قصة الجمجمة التي كلَّمتْ
أمير المؤمنين علي (عليه الصلاة والسلام)
*
عَنْ عَمَّارٍ السَّابَاطِيِّ (رَحِمَهُ اللَّهُ) قَالَ :
قَدِمَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) الْمَدَائِنَ فَنَزَلَ بِإِيوَانِ كِسْرَى وَكَانَ مَعَهُ دُلَفُ بْنُ مُجِيرٍ ، فَلَمَّا صَلَّى قَامَ وَقَالَ لِدُلَفَ : قُمْ مَعِي .
وَكَانَ مَعَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ سَابَاطَ ، فَمَا زَالَ يَطُوفُ مَنَازِلَ كِسْرَى وَيَقُولُ لِدُلَفَ :
كَانَ لِكِسْرَى فِي هَذَا الْمَكَانِ كَذَا وَكَذَا .
وَيَقُولُ دُلَفُ : هُوَ وَاللَّهِ كَذَلِكَ .
فَمَا زَالَ كَذَلِكَ حَتَّى طَافَ الْمَوَاضِعَ بِجَمِيعِ مَنْ كَانَ عِنْدَهُ وَدُلَفُ يَقُولُ : يَا سَيِّدِي وَمَوْلَايَ ، كَأَنَّكَ وَضَعْتَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ فِي هَذِهِ الْمَسَاكِنَ ؟
ثُمَّ نَظَرَ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) إِلَى جُمْجُمَةٍ نَخِرَةٍ فَقَالَ لِبَعْضِ أَصْحَابِهِ : خُذْ هَذِهِ الْجُمْجُمَةَ .
ثُمَّ جَاءَ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) إِلَى الْإِيوَانِ وَجَلَسَ فِيهِ وَدَعَا بِطَشْتٍ فِيهِ مَاءٌ فَقَالَ لِلرَّجُلِ : دَعْ هَذِهِ الْجُمْجُمَةَ فِي الطَّشْتِ .
ثُمَّ قَالَ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) : أَقْسَمْتُ عَلَيْكِ يَا جُمْجُمَةُ لَتُخْبِرِينِي مَنْ أَنَا وَمَنْ أَنْتِ .
فَقَالَتِ الْجُمْجُمَةُ بِلِسَانٍ فَصِيحٍ : أَمَّا أَنْتَ فَأَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ وَسَيِّدُ الْوَصِيِّينَ وَإِمَامُ الْمُتَّقِينَ ، وَأَمَّا أَنَا فَعَبْدُ اللَّهِ وَابْنُ أَمَةِ اللَّهِ كِسْرَى أَنُوشِيرَوَانُ .
فَقَالَ لَهُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) : كَيْفَ حَالُكِ ؟
قَالَ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، إِنِّي كُنْتُ مَلِكاً عَادِلًا شَفِيقاً عَلَى الرَّعَايَا رَحِيماً لَا أَرْضَى بِظُلْمٍ ، وَلَكِنْ كُنْتُ عَلَى دِينِ الْمَجُوسِ ، وَقَدْ وُلِدَ مُحَمَّدٌ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) فِي زَمَانِ مُلْكِي فَسَقَطَ مِنْ شُرُفَاتِ قَصْرِي ثَلَاثٌ وَعِشْرُونَ شُرْفَةً لَيْلَةَ وُلِدَ ، فَهَمَمْتُ أَنْ أُومِنَ بِهِ مِنْ كَثْرَةِ مَا سَمِعْتُ مِنَ الزِّيَادَةِ مِنْ أَنْوَاعِ شَرَفِهِ وَفَضْلِهِ وَمَرْتَبَتِهِ وَعِزِّهِ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمِنْ شَرَفِ أَهْلِ بَيْتِهِ ، وَلَكِنِّي تَغَافَلْتُ عَنْ ذَلِكَ وَتَشَاغَلْتُ عَنْهُ فِي الْمُلْكِ ، فَيَا لَهَا مِنْ نِعْمَةٍ وَمَنْزِلَةٍ ذَهَبَتْ مِنِّي حَيْثُ لَمْ أُومِنْ ، فَأَنَا مَحْرُومٌ مِنَ الْجَنَّةِ بِعَدَمِ إِيمَانِي بِهِ ، وَلَكِنِّي مَعَ هَذَا الْكُفْرِ خَلَّصَنِيَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ عَذَابِ النَّارِ بِبَرَكَةِ عَدْلِي وَإِنْصَافِي بَيْنَ الرَّعِيَّةِ ، وَأَنَا فِي النَّارِ وَالنَّارُ مُحَرَّمَةٌ عَلَيَّ ، فَوَا حَسْرَتَى لَوْ آمَنْتُ لَكُنْتُ مَعَكَ يَا سَيِّدَ أَهْلِ بَيْتِ مُحَمَّدٍ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) وَيَا أَمِيرَ أُمَّتِهِ .
