أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر بن عاصم النَمَرِيّ الأندلسي، القرطبي المالكي، المعروف بابن عبد البر (368 هـ - 463هـ)، هو الإمام الفقيه المجتهد الحافظ ومحدث عصره، كان قاضيا ومؤرخا، صاحب التصانيف المهمة، من أشهر أصحابه الإمام علي بن حزم الأندلسي، وكان إماماً، ثقةً، متقناً، علامةً، متبحراً، وكان في أصول الديانة على مذهب أهل السنة والجماعة، وكان في بدايته ظاهريا، ثم تحول مالكيا مع ميل واضح إلى فقه الشافعي في مسائل.

ولادة ابن عبد البر ونشأته
ولد بـ قرطبة عام 368 هـ في شهر ربيع الآخر، وقيل: في جمادى الأولى، فاختلفت الروايات في الشهر عنه، ونشأ بها وتعلّم الفقه والحديث واللغة والتاريخ، ارتحل إلى بطليوس أيام سقوط الدولة الأموية بالأندلس، وعاش بها في كنف أمراء بني الأفطس، وولي قضاء أشبونة وشنترين في مدة المظفر بن الأفطس، أحد أمراء بني الأفطس، ثم تحوّل إلى شرق الأندلس، فنزل ببلنسية ودانية، وطلب العلم بعد سنة 390، وأدرك الكبار، وطال عمره، وعلا سنده، وتكاثر عليه الطلبة، وجمع وصنف، ووثّق وضعّف، وسارت بتصانيفه الركبان، وخضع لعلمه علماء الزمان، وفاته السماع من أبيه الإمام أبي محمد فإنه مات قديما في سنة 380 وكان فقيها عابدا متهجدا، وعاش أبوه خمسين سنة وكان قد تفقه على التجيبي وسمع من أحمد بن مطرف، وأبي عمر بن حزم المؤرخ.

بعض أقوال العلماء في ابن عبد البر
قال الحميدى:ابن عبد البر أبو عمر فقيه حافظ مكثر، عالم بالقراءات وبالخلاف، وبعلوم الحديث والرجال، قديم السماع، يميل في الفقه إلى أقوال الشافعي.

وقال أبو علي الغساني: لم يكن أحد ببلدنا في الحديث مثل قاسم بن محمد، وأحمد بن خالد الجباب. ثم قال أبو علي: ولم يكن ابن عبد البر بدونهما، ولا متخلفا عنهما، وكان من النمر بن قاسط، طل وتقدم، ولزم أبا عمر أحمد بن عبد الملك الفقيه، ولزم أبا الوليد بن الفرضي، ودأب في طلب الحديث، وافتنّ به، وبرع براعة فاق بها من تقدمه من رجال الأندلس، وكان مع تقدمه في علم الأثر وبصره بالفقه والمعاني له بسطة كبيرة في علم الأنساب والأخبار، جلا عن وطنه، فكان في الغرب مدة، ثم تحول إلى شرق الأندلس، فسكن دانية، وبلنسية، وشاطبة وبها توفي. وذكر غير واحد أن أبا عمر ولي قضاء أشبونة مدة .

وقال أبو علي الغساني: ألّف أبو عمر في الموطأ كتبا مفيدة منها : كتاب "التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد" فرتبه على أسماء شيوخ مالك، على حروف المعجم، وهو كتاب لم يتقدمه أحد إلى مثله، وهو سبعون جزءا.

وقال أبو القاسم بن بشكوال:ابن عبد البر إمام عصره، وواحد دهره، يكنى أبا عمر، روى بقرطبة عن خلف بن القاسم، وعبد الوارث بن سفيان، وسعيد بن نصر، وأبي محمد بن عبد المؤمن، وأبي محمد بن أسد، وجماعة يطول ذكرهم. وكتب إليه من المشرق السقطي، والحافظ عبد الغني، وابن سيبخت، وأحمد بن نصر الداودي، وأبو ذر الهروي، وأبو محمد بن النحاس.

وقال أبو علي بن سكرة:سمعت أبا الوليد الباجي يقول : لم يكن بالأندلس مثل أبي عمر بن عبد البر في الحديث، وهو أحفظ أهل المغرب.

قال علي بن حزم الأندلسي:لا أعلم في الكلام على فقه الحديث مثله أصلاً، فكيف أحسن منه، ولصاحبنا أبي عمر ابن عبد البر كتب لا مثيل لها.

ظاهرية ابن عبد البر:
قال الذهبي في كتابه سير أعلام النبلاء:ابن عبد البر كان إماما ديّنا، ثقة، ثبتا، مُتقنا، علامة، مُتبحرا، صاحب سنة واتباع، وكان أولا أثريا ظاهريا فيما قيل، ثم تحوّل مالكيا مع ميل إلى فقه الشافعي في مسائل، ولا يُنكر له ذلك، فإنه ممن بلغ رتبة الأئمة المُجتهدين.

وقال شيخ الذهبي أبى عبد الله بن أبي الفتح :كان أبو عمر أعلم مَن بالأندلس في السنن والآثار.. وكان في أول زمانه ظاهري المذهب مدة طويلة ثم رجع إلى القول بالقياس من غير تقليد أحد.

وقال جلال الدين السيوطي وكان أولا ظاهريا ثم صار مالكيا

علاقة ابن عبد البر بابن حزم
قال الذهبي في كتابه سير أعلام النبلاء:إن أبا عمر بن عبد البر كان صديقًا لعلي بن حزم الأندلسي، وكان ينبسط إليه ويؤانسه، وأنه عنه أخذ ابن حزم فن الحديث.

