ذكرى ولادة النبي (صلى الله عليه واله وسلم)فرصة للعودة الى الجذور
(لا احد كان يتصور أن تتحول شبه الجزيرة العربية بعزلتها وبَدواتها إلى منطلق لديانة سيطرت على ثلثي العالم القديم…)، “ول ديوراينت” صاحب موسوعة قصة الحضارة
الانعطافة الكبرى التي قادها محمد (صلى الله عليه واله) والتي أعادت رسم خارطة وحاضر ومستقبل امة، برسالته السمحاء التي أثْرَت البشرية بعطائها الفكري والإنساني، لم تكن لتكون إلا على يد محمد صاحب الروح السامية والخلق العظيم الذي شهد به الرب العظيم وكفى به شهيدا.
انه النبي (صلى الله عليه واله وسلم) الذي اختزل مسيرة امة كاملة، و(الرسول) الذي جسد اخلاق الإنسانية بمعانيها السامية (وإنك لعلى خلق عظيم) القلم: 4، والهبة الإلهية التي من الله بها على البشرية جمعاء (لقد منّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكّيهم ويعلّمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين) آل عمران: 164، وقد استطاع بصفاته الفريدة ان يقود هذه النقلة النوعية، بعد ان غرسها في نفوس المؤمنين، ويحقق ما عجز عن تحقيقه الآخرون بلا منافس.
فلم تبرز على طول التاريخ شخصية مثل شخصية النبي محمد (ص)، بما أحدثه من تغييرات في التاريخ الإنساني، وقد اعتبر أحد الكتاب الغربيين في كتابه (الخالدون مائة) الرسول (ص) في المرتبة الأولى من عظماء التاريخ البشري، كما واعتبره اعظم شخصية في تاريخ العالم بما حققه من نجاح عظيم في إبلاغ رسالته وتأسيسه لدولة إسلامية كبيرة، وحضارة عريقة ظلت تغذي العالم بالعلم والمعرفة والعطاء لقرون عديدة، حيث يقول الدكتور مايكل هارث أستاذ الرياضيات والفلك والفيزياء في الجامعات الأمريكية وخبير هيئة الفضاء الأمريكية: لقد اخترت محمداً (ص) في أول هذه القائمة.. ولابد أن يندهش كثيرون لهذا الاختيار ومعهم حق في ذلك، ولكن محمداً (ص) هو الإنسان الوحيد في التاريخ الذي نجح نجاحاً مطلقاً على المستوى الديني والدنيوي. وهو قد دعا إلى الإسلام ونشره كواحد من أعظم الديانات وأصبح قائداً سياسياً وعسكرياً ودينياً، وبعد ثلاثة عشر قرناً من وفاته فإن أثر محمد (ص) لا يزال قوياً متجدداً".
فيما يقول الكاتب الروسي الكبير تولستوي: "ومما لا ريب فيه أن النبي محمد (ص) كان من عظماء الرجال المصلحين الذين خدموا المجتمع الإنساني خدمة جليلة، ويكفيه فخراً إنه هدى أمة برمتها الى نور الحق، وجعلها تجنح الى السكينة والسلام، وتؤثر عيشة الزهد، ومنعها من سفك الدماء وتقديم الضحايا البشرية، وفتح لها طريق الرقي والمدنية، وهذا عمل عظيم لا يقوم به الاّ شخص اُوتي قوّة، ورجل مثل هذا لجدير بالاحترام والإجلال".
في كتاب (ولأول مرة في تاريخ العالم) للإمام الراحل السيد محمد الشيرازي (رحمه الله) الذي تناول فيه حياة الرسول الأكرم (ص) منذ ولادته ونشأته حتى بعثته فأواخر حياته الشريفة، يعلل الامام الشيرازي سبب هذا التأثير والنجاح فيه بالقول "لأنه لأول مرة في التاريخ وبعد فترة من الرسل ظهرت هذه الحركة الإصلاحية السلمية الشاملة، والإلهية المباركة، بقيادة الرسول الأعظم محمد بن عبد اللّه (ص) وذلك بهذا الشكل الذي لا يزال يتفاعل في النفوس، ويترك أثره الطيب في العالم حتى اليوم".
والمؤلم ان هذه الثروة الإلهية العظيمة التي من الله بها على عباده لم يعد الاقتداء بها بالقول والعمل كالسابق الا ما ندر خصوصاً في وقتنا الراهن، وهو خلاف لتعاليم السماء (لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) الأحزاب: 21، ولعل الأكثر إيلاما هو واقع الامة الاسلامية بالخصوص والمجتمعات الإنسانية على وجه العموم وما أصبحت عليه من تردي وانحدار مستمر نحو القاع في تطبيق معاني الإنسانية والدعوة للسلم ونشر المحبة وثقافة التسامح والعفو ونبذ العنف ورفض تقييد الحريات والاستبداد والفساد.
