ماذا تعرف عن الآشوريين، وعن حضارتهم العريقة والغابرة في شمال العراق؟
يرتبط اسم آشور اليوم بواحدة من أعرق الحضارات القديمة التي عرفها التاريخ البشري في الشرق الأدنى، وحتى يومنا هذا تقف أطلال المدن الآشورية شاهدة على عظمة ما وصلوا إليه في غابر الأيام. يقع المركز الرئيسي للإمبراطورية الآشورية في شمال العراق اليوم، ومن أشهر التلال الأثرية التي تضم بقايا مدنهم: قلعة الشرقاط (آشور قديماً ومركز عبادة الإله آشور، الإله الرئيسي للآشوريين)، نمرود (كلخو قديماً)، خورسباد (دور شرّكين قديماً)، تل قوينجق وتل النبي يونس (نينوى قديماً).
خارطة لأهم المواقع الأثرية في سورية والعراق، وتظهر شمالاً على الخارطة مواقع المدن الآشورية.
شكلت تلك الأطلال عامل جذب كبير للمستشرقين الأوربيين خلال القرن التاسع عشر، وكنتيجة للامتيازات التي منحتها السلطات العثمانية لهم آنذاك فقد حصل تنافس إنكليزي-فرنسي لنهب كنوز الحضارات المشرقية القديمة ونقلها إلى أوربا، فقاموا بإجراء حفريات اتسمت بالعشوائية والهدف منها الوصول إلى الكنوز القديمة بأسرع وقت ممكن. كان لتلك الحفريات؛ على الرغم من عشوائيتها، الفضل في معرفة الكثير عن الحضارة الآشورية التي لم يكن معروفاً عنها آنذاك سوى بعض الروايات المتفرقة في الكتب الدينية المقدسة.
بدأت بواكير الاكتشافات تظهر خلال صيف عام 1840 في نمرود، حيث عمل البريطاني هنري لايرد ومساعده العراقي هرمز راسام؛ وتمكنا من الكشف عن حاضرة الملك الآشوري آشور-ناصر-بال الثاني بما تضمه من كنوز لا تقدر بثمن. كما أسفرت التنقيبات البريطانية في تل قوينجق إلى الكشف عن أطلال مدينة نينوى القديمة، حيث اكتشفت مكتبة آشور بانيبال الشهيرة والتي ضمت آلاف الرقم المسمارية، تم نقل معظمها إلى المتحف البريطاني في لندن.
كما كان للفرنسيين حصة في الحفريات والتي تركزت في مدينة خورسباد، حيث نقب القنصل الفرنسي في الموصل إيميل بوتا هناك وأدت حفرياته إلى الكشف عن عاصمة الملك الآشوري شرّكين، بما حوته من قصور ومنحوتات جدارية وثيران مجنحة غرق بعضها في مياه نهر دجلة عقب اكتشافها خلال القرن التاسع عشر إثر هجمة للسكان المحليين على القوارب التي كانت تستعد لنقلها إلى فرنسا احتجاجاً على نهب آثار بلادهم.
الاكتشافات الهائلة والتي وصل دويها إلى كامل أوربا شجعت دولاً أوربية أخرى للعمل في هذا المضمار، حيث تقدم القيصر الألماني آنذاك فيلهلم الثاني بطلب شخصي من السلطان العثماني عبد الحميد الثاني للحصول على موافقة للتنقيب في قلعة الشرقاط تحت إشراف الألماني فالتر آندريه، الذي بدأ العمل منذ العام 1903، وقد بقيت رخصة التنقيبات في آشور منذ ذلك الحين في يد الألمان حتى العام 2002.
صورة مرسومة للبريطاني هنري لايرد وهو يقوم باستخراج الثيران الآشورية المجنحة من نمرود عقب اكتشافها استعداداً لنقلها إلى المملكة المتحدة.
غالباً ما يميل علماء الآثار اليوم وبناء على نتائج الحفريات الأثرية وقراءة الرقم المسمارية، إلى تقسيم التاريخ الطويل للآشوريين إلى ثلاث عصور:
أولاً: العصر الآشوري القديم
خلال هذه الفترة أصبحت مناطق آشور جزءاً من مملكة الملك الأموري شمشي أدد، الذي تمكن خلال القرن الثامن عشر قبل الميلاد من توحيد مناطق شمالي العراق وشمال شرق سورية تحت سلطته والذي عاصر ملك بابل الشهر حمورابي. بكل الأحوال فإن آشور لم تكن قد برزت بعد خلال هذه الفترة كقوة سياسية وعسكرية مستقلة.