فَبَكَى النَّاسُ وَانْصَرَفَ الْقَوْمُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ أَهْلِ سَابَاطَ إِلَى أَهْلِهِمْ وَأَخْبَرُوهُمْ بِمَا كَانَ وَبِمَا جَرَى فَاضْطَرَبُوا وَاخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ .
فَقَالَ الْمُخْلِصُونَ مِنْهُمْ : إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) عَبْدُ اللَّهِ وَوَلِيُّهُ وَوَصِيُّ رَسُولِ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : بَلْ هُوَ النَّبِيُّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : بَلْ هُوَ الرَّبُّ ! وَهُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَبَإٍ وَأَصْحَابُهُ ، وَقَالُوا لَوْ لَا أَنَّهُ الرَّبُّ كَيْفَ يُحْيِي الْمَوْتَى ؟
فَسَمِعَ بِذَلِكَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) وَضَاقَ صَدْرُهُ وَأَحْضَرَهُمْ وَقَالَ : يَا قَوْمِ غَلَبَ عَلَيْكُمُ الشَّيْطَانُ إِنْ أَنَا إِلَّا عَبْدُ اللَّهِ ، أَنْعَمَ عَلَيَّ بِإِمَامَتِهِ وَوَلَايَتِهِ وَوَصِيَّةِ رَسُولِهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) ، فَارْجِعُوا عَنِ الْكُفْرِ . فَأَنَا عَبْدُ اللَّهِ وَابْنُ عَبْدِهِ وَمُحَمَّدٌ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) خَيْرٌ مِنِّي وَهُوَ أَيْضاً عَبْدُ اللَّهِ ، وَإِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ .
فَخَرَجَ بَعْضُهُمْ مِنَ الْكُفْرِ وَبَقِيَ قَوْمٌ عَلَى الْكُفْرِ مَا رَجَعُوا ، فَأَلَحَّ عَلَيْهِمْ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) بِالرَّجُوعِ فَمَا رَجَعُوا فَأَحْرَقَهُمْ بِالنَّارِ وَتَفَرَّقَ مِنْهُمْ قَوْمٌ فِي الْبِلَادِ وَقَالُوا : لَوْ لَا أَنَّ فِيهِ الرُّبُوبِيَّةَ مَا كَانَ أَحْرَقَنَا فِي النَّارِ .
فَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الْخِذْلَانِ .
المصدر : (بحار الأنوار : ج41، ص213. عن الفضائل لابن شاذان.)
*
عَنِ الْمَغْرِبِيِّ (رَحِمَهُ اللَّهُ) قَالَ :
كُنْتُ مَعَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) وَ قَدْ أَرَادَ حَرْبَ مُعَاوِيَةَ ، فَنَظَرَ إِلَى جُمْجُمَةٍ فِي جَانِبِ الْفُرَاتِ وَقَدْ أَتَتْ عَلَيْهَا الْأَزْمِنَةُ ، فَمَرَّ عَلَيْهَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) فَدَعَاهَا فَأَجَابَتْهُ بِالتَّلْبِيَةِ وَتَدَحْرَجَتْ بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَكَلَّمَتْ بِكَلَامٍ فَصِيحٍ فَأَمَرَهَا بِالرُّجُوعِ فَرَجَعَتْ إِلَى مَكَانِهَا ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ حَرْبِ النَّهْرَوَانِ أَبْصَرْنَا جُمْجُمَةً نَخِرَةً بَالِيَةً .
فَقَالَ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) : هَاتُوهَا .
