TODAY - 05 September, 2010
لحظة مقتدى الصدر
سرمد الطائي
التيار الصدري لا يزال صاحب مبادرة منذ الانتخابات. يخيفنا هذا احيانا نحن الذين نسجل عليه الاعتراض تلو الآخر منذ 7 اعوام، غير انه أخذ يفاجئنا بطريقة مختلفة خلال الشهور الماضية. واشنطن اول من ابدى اعجابا بطريقة الصدريين في ادارة الانتخابات، رغم ان اميركا ظلت حذرة حيال التعامل معهم.
يريد الصدر ان يعلن انه مستعد للانخراط في عملية تصحيح وطنية، ويريد من الآخرين ان يصدقوه. وطبعا فإن من السهل ان نشكك في نواياه لأن سجل سياسات التيار في الاغلب، يشجعنا على التشكيك في خططه. لكن قدرة زعيم التيار على اتخاذ قرارات خطيرة يمكن ان تحل ازمة الحكومة، وتقوم بتطويق الجماعات العنفية والتبرؤ منها، تشجعنا ايضا على اعادة النظر في تقديراتنا. الرجل كما وصفه المعلقون الاميركان، اصبح "صانع الملوك" بمقاعده النيابية الاربعين. وحتى الآن فإنه اظهر مسؤولية غير قليلة، في ادارة موقعه الجديد. طريقته تستدعي ان نطور تقديراتنا لمستقبل التيار هذا.
نشعر كمراقبين ان الصدر بدأ يصغي جيدا. والرجل حين يصغي فإنه يعلن استعداده للنمو والمراجعة. مقتدى شاب من جيلنا، اي انه في طور التكوين. عائلة الصدر حاضرة بقوة ولم يتمكن احد من شطبها. كانت تؤسس مع نخبة الساسة، للدولة مطلع القرن الماضي. احد اسلاف مقتدى وضع التاج على رأس فيصل الثاني. ويمكن لهذه العائلة ان تنخرط ثانية في بيئة تأسيس اكثر خطورة اليوم، اذا فهمت قواعد اللعبة الحديثة. في وسع الصدر ان يقود هذا الارث ضمن عملية تصحيح وطنية كبرى. التيار الصدري اظهر لنا انه يمتلك جرأة كافية لمراجعة مواقفه. مرة حين تحدث زعيمه بلغة قاسية مع الفصائل المسلحة عبر بيانات عديدة. والاخرى حين اجرى تعديلا في ثوابته الراديكالية، ووافق على تقديم بديل شيعي للمالكي، من حزب خصم تتصدره عائلة الحكيم. كنا نقول ان البديل الشيعي متعسر. مقتدى اراد ان يقول انه لا وجود للعسير حين يختار الآخرون الكلمات المناسبة في التعامل مع التيار الصدري.
مقتدى الصدر كان اشبه بمعيق لظهور اتفاق تشكيل الحكومة بين قائمة شيعية كبيرة هي الائتلاف الوطني، وقائمة ضمت ممثلي العلمانية العراقية والكثير من الوجوه البارزة لجبهة التوافق السابقة. لكن الصدر نجح في ابداء مرونة كبيرة وقدم تنازلا يستحق الاشادة حين وافق على ترشيح وجه يحظى بمقبولية واسعة بين الاطراف السياسية. هو رابح في نهاية المطاف. لقد تجاوز مشاكل تاريخية بينه وبين المجلس الاعلى، وأدرك ان لحظة الشعور بالمسؤولية تعني ان على المرء ان يعلن استعداده لتصحيح العلاقة مع الجميع، وزعيم التيار الصدري يقدم ادلة عديدة، على استعداده لإبرام مجموعة تسويات متماسكة، سواء مع قادة العراقية او مع حلفائه في المجلس الاعلى او على المستوى الوطني الأعم، ليشمل كتلة المالكي في المستقبل.