ثانياً: العصر الآشوري الوسيط
بدءاً من القرن الرابع عشر تمكنت آشور من أن تتحول تدريجياً إلى قوة عسكرية وسياسية بارزة نسبياً على الصعيد الدولي آنذاك. أشهر ملوكها خلال هذه الفترة هم آشور أبلط الأول (1363-1328 ق.م)، وأدد نيراري الأول (1305-1274 ق.م)، وشلمناصر الأول (1273-1244 ق.م)، وتيكولتي نينورتا (1243-1207 ق.م) وتيغلات بيلاصر الأول (1114-1067).
لعب أولئك الملوك دوراً مهماً في إثبات آشور كقوة ذات حضور على الصعيد السياسي، وتبادلوا المراسلات السياسية مع فراعنة مصر والحكام الحثيين في الأناضول، كما تمكنوا من توسيع نطاق السيطرة الآشورية لتشمل؛ بالإضافة إلى مناطق آشور المركزية، مناطق في شمالي سورية، ومهدوا الطريق للملوك اللاحقين خلال العصر الآشوري الحديث لتحويل آشور إلى واحدة من أعظم الإمبراطوريات في التاريخ.
ثالثاً: العصر الآشوري الحديث
بالإمكان تسمية هذا العصر بعصر النهضة الآشورية، حيث بسط الآشوريون سيطرتهم خلال النصف الأول من الألف الأول قبل الميلاد على مناطق شاسعة شرقاً إلى الغرب من إيران وشمالاً حتى الأناضول وغرباً حتى البحر الأبيض المتوسط ومصر. كما وترك ملوكهم عشرات الأنصاب واللوحات الجدارية في المناطق التي وصلوا إليها، واتبعوا سياسة النفي التي تقوم علي نفي سكان مدينة ما من مدينتهم ونقلهم قسراً للعمل والسكن في مدينة أخرى.
ترك لنا ملوك الدولة الآشورية الحديثة آلاف الرقم المسمارية والكثير من الأنصاب والتماثيل وعشرات اللوحات الجدارية التي زينت قصورهم ووصفت حملاتهم العسكرية بالتفصيل، منحوتة بشكل نافر على الحجر مع نصوص مسمارية، بالإضافة إلى الثيران المجنحة المسماة ”لاماسو“ وهي عبارة عن جسد ثور مجنح برأس آدمي كانت توضع على بوابات القصور والمدن لحمايتها من الأرواح الشريرة. كما امتازت هذه المرحلة بإقبال بعض الملوك على بناء عواصم جديدة لحكمهم.
الثيران الآشورية المجنحة (لاماسو).
من أبرز ملوك العصر الآشوري الحديث:
1. آشور ناصر بال الثاني (883-859 ق.م): فصلاً عن نشاطه العسكري ضد الآراميين الذي قطنوا سورية خلال الألف الأول، قام آشور ناصر بال الثاني ببناء عاصمة جديدة لحكمه في نمرود (كلخو قديماً). كشفت التنقيبات هناك عن قصر ضخم شيده آشور ناصر بال الثاني وزين جدرانه بعشرات اللوحات الجدارية المنحوتة واللاماسو فضلاً عن عدد من المعابد.
وفي نصب التشييد الذي اكتُشف في نمرود، تحدث الملك عن دعوة 47.074 رجلاً وامرأة من مناطق مختلفة من بلاده إلى حفل التشييد فضلاً عن استهلاك 1200 بقرة، و17000 خروف، و1500 بطة …وإلخ. مما تجد الإشارة إليه إلى أنه وفي العام 1989 كشف الآثاري العراقي مزاحم حسين في قصر نمرود عن عدد من القبور الملكية التي تعود لملكات آشوريات في البلاط الآشوري، بما تضمه من ذهب ولقى فاخرة تعكس الترف الذي عاشته آشور خلال تلك الحقبة.
لوح جداري من قصر آشور ناصر بال الثاني في نمرود، حيث يظهر الملك واقفاً أمام شجرة مقدسة وخلفه مخلوق أسطوري مجنح (القرن التاسع ق.م).
2. شرّكين الثاني (721-705 ق.م): اشتهر هذا الملك بحملاته الضارية ضد القبائل الأورارتية التي قطنت مناطق شمال غرب إيران آنذاك، فضلاً عن حملاته ضد الآراميين في سورية الحالية، وضد بابل التي لطالما كانت نداً للآشوريين.
على خطى آشور ناصر بال الثاني؛ قام شرّكين بتشييد عاصمة جديدة لحكمه في خورسباد وأطلق عليها اسم دور شرّكين (حصن شرّكين). وقد كشفت التنقيبات في جزء من المدينة عن قصر زينت جدرانه باللوحات الجدارية وبعض من اللاماسو.
