامر للقوات البريطانية بالانسحاب، بعد أن تكبدت خسائر جسيمة.
وكان من نتائج تلك المعركة جلاء المحتلين من مناطق عديدة في المسيب والهندية، فضلاً عن التحاق عشائر الدغارة وعفك وتحرير بقية المناطق المجاورة لها، فتقدمت العشائر الثائرة نحو الطهمازية، وفي تلك الأثناء استطاعت قبيلة بني حسن تحرير منطقة طويريج (الهندية)، من غير مقاومة، كما اتجهت القبائل الثائرة، بقيادة الشيوخ سماوي الجلوب وعبادي الحسين وعمران الحاج سعدون، وكان هجوم الثوار ضارياً أبدوا فيه بسالة مذهلة وقدموا فيه التضحيات الكبيرة، نتيجة الهجوم الذي تعرض له الثوار من خلال قصف الطائرات البريطانية، واستخدام كافة أنواع الأسلحة ، وتوجهت جموع العشائر الثائرة إلى سدة الهندية، وعد القائد العسكري البريطاني(هالدين) ذلك خطراً على بغداد، وذلك بعد أن هاجم الثوار سكة حديد حلة - بغداد.

القوات البريطانية في مواجهة الثوار
كما نجح الثوار في تحقيق انتصارات في قرية (بنشّة) حيث كبدت قوات الاحتلال البريطاني(170) قتيلاً، ومعركة المچرية التي بلغت فيها خسائر المحتلين (١٢0) قتيلاً، وانتقلت قيادة تلك القوات إلى بغداد، فتعزز موقفها وكثر الاحتياطي لديها، وأبرق تشرشل وزير الحربية البريطانية إلى قائد قواته (السر ايلمر هالدين) في العراق أبلغه فيها وجوب القضاء على الثورة، وتلبية احتياجاته من الجيوش والطائرات، وفي الوقت نفسه لم تصل الثوار أية إمدادات أو ذخائر أو أموال، وجاء احتلال طويريج والالتفاف على قوات الثورة في منطقة (الوند) ومنطقة (الحسينية) ومعارك الكفل فتقدمت القوات البريطانية نحو الكوفة فحدث انكسار للثوار وتفرقت قواهم، والقي القبض على زعماء الثورة وفرّ بعضهم إلى الحجاز ولكن بعض العشائر رفضت إلقاء السلاح مما دفع السلطات البريطانية إلى مفاوضة شيوخ عشائرها، إلا أن ذلك لم يمنع الثوار من مواصلة القتال والتصدي للمحتل في أكثر من واقعة فكان لها الدور الحاسم في إسراع المحتلين البريطانيين في تغيير سياستهم تجاه العراق، وصرف النظر عن حكمهم العسكري، بعد إن كلفتهم الثورة آلاف القتلى والجرحى، وأثقلت كاهل خزانة الدولة البريطانية، لذلك وجد المحتلون أن خير سبيل إلى تجنب المزيد من الخسائر البشرية والمادية إقامة ما سمي بالحكم الوطني، وتأليف حكومة محلية، والإتيان بالأمير فيصل بن الحسين ملكاً على العراق، مكتفين بالاحتفاظ ببعض القواعد العسكرية، بعد تكبيل البلاد بقيود ثقيلة، بموجب معاهدة سنة (1920م)، التي تم بموجبها الهيمنة الفعلية على مقدرات العراق السياسية، والاقتصادية، والعسكرية، والثقافية، وسائر المجالات الأخرى.


اعلام مركز تراث الحلة