الصداقة مازالت صالحة لقصيدة حب
فى ليالى الشتاء يجىء الليل سريعا ويأبى ألا يغادر، يكثر الضجر وتخيم سحب الحزن، ويراودنا الحنين لذكرياتنا وأيامنا التى مرّت، وحين نطيل التأمل يداعب قلوبنا شىء خفى ومفاجئ، وتبدو كل الأشياء غريبة وبعيدة تماماً، ويزداد الإحساس بالوحدة التى تصب محتواها الوحشى فى فضائنا المبلل بالمطر، ونبحث جميعاً عمن يصغى إلى أصوات قلوبنا الدافئة، نبحث عن الصديق الذى يعرف أغنية القلب ويغنيها عندما يهجرنا اللحن، نبحث عن مرايانا المصقولة التى نرى فيها أنفسنا، نبحث عمن يربّت علينا ويكفكف دموعنا، ويستمع لفضفضاتنا بحب وصمت، ثم نضحك فتضحك لنا السماء، ربما من حماقاتنا أو لأنها مثلنا كانت تنتظر صديقاً يحنو عليها.
كتب «أبوحيان التوحيدى»: «رسالة الصداقة والصديق»، وقد بدأها فى سن الشباب وانتهى من تأليفها فى أواخر حياته، وهى وثيقة أدبية ممتعة تلقى الضوء على العصر الذى عاش فيه من انحطاط خلقى وفساد اجتماعى يجعله عصراً مظلماً بكل المقاييس، وقد كتبها وهو فى حالة نفسية سيئة للغاية: «ومن العجيب والبديع أنا كتبنا هذه الحروف على ما فى النفس من الحرق والأسف، والحسرة والغيظ والكمد والومد، فقد أمسيت غريب الحال، غريب اللفظ، غريب النحلة، غريب الخلق، مستأنسا بالوحشة، قانعاً بالوحدة، معتاداً للصمت، مجتنفاً على الحيرة، محتملاً للأذى، يائساً من جميع من ترى»، ورغم أن الرسالة تضمنت مقاطع تعظّم من قيمة الصداقة، وتعلى من شأن الصديق، إلا أنه كان يؤكد أنه ينبغى أن نثق بأنه لا صديق، ولا من يشتبه بالصديق، وهذا يفسر حرقه لكتبه فى ظل أزمة نفسية شديدة، فى آخر حياته، وعندما لامه الناس على ذلك قال: «إنى فقدت ولدا نجيبا، وصديقا حبيبا، وصاحبا قريبا، وتابعا أديبا، ورئيسا منيبا، فشق علىّ أن أودعها لقوم يتلاعبون بها ويدنسون عرضى إذا نظروا فيها، وكيف أتركها لأناس جاورتهم عشرين سنة، فما صح لى من أحدهم وداد، ولا ظهر لى من إنسان منهم حفاظ».
الصداقة هى عمود للحياة، والصديق الحقيقى مرآة صاحبه، لا نريد أن نكون متشائمين مثل: «التوحيدى»، فلنجمع ما بعثرته الريح من أمل، ونتدرّب على حب الأشياء، فالحياة بالأصدقاء ممكنة، والأحياء هم من يشعرون بالجرح فى ليالى الشتاء الطويلة التى تثير فينا الحنين، وتوقظ فينا شغف البدايات لا النهايات، وقديماً قالوا: أطول الناس سفراً، من سافر فى طلب صديق!، فالصداقة ترشدنا إلى الطريق الأصح، حتى لو خذلتنا الدروب.
منقول