يُذكر أن العاصمة هُجرت بعد فترة قصيرة قبل أن يكتمل بناؤها وذلك بسبب مقتل شرّكين في إحدى غزواته ضد الأورارتيين، حيث لم يتمكن الآشوريون من استرجاع جثمان الملك مما تسبب بحرمانه من الدخول إلى العالم السفلي حسب الميثولوجيا الرافدية، وقد اعتبر الكثيرون ذلك الأمر نذير شر وشؤم لبلاد آشور.
لوح جداري يظهر فيه الملك شرّكين على اليمين.
3. سنحريب (704-681 ق.م): أُولى قرارات هذا الملك كانت نقل العاصمة من دورشرّكين إلى نينوى، حيث أشاد قصراً له هناك بالإضافة إلى اهتمامه بالمنشئات المائية وشق القنوات التي لازالت بقاياها موجودة إلى يومنا هذا. وينسب إليه التسبب بتدمير مدينة بابل وتوجيه مياه نهر الفرات إلى أسوارها.
أسوار مدينة نينوى التاريخية، القرن السابع ق.م.
4. آسرحدون (680-669 ق.م): اعتلى أسرحدون العرش بعد أبيه سنحريب على الرغم من أنه لم يكن أكبر أبنائه، السبب وراء ذلك قد يعود إلى تأثير والدة أسرحدون على سنحريب وإقناعها له بتنصيب ابنها وتجاهل أبنائه من الأخريات، الأمر الذي أدى إلى حدوث بعض الاضطرابات في البلاط الملكي الآشوري والتي تمكن آسرحدون من إخمادها بالقوة.
سياسياً؛ فقد قام أسرحدون بإعادة بناء مدينة بابل ووصل بحملاته إلى مناطق بعيدة في العمق السوري وحتى إلى مصر. ترك آسرحدون؛ في العديد من الأماكن التي وصل، مسلات حجرية تحمل نقشاً للملك بحجم هائل، بينما يظهر أمامه؛ بحجم صغير ومذل، حاكم صيدا وفرعون مصري وقد رُبطا من عنقيهما بحبل أمسك به أسرحدون. قام أسرحدون كذلك بتنظيم ولاية العرش حيث عين أبنه آشور بانيبال خليفةً له على عرش آشور، بينما أمر بتولية أبن آخر له على عرش بابل.
مسلة لأسرحدون.
5. آشور بانيبال (668-627 ق.م): بلغت الإمبراطورية الآشورية أوج عظمتها خلال عهد آشور بانيبال، فقد تابع هذا الملك؛ الذي يُعد آخر الملوك الأقوياء في الإمبراطورية الآشورية، سياسة أبيه بتوجيه العديد من الحملات العسكرية الخارجية والتي انتهت بسقوط العاصمة المصرية طيبة بيد الآشوريين. كما قاد حملات ضد القبائل العيلامية التي قطنت مناطق غرب إيران حينها.
يُذكر بأن آشور بانيبال امتاز بالثقافة الواسعة وحب المعرفة والاطلاع، ويفتخر في العديد من مدوناته بعلمه الواسع ولاسيما أنه أسس مكتبته الشهيرة في نينوى، والتي؛ وإلى يومنا هذا، تمدنا بالكثير عن معارف وعلوم القدماء في الشرق الأدنى القديم، بالإضافة إلى تشيده لقصر ملكي في نينوى عُثر فيه على لوحات جدارية تجسد مواضيع متنوعة أبرزها مشهد اصطياد الأسود.
لوحات جدارية من قصر آشور بانيبال في نينوى، تظهر عملية اصطياد الأُسود، القرن السابع ق.م.
تتابع على الحكم بعد آشور بانيبال عدد من الملوك الضعفاء الذين لم يتمكنوا من الحفاظ على قوة الإمبراطورية وتماسكها ولاسيما بعد امتدادها على رقعة جغرافية واسعة، فكان من الصعب؛ لا بل من المستحيل، السيطرة عليها بالكامل. بعد ذلك أخذت المدن الآشورية تسقط واحدة تلو الأخرى على يد الميديين والبابليين الذين تحالفوا للقضاء على الإمبراطورية الآشورية، وكان من نتيجة ذلك التحالف سقوط آشور في العام 614 ق.م ونينوى في العام 612 ق.م، وبانهيار تلك المدن اختفى أثر الآشوريين عن هذا العالم إلا أن نبشته معاول المنقيبين الآثاريين في العصور الحديثة.
من الجدير بالذكر أن إرهابيي داعش قاموا في مطلع العام 2015 بتدمير العديد من الثيران المجنحة الآشورية في متحف الموصل، بالإضافة إلى إقدامهم على جرف أطلال مدينة النمرود الأثرية وتفجير مزار النبي يونس في نينوى، والذي أدى مصادفة إلى الكشف عن مجموعة جديدة من اللوحات الجدارية الآشورية والثيران المجنحة تحت المزار.
داعشي يقدم على تدمير ثور آشوري مجنح عمره آلاف السنين.