وقال إسماعيل بن عمر بن كثير في كتابه البداية والنهاية وكان -أي علي بن حزم الأندلسي- مصاحباً للشيخ أبي عمر ابن عبد البر النمري، وكان مناوئاً للشيخ أبي الوليد سليمان بن خلف الباجي.

وكان علي بن حزم الأندلسي يصفه بالصاحب، وروى ذلك كثيراً في كتبه كالإحكام في أصول الأحكام، والمحلى، والفصل في الملل والأهواء والنحل، فيقول: "كتاب كذا لصاحبنا أبي عمر".

ثم إن علي بن حزم الأندلسي يذكر ابن عبد البر في كتبه، ويضفي عليه صفة الإمامة والاجتهاد، وحسبك بأبي محمد مثنيًا، يقول في كتابه جوامع السيرة: "وممن أدركنا ممن جرى على سنن من تقدم ممن ذكرنا: مسعود بن سليمان بن مفلت أبو الخيار، ويوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر النمري، فهؤلاء أهل الاجتهاد من أهل العناية".

وأشاد في رسالة فضل الأندلس به وبمصنفاته فقال: "ومنها كتاب التمهيد لصاحبنا أبي عمر يوسف ابن عبد البر، وهو كتاب لا أعلم في الكلام على فقه الحديث مثله أصلاً، فكيف أحسن منه، ولصاحبنا أبي عمر ابن عبد البر المذكور كتب لا مثيل لها".

ولقد توصل المستشرق الإسباني اسين بلاسيوس وكان راهبا من الرهبان انشغل بعلم ابن حزم وكتبه طرح في كتابه عن ابن حزم "إن ابن عبد البر في كتابه جامع بيان العلم يبدو متأثرا بنهج ابن حزم وفكره".
كما أن ابن عبد البر من فرط حبه في ابن حزم، كان يطالع كل جديد يكتبه ابن حزم، فلما كتب ابن حزم رسالته في الغناء الملهي أمُباح هو أم محظور؟ حُملتْ الرسالة إلى ابن عبد البر، فمكثتْ عنده شهرا، فنظرها، ثم قال: "نظرتها فلم أجد ما أزيد عليها ولا أنقص".

ويذكر المقري في كتابه نفح الطيب قصة طريفة اتفقت لابن عبد البر مع علي بن حزم الأندلسي، تدل على تغلغل الظاهرية في روح علي بن حزم الأندلسي وفكره وشعوره، كما تدل على نوع الصداقة التي كانت تجمعهما، قال : "مر ابن حزم يومًا هو وأبو عمر بن عبد البر صاحب الاستيعاب بسكة الحطَّابين من مدينة إشبيلية، فلقيهما شاب حسن الوجه، فقال أبو محمد ابن حزم: هذه صورة حسنة، فقال له أبو عمر ابن عبد البر: لم تر إلا الوجه، فلعل ما سترته الثياب ليس كذلك. فقال ابن حزم ارتجالاً:

وذي عذل فيمن سباني حسنُه يُطيل ملامي في الهـوى ويقولُ
أمن أجل وجه لاح لم تر غيره ولم تدر كيف الجسم أنت عليلُ
فقلت له أسرفت في اللوم فاتئد فعنديَ ردٌّ لو أشـاء طويـلُ
ألم تر أني ظاهــريُّ وأنـني على ما أرى حتى يقوم دليـلُ

وفاة ابن عبد البر
قال أبو داود المقرئ: مات أبو عمر ليلة الجمعة سلخ ربيع الآخر، سنة (463هـ) واستكمل خمسا وتسعين سنة وخمسة أيام.

مصنفات ابن عبد البر
ترك ابن عبد البر من تآليفه وتصنيفاته مكتبة زاخرة، فقد صنف رحمه الله في الفقه وأصوله وفي علوم القرآن والقراءات والحديث وعلومه والتراجم وعلم الرجال والتاريخ والسير والأنساب، وغيرها.

ومن هذه المؤلفات:
الأجوبة الموعبة في الأسئلة المستغربة، أخبار أئمة الأمصار، اختلاف أصحاب مالك بن أنس واختلاف رواياتهم عنه، الاستيعاب في معرفة الأصحاب، الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار وعلماء الأقطار، تجريد التمهيد في الموطأ من المعاني والأسانيد، الإشراف على ما في أصول فرائض المواريث من الإجماع والاختلاف، الاكتفاء في قراءة نافع وأبي عمرو بن العلاء بتوجيه ما اختلف فيه، الإنباه على قبائل الرواة، الاتقاء في فضائل الثلاثة الأئمة الفقهاء، الإنصاف فيما في بسم الله من الخلاف، البستان في الأخدان، بهجة المَجالس وأنس المُجالس وشحذ الذاهن والهاجس، البيان عن تلاوة القرآن، التجريد والمدخل إلى علم القرءات بالتجويد، التقصي لما في الموطأ من حديث الرسول، التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد، جامع بيان العلم وفضله، جمهرة الأنساب، الدرر في اختصار المغازي والسير، رسالة في أدب المجالسة وحمد اللسان، شرح زهديات أبي العتاهية، الشواهد في إثبات خبر الواحد، العقل والعقلاء وما جاء في أوصافهم عن الحكماء والعلماء، القصد والأمم في التعريف بأصول أنساب العرب والعجم، الكافي في فقه أهل المدينة.

- قصة الإسلام .