مصايف السليمانية.. بوابات تقودك نحو منابع المياه

لندن: معد فياض
هذه الجولة بحاجة إلى عين حية وأذهن مرهفة، عين تتهيأ لالتقاط ملايين الالوان التي تشكل لوحات طبيعية وعذراء عن جبال ووديان تختبئ هنا وهناك من غير أن تسجلها الكثير من خرائط الدنيا، وأذن تستمع لموسيقى روحية تعزفها شلالات المياه المتناثرة هنا وهناك وخرير الانهر التي تغذي سهول شهرزور.
نحن في وسط مدينة السليمانية الواقعة إلى الشمال من بغداد بحوالي 330 كيلومتراً، والتي تعتبر واحدة من اشهر مدن كردستان العراق، وهي ثاني مدينة بعد عاصمة الاقليم أربيل.
من هناك، اعني من وسط هذه المدينة التي تبدو مثل وردة كبيرة تتفتح توا للصباحات السعيدة، نرى ان الجبال تحتضن المدينة من كل ناحية وتلتقي في الجنوب الغربي بمضيق طاسلوجة المؤدي إلى وادي بازيان الممتد الفسيح، وفي جنوبها الشرقي تتصل بمدخل شهرزور المترامي الاطراف.
نترك المدينة عند ساعات الصباح الاولى متسلقين بسيارة ذات دفع رباعي، جبل أزمر، سكان المدينة كلهم تقريبا يتركون بيوتهم صباح يوم الجمعة نحو الوديان الممتدة ما بعد جبل ازمر، وهذه عادة كردية اصيلة، حيث تقضي العوائل الكردية عطلتها الاسبوعية على حافات مياه الوديان والشلالات ليؤثثوا الفراغات بدبكاتهم واغانيهم وموسيقاهم الاصيلة.
بعد 5 كيلومترات سنكون في «بناري كويزه» و«جبل أزمر» ، وهما عبارة عن مرتفعين جميلين، الطقس فيهما معتدل وصاف، من هناك تستطيع ان تلتقط صورة جوية لمدينة السليمانية. في فصل الشتاء يرتادها الزوار للاستمتاع بمنظر تساقط الثلوج، وفي فصل الصيف للاستمتاع بجوها المعتدل ومناظرها الخلابة، فيها طرق مبلطة ومعبدة بصورة هندسية بديعة. وعين الماء الموجودة في أزمر معلم سياحي منذ القدم يرتادها الزوار الآن وأقيم حولها كثير من أماكن الاستراحة والكازينوهات والمطاعم.
نجتاز قمما وننحدر نحو وديان، هناك نلتقي بمشاريع سياحية عملاقة تتأسس توا لمستثمرين محليين وعرب ولشركات لبنانية وفرنسية واسبانية، ذلك ان مؤسسة السياحة في السليمانية تشكلت حديثا «قبل عام» ، حسب ايضاح مها آباد قرة داغي المديرة العامة للمؤسسة، والتي اوضحت لـ «الشرق الأوسط» قائلة: ان المؤسسة بدأت بالتخطيط للسياحة في المدينة وجعلها مصدرا من مصادر الثروة القومية وأكثر الاعمال تعتمد على السياحة، لهذا بدأنا بالتخطيط بثلاث مناطق رئيسية، مشيرة إلى أن المشاريع السياحية تعتمد على الاستثمار والحكومة لا تتدخل في عمل السياحة، هناك استثمارات لشركات محلية وعربية وعالمية، وتقوم شركة لبنانية حاليا ببناء مدينة سياحية متكاملة في منطقة كوسنجق، وحكومة اقليم كردستان تقدم تسهيلات كبيرة للمستثمرين، مثل: تعديل الارض وتهيئتها، اعفاء جمركي لكل ما يستورده المستثمر واعفاء ضريبي لـ 5 سنوات.
ننحدر نحو قرية قلة جولان «قلعة جولان» التي تقع بجوارها عين ماء تدعى «كاني اسكان» بمعنى عين الغزلان، وكان الامراء البابانيون الموجودون في قلاجو الآن يأتون الى هذه المنطقة لصيد الغزلان التي كانت ترتوي من هذه العين وما زالت العين موجودة إلى يومنا هذا.
ما ان نجتاز هذه القلعة حتى تنفتح امامنا الارض واسعة مزهرة بالمياه والالوان والمفاجآت الصورية التي لن تغادر ذاكرة أي شخص، وتنبسط على طرفي الطريق القرى لتتاح لنا فرص الاكتشاف السخية، قرية اثر قرية، نمر بقرية سركلو التي تشكل جزءاً مهماً وخلاباً من اودية «الجاف» الذي يضم في ثناياه بساتين كثيرة ومصادر مياه تضفي على المنطقة ملامح سياحية بديعة، وطقسها معتدل مما جعلها تتمتع بجو ربيعي على مدار السنة، وبها طرق مبلطة ومعبدة بصورة هندسية جميلة، وتقع هذه المنطقة الجميلة في شمال شرقي مدينة السليمانية بالقرب من «قلاجولان» وقد تم مد الطرق إليها بالقرب من شمال غربي سورداش ويقصدها كثير من السياح ايام العطل. اما قرية «ميركة بان» فتقع خلف جبل بيرة مكرونة، على بعد 50 كلم غرب مدينة السليمانية، تكسوها كمية هائلة من الثلوج في فصل الشتاء وكونها منطقة باردة فإنها تبقى مخضرة طوال فصل الربيع، وبالقرب من قرية قزلر، امام اشجار الجوز يمر طريق متموج يصل إلى «رنو» وفي فصل الصيف يقوم عمال الثلج في هذه المنطقة بجلب القوالب الثلجية الى القرى المحيطة بالمنطقة.