فَحَرَّكَهَا (عَلَيْهِ السَّلَامُ) بِسَوْطِهِ وَقَالَ :
أَخْبِرِينِي مَنْ أَنْتِ ؟ فَقِيرٌ أَمْ غَنِيٌّ ؟ شَقِيٌّ أَمْ سَعِيدٌ ؟ مَلِكٌ أَمْ رَعِيَّةٌ ؟
فَقَالَتْ بِلِسَانٍ فَصِيحٍ : السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، أَنَا كُنْتُ مَلِكاً ظَالِماً وَأَنَا دويز بْنُ هُرْمُزَ مَلِكُ الْمُلُوكِ ، فَمَلِكْتُ مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا سَهْلَهَا وَجَبَلَهَا بَرَّهَا وَبَحْرَهَا ، أَنَا الَّذِي أَخَذْتُ أَلْفَ مَدِينَةٍ فِي الدُّنْيَا وَقَتَلْتُ أَلْفَ مَلِكٍ مِنْ مُلُوكِهَا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، أَنَا الَّذِي بَنَيْتُ خَمْسِينَ مَدِينَةً وَافْتَضَضْتُ خَمْسَمِائَةِ أَلْفِ جَارِيَةٍ بِكْراً ، وَاشْتَرَيْتُ أَلْفَ عَبْدٍ تُرْكِيٍّ وَأَلْفَ أَرْمَنِيٍّ وَأَلْفَ رُومِيٍّ وَأَلْفَ زِنْجِيٍّ ، وَتَزَوَّجْتُ بِسَبْعِينَ مِنْ بَنَاتِ الْمُلُوكِ ، وَمَا مَلِكٌ فِي الْأَرْضِ إِلَّا غَلَبْتُهُ وَظَلَمْتُ أَهْلَهُ ، فَلَمَّا جَاءَنِي مَلَكُ الْمَوْتِ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) قَالَ لِي : (يَا ظَالِمُ يَا طَاغِي خَالَفْتَ الْحَقَّ) . فَتَزَلْزَلَتْ أَعْضَائِي وَارْتَعَدَتْ فَرَائِصِي وَعُرِضَ عَلَيَّ أَهْلُ حَبْسِي فَإِذَا هُمْ سَبْعُونَ أَلْفاً مِنْ أَوْلَادِ الْمُلُوكِ قَدْ شُقُّوا مِنْ حَبْسِي ، فَلَمَّا رَفَعَ مَلَكُ الْمَوْتِ رُوحِي سَكَنَ أَهْلُ الْأَرْضِ مِنْ ظُلْمِي ، فَأَنَا مُعَذَّبٌ فِي النَّارِ أَبَدَ الْآبِدِينَ ، فَوَكَّلَ اللَّهُ بِي سَبْعِينَ أَلْفاً مِنَ الزَّبَانِيَةِ فِي يَدِ كُلٍّ مِنْهُمْ مِرْزَبَةٌ مِنْ نَارٍ لَوْ ضُرِبَتْ بِهَا جِبَالُ الْأَرْضِ لَاحْتَرَقَتِ الْجِبَالُ فَتَدَكْدَكَتْ ، وَكُلَّمَا ضَرَبَنِي الْمَلَكُ بِوَاحِدَةٍ مِنْ تِلْكَ الْمَرَازِيبِ اشْتَعَلَ بِيَ النَّارُ وَأَحْتَرِقُ فَيُحْيِينِي اللَّهُ تَعَالَى وَيُعَذِّبُنِي بِظُلْمِي عَلَى عِبَادِهِ أَبَدَ الْآبِدِينَ ، وَكَذَلِكَ وَكَّلَ اللَّهُ تَعَالَى بِعَدَدِ كُلِّ شَعْرَةٍ فِي بَدَنِي حَيَّةً تَلْسَعُنِي وَعَقْرَباً تَلْدَغُنِي فَتَقُولُ لِيَ الْحَيَّاتُ وَالْعَقَارِبُ : (هَذَا جَزَاءُ ظُلْمِكَ عَلَى عِبَادِهِ) .
ثُمَّ سَكَتَتِ الْجُمْجُمَةُ . فَبَكَى جَمِيعُ عَسْكَرِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) وَ ضَرَبُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ وَقَالُوا :
يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، جَهِلْنَا حَقَّكَ بَعْدَ مَا أَعْلَمَنَا رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) ، وَإِنَّمَا خَسِرْنَا حَقَّنَا وَنَصِيبَنَا فِيكَ وَإِلَّا أَنْتَ مَا يَنْقُصُ مِنْكَ شَيْءٌ ، فَاجْعَلْنَا فِي حِلٍّ مِمَّا فَرَّطْنَا فِيكَ وَرَضِينَا بِغَيْرِكَ عَلَى مُقَامِكَ فَإِنَّا نَادِمُونَ .
فَأَمَرَ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) بِتَغْطِيَةِ الْجُمْجُمَةِ ، فَعِنْدَ ذَلِكَ وَقَفَ مَاءُ النَّهْرَوَانِ مِنَ الْجَرْيِ وَصَعِدَ عَلَى وَجْهِ الْمَاءِ كُلُّ سَمَكٍ وَحَيَوَانٍ كَانَ فِي النَّهَرِ فَتَكَلَّمَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَعَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) وَدَعَا لَهُ وَشَهِدَ لَهُ بِإِمَامَتِهِ ، وَفِي ذَلِكَ يَقُولُ بَعْضُهُمْ :
سَلَامِي عَلَى زَمْزَمَ وَالصَّفَا * * * سَلَامِي عَلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى
لَقَدْ كَلَّمَتْكَ لَدَى النَّهْرَوَانِ * * * نَهَاراً جَمَاجِمُ أَهْلِ الثَّرَى
وَقَدْ بَدَأَتْ لَكَ حِيتَانُهَا * * * تُنَادِيكَ مُذْعِنَةً بِالْوَلَاءِ
المصدر : (بحار الأنوار : ج41، ص215. عن الفضائل لابن شاذان.)