قادة المجلس الاعلى وقادة العراقية، كانوا يقولون ان تشدد الصدر يؤخر ظهور صفقة الحكومة. الآن تقدمنا خطوة الى الامام وقال الرجل انه سيبدي المرونة الكافية. الفرصة اكثر من استثنائية وعلى الاطراف الاخرى ان تتعامل معها بسرعة قبل ان تتبدد بفعل الوفود المتنقلة عبر الحدود الغربية والشرقية.
الفرصة اليوم هي تكريس الشراكة بين الصدر الذي يحاول محو ماضيه المسلح، وقوى مدنية تريد تصويب الاوضاع. التيار الذي كان مطاردا، بحاجة اليوم الى تشجيع على نسيان السلاح الى الابد. انه يشتغل في السياسة، ويواجه ضغوط ايران.
القائمة العراقية لعبت دورا مسؤولا. لقد منحت الثقة الكافية عبر خطابها السياسي، لكل من التيار الصدري والمجلس الاعلى، وشجعتهما على مواجهة ضغوط كبيرة من طهران بشأن تشكيل الحكومة. المجلس الاعلى نفسه يدير اللعبة بذكاء شديد. استثمر كل لحظات الضعف ليتوغل في مناطق سياسية كانت محرمة سابقا. استطاع ان يحول ضعفه الى شجاعة مطلوبة.
كانت هناك عملية بناء ثقة بين الاطراف الثلاثة اي العراقية والصدري والمجلس، الى جانب تنسيق لا يخفى مع الاكراد، والعملية انتجت تحولا عميقا في المواقف الداخلية. لعلها المرة الاولى التي نواجه فيها مواقف منسقة بين اطراف سياسية متصارعة، تمنح الاحزاب قدرة على الحديث ندا لند، مع حلفائها الاقليميين والدوليين. هذا مكسب مهما كانت دوافعه.
وبغض النظر عن نجاح العملية او تعثرها الممكن في اي لحظة، فإن الجميع سيظل يتذكر ان اطراف الصراع استطاعت يوما، ان تمنح الثقة لبعضها وتتقوى بالداخل، للحديث مع الخارج، على نحو مختلف وغير مسبوق. اليوم الداخل العراقي هو الذي يتحرك، والخارج مجبر على التعايش مع صفقة الداخل. هذه سابقة ارجو ان تسجلوها وتتذكروها جيدا حتى لو "خربت الصفقة". حصولها يعني امكانية تكرارها. النموذج بأيدينا اليوم. الحراك العراقي يثبت انه حي ويصنع نماذجه الخاصة.
الاطراف المذكورة وضعت خلافاتها الطائفية والايديولوجية جانبا، وراحت تصوغ مفهوم مصلحة سياسية هو جديد على لعبة ما بعد صدام حسين. لذلك فإننا امام معادلة مختلفة تحتار طهران وواشنطن والآخرون، في التعامل معها.
نموذج الاعتراض على ضغوط طهران وواشنطن ورفض صفقتهما لتشكيل الحكومة، هو نموذج تفاوض قوي يمكن ان يتكرر في ملفات وطنية خطيرة، ويمكن ان تنجح الاطراف السياسية في تكرار تجربة الاستقواء بالداخل ثانية، وتصميم مواقف منسقة بهذه الدرجة، في ادارة صراعاتنا الكبيرة مستقبلا.
لدى عائلة الصدر فخر تاريخي يؤهلها لأن تكون ندا لطهران، تعرض عليها الشراكة بدل تبعية الاعوام الماضية. عائلة الحكيم هي الاخرى والمحظوظة بطاقم قيادات متميز في المجلس الاعلى، يمكنها ان تصنع الشيء نفسه. ولمسنا من قادة العراقية انهم مشغولون بهذه النقطة حد الاستيعاب الاستراتيجي. لقد قدموا الدعم السياسي المطلوب للتيار الصدري والمجلس الاعلى، لتشجيعهما على بناء قرار عراقي تكون فيه طهران مستشار لا يقسر. اذن لا تضيعوا مقتدى الصدر وحاولوا تصديقه مرة، وأحلى ما في التاريخ ان يتحول ثوار غاضبون، الى رجال قادرين على مراجعة كل شيء.