العوائل الكردية تتوزع تحت اشجار الجوز وبين كروم العنب وعلى ضاف البحيرات الطبيعية والانهار المسترخية عند سفوح الجبال الصخرية، بحيرات تعكس مياهها الصافية الوان السماء والجبال كمرآة حقيقية لجمال الطبيعة التي لم تمتد نحوها يد الانسان بعد.
نتجه غرب المدينة، وقبل ان نتركها لا بد من زيارة الى ينابيع سرجنار الصافية والتي تقع على بعد 5 كلم جنوب شرقي مركز السليمانية، هناك وعلى طول الينابيع ومجراها تنتشر المطاعم والمقاهي العائلية التي من الصعب ان تجد لك مكاناً فيها خلال الصيف، حيث تضم اكثر من 15 مطعما سياحيا متنوعا، بالاضافة الى الفنادق السياحية والمنشآت والحدائق المقامة لاستراحة السياح. وتضم ايضا مجموعة من الملاعب الخاصة بالاطفال وقاعة اقامة الحفلات وحدائق متنوعة خلابة تثير اعجاب ودهشة السياح.
هناك لا بد من زيارة حديقة نوروز التي انشيءت في مصيف «سرجنار» وافتتحت بعد انتفاضة ربيع 1991، وهي حديقة عامة، وتحوي مجموعة من المرافق السياحية الخلابة، من مطاعم مختلفة، وقاعات، واماكن استراحة، كما تضم ملعبا للاطفال وحديقة حيوانات.
الطريق إلى أحمد آوا: السائح الذي لا يزور مصايف وشلالات أحمد آوا فكأنه ما شاهد اي معلم من معالم الطبيعة الخلابة، تقع منطقة أحمد آوا على مسافة 84 كلم شرق مدينة السليمانية، على مقربة من قضاء خورمال.
الطريق مؤثث بالقرى والحقول الزراعية، نتوقف قليلا في بلدة سيد صادق التي كانت يوما ما مسرحا للعمليات العسكرية والقتال بين قوات النظام السابق وقوات البيشمركة الكردية. يشرح الصحافي الكردي محمد عثمان، الذي رافقني في رحلتي الى منابع المياه قائلا: ان هذه البلدة تم تهديمها من قبل القوات الحكومية عدة مرات ونهضت من جديد، وفي المرة الاخيرة زرعت فيها القوات الحكومية الالغام، في كل بيت لغم، ورغم ذلك عاد السكان اليها وعادت الحياة تجري مثلما ترى.
عند قرية أحمد آوا تنتشر الكابينات والمقاهي السياحية التي تقوم عند ضفتي مجرى مائي ينحدر بحرية وبقوة فوق الصخور. هنا تجمعت العوائل العراقية مناطق مختلفة، من جنوب ووسط وغرب العراق وشماله، مزيج من الاغاني والموسيقى ينطلق من اجهزة التسجيل، ولكن تبقى السيادة للموسيقى الكردية الحية، حيث تتحلق الشابات والشبان حول عازفي الطبل والمزمار لاداء الرقصات الكردية «الدبكة» بأسلوبيها البهدناني والسوراني.
الطريق الى منابع المياه، الى الشلالات غير معبد حتى الآن، هناك سيارات دفع رباعي يقودها رجال من سكان المنطقة تنقل السياح الى القمة، الطريق المتعرج المحاذي لواد سحيق مكسو بالاشجار العالية والمنحدرات المائية لا يعرف اسراره، سوى سكان المنطقة.
قبل ان نصل الى الشلالات سوف يصلنا صوت انحدار المياه بقوة لتتوزع هذه المياه على شكل شلالات قوية تنزل الى الاراضي المنخفضة لتكون شريان حياتها، كلما فوجئت بمنظر ساحر، قال لي عثمان، تمهل لم تر شيئا بعد، وكان محقا، فعندما تسلقنا الصخور نحو القمة، حيث تنفتح في جدار الجبل الصخري الصلب ثغرة كبيرة تعرف باسم «زلم» مع تشديد الزاء واقتراب لفظه الى الضاد بمزجه مع الزاي، من هذه الثغرة تنطلق المياه قوية جبارة وكأنها تعبر عن سعادتها بتحررها من قيود الجبل لتنطلق الى الطبيعة بكل ما فيها من قوة ترافقها اصوات ارتطام المياه في الصخور وكأنها انشودة للحرية الابدية.
كان شعاع الشمس نفسه يغتسل في مياه شلالات أحمد آوا، فيأتي لون المياه فضيا براقا ممزوجا بالضوء المبهر. حتى اشعر بكل ما في هذه المياه من حياة أمد قدمي الى المياه الباردة جدا، نتسلق المنحدر نحو القمة لنكون وجها بوجه مع المغارة التي تندفع منها المياه بأعجوبة. تضم منطقة أحمد آوا، مجموعة من الآثار القديمة من عهد الامير الاردلاني «خان احمد خان» ، وهي موطن اغاني «يوسف آسكة» ، التي عرفت في ما بعد بـ «سياجمانة».