وما احوجنا اليوم للعودة الى جذورنا الإنسانية التي فطرنا الله عليها (فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ولكن أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) الروم: 30 من خلال رسول الله (ص)، ولنجعل من ميلاده الميمون في (17/ربيع الأول) من كل عام القاعدة التي ننطلق منها نحو الوصول الى التفاعل مع "هذه الحركة الإصلاحية السلمية الشاملة" المحمدية وتطبيقها في كل مفاصل حياتنا اليومية والتي قد تبدأ من الخطوط الأساسية للإصلاح والتي يمكن تلخيصها بـ(7) نقاط رئيسة:
1ـ الحرية الإسلامية: حيث أن الرسول (ص) قام من أجل الحرية وانقاذ الإنسان من الاستعباد الجاهلي، وعن طريق انقاذ الناس من العبودية استطاع الرسول أن ينجح في حركته، وإذا أردنا أن ننقذ العالم الإسلامي فلابدّ لنا أن نجاهد من أجل الحرية.
2ـ الاُمة الإسلامية الواحدة: فبعد أن جمع الرسول المسلمين ووحدهم في إطار أمة واحدة، انطلقت الاُمة الاسلامية فبنت للعالم مجداً حضارياً بقيت الإنسانية تتمتع به طوال قرون عديدة. وإذا أردنا أن ننال المجد ثانية لابد أن نسعى لتحقيق امة اسلامية واحدة.
3 ـ الاخوة الإسلامية: فعندما كانت روح الأخوة هي الحاكمة بين أصحاب الرسول استطاعوا النجاح، فالرسول (ص) ألغى الفوارق بين الغني والفقير، والأبيض والأسود، والعربي والأعجمي، حتى اصبحت الأخوة هي المقياس في فهم العلاقات الاجتماعية، ومن ثم ساروا في الاتجاه المنطقي للحياة، وعلينا إذا أردنا أن نستعيد مجدنا الغابر الرجوع الى الأخوة بمعانيها الصادقة.
4 ـ الشورى: فعندما يساهم الناس بآرائهم في ممارسة الحكم واتخاذ القرار تتفتّح الكفاءات ويرتبط الناس بالحاكم ويستعدون للتعاون معه مثل ما تعاون المسلمون مع الرسول (ص) في صنع مجد الحضارة الإسلامية وإذا أردنا أن نتخلص من مآسينا لابد أن نتخذ الشورى منهاجاً في الحياة.
5 ـ السلم واللاعنف: حيث أن العنف يحطم أهداف الحركة ويلغي مشروعيتها، وينفر الناس منها، بينما السلم يقودها نحو النجاح والتفاف الناس حولها. ولهذا نجح الرسول في بناء دعائم الإسلام وانطلاق حضارته.
6 ـ القانون الإسلامي: فقد بنى الرسول (ص) مجتمعاً متحضراً ومتماسكاً عن طريق تطبيق القوانين الالهية التي تمنح السعادة والاستقرار للمجتمع، فإذا أراد المسلمون أن يتخلصوا من مشاكلهم لابد أن يفهموا هذه القوانين ويسعوا لتطبيقها. قال الله تعالى في كتابه العزيز: (ومن أعرض عن ذكري فإنّ له معيشةً ضنكا).
7 ـ مكارم الأخلاق: فلا يمكن النجاح بالأخلاق السيئة التي تنفر الناس وتبعدهم فقد استطاع الرسول (ص) أن ينجح بأخلاقه العظيمة مثل: العفو عمن ظلمه، سعة صدره، وتحمله للأذى، صبره على المكاره، تشاوره مع اصحابه، حلمه وعدم غضبه، زهده وعدم ترفعه، جلوسه مع المساكين والضعفاء وعدم تكبره عليهم، مداراته للناس واستيعابهم عن طريق صلتهم وحل مشاكلهم وقضاء حوائجهم الى صفات كثيرة ترسم لنا طريق العمل السليم في حياتنا.
باقة عطرة
وأيضا في مولده الذي نحتفل به كل عام يجب علينا التحلي بعدد من الامور التي وجدت في سيرته العطرة:
• طاعته فيما أمر، والانتهاء عمّا نهى عنه.
• معايشته في سيرته والتخلق بأخلاقه في كل حدث من أحداث الحياة، وهو القائل: إنما بعثت لأتمم مكارم –محاسن- صالح الأخلاق... فلنلتزم بأخلاقه، فالاحتفاء الحقيقي يكون بالتخلق بأخلاقه العظيمة.
• الاتحاد تحت رايته والتمسك بوحدة أمته.
• الدعوة إلى منهجه وسنته وسيرته، وإرشاد الناس للخير.
• نصرة المظلوم من أتباع دينه والسائرين على طريقته.
إن هذه القبسات لتمثل مشروعا للإصلاح، وتنظيرا للتغيير الجامع بين الفهم والتطبيق والعلم والعمل لاسيما إذا استقرينا تاريخ الحركات الإصلاحية للأنبياء والأصفياء الذين كانوا هم القادة الحقيقيون للتغيير، وربوا أتباعهم على ذلك بدون فصام نكد بين التجريد والواقع أو بين العلم والعمل.