العصر الأخير لإمبراطورية بلاد الرافدين

دخلت تقاليد حضارة بلاد ما بين النهرين آخر عصور ازدهارها في القرن الثامن؛ وكانت مدينة نينوى الواقعة على القسم العلوي من نهر دجلة قد حلت محل عاصمة آشور القديمة وصارت مركزاً سياسياً مثلما كانت بابل من قبلها. واستطاعت الإمبراطورية الآشورية الجديدة أن تعيد النظام من بعد الاضطراب الكبير الذي حل إثر انهيار سلطة الحثيين. ويحدثنا العهد القديم عن هجوم الجيوش الآشورية على الممالك السورية واليهودية المرة تلو المرة إلى أن غزتها، وقد عانى الخاسرون الأمرين. ولم تكن الإمبراطورية الآشورية تعتمد على إخضاع الملوك والبلاد، بل كانت تطيح بالحكام المحليين وتضع مكانهم حكاماً آشوريين، وكثيراً ما كانت تجرف الشعوب أيضاً مثل أسباط إسرائيل العشرة، في عملية إبعاد جماعية.

تطور إمبراطورية آشور التاريخي
واستولت الجيوش الآشورية على بابل في عام 729 ق.م، ثم مالبثت أن قامت بتدمير إسرائيل كما غزت مصر وضمت إليها دلتا النيل، وكانت قبرص عندئذٍ قد استسلمت لحكم الآشوريين، وكان هؤلاء قد غزوا سيليزيا
* وسوريا أيضاً. وأخيراً في عام 646 ق.م حصل آخر غزو هام، وهو غزو جزء من أرض عيلام**، وأكره ملوكها على جر عربة الفاتح الآشوري عبر شوارع نينوى. وهكذا صار هناك الآن نظام موحد من الحكم والقانون يتخلل أكثر الشرق الأدنى، ووهنت الإقليمية بفعل تقدم الجيوش وترحيل الشعوب ضمنه، وانتشرت الآرامية التي كانت منذ زمن طويل لغة التفاهم في سوريا وبلاد الرافدين لتصبح لغة مشتركة للشرق الأدنى.
إن هناك صروحاً لا تنكر عظمتها تشهد على القوة الخلاقة للإمبراطورية الآشورية، فقد بني قصر كبير عند نهاية القرن الثامن من خرساباد قرب نينوى تبلغ مساحته أكثر من كيلو متر مربع وتزينه نقوش بارزة تمتد على مسافة تزيد عن 1.5 كم وكانت غنائم الغزو تمول بلاطاً غنياً وبديعاً. كما خلف آشوربانيبال 668-626 ق.م صروحه الخاصة، منها مسلات نقلت من طيبة إلى نينوى، ومجموعة كبيرة من الرقم التي صنعت لمكتبته، فقد كان رجلاً يحب الثقافة والآثار القديمة, وقد جمع نسخاً من كل ما وجده من سجلات بلاد الرافدين القديمة، وإليه ندين بجزء كبيرة من معرفتنا بأدب تلك البلاد، وهذا ما يمكننا من الولوج إلى الأفكار التي حركت هذه الحضارة بسهولة أكبر من سابقاتها.

آشوربانيبال في رحلة صيد
كان التصوير المتكرر للملوك الآشوريين بشكل صيادين جزءاً تقليدياً من صورة الملك المحارب، وربما كان أيضاً محاولة مقصودة لإظهارهم أبطالاً مثل الأبطال الأسطوريين الذين قهروا الطبيعة في الماضي السومري السحيق. إلا أن النقوش الحجرية البارزة التي تخلد المآثر العظيمة للملوك الآشوريين تكرر أيضاً بصورة رتيبة قصة أخرى، هي قصة النهب والاستعباد والإعدام على الخازوق والتعذيب، وأخيراً الحل النهائي المتمثل بالرحيل الجماعي. لقد كانت الإمبراطورية الآشورية ترتكز على أساس من الوحشية، وكان جيشها يجند تجنيداً إلزامياً ومسلحاً بأسلحة حديدية، وكان قوة متماسكة مؤلفة من وحدات منسقة، فيما بينها، وفيه سلاح حصار قادر على اختراق الأسوار التي كانت منيعة من قبله، بل كان فيه أيضاً بعض الخيالة المدرعين. وربما كانت فيه حمية دينية خاصة، لأنك ترى الإله آشور يحلق فوق الجيوش وهي ذاهبة إلى المعركة، وإليه كان الملوك يروون انتصاراتهم على الكفرة.
إلا أن هذه الإمبراطورية الآشورية سرعان ما كسفت، ولعلها ألقت على كاهل أبنائها حملاً تنوء به طاقة البشر. لقد راحت تنهار منذ العام الذي تلا موت أشوربانيبال، فثار البابليون وساندهم الكلدانيون فضلاً عن جار جديد هو مملكة الميديين، التي كان دخولها مسرح التاريخ علامة على تغير هام. كان الميديون منشغلين لزمن طويل بشعب بربري آخر من الشمال هو الشعب السقيتي الذي تدفق إلى إيران من القوقاز، كما تدفق في الوقت نفسه على طول ساحل البحر الأسود نحو أوروبا، كان السقيتيون خيالة خفاف الحركة يقاتلون بالقوس من على ظهور الخيل، ويعتبر ظهورهم بمثابة إعلان عن نشوء قوة جديدة في تاريخ العالم، هي الشعوب البدوية القادمة من آسيا الوسطى. لقد دفع السقيتيون شعوباً أخرى أمامهم بينما كان آخر الوحدات السياسية المبنية على السكان القوقازيين الأصليين في الشرق الأدنى تنهار أمامهم وأمام الميديينوالأشوريين، وعندما ضم السقيتيون والميديون قواهم تمكنوا من التغلب على آشور أيضاً، فزالت من التاريخ ونهبالميديون نينوى في عام 612